أبو حيان التوحيدي (923–1023) فيلسوف متصوف، وأديب بارع، من أعلام القرن الرابع الهجري، عاش أكثر أيامه في بغداد وإليها ينسب.وقد امتاز أبو حيان بسعة الثقافة وحدة الذكاء وجمال الأسلوب، كما امتازت مؤلفاته بتنوع المادة، وغزارة المحتوى؛ فضلا عما تضمنته من نوادر وإشارات تكشف بجلاء عن الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية للحقبة التي عاشها، وهي -بعد ذلك- مشحونة بآراء المؤلف حول رجال عصره من سياسيين ومفكرين وكتاب.وجدير بالذكر أن ما وصلنا من معلومات عن حياة التوحيدي -بشقيها الشخصي والعام- قليل ومضطرب، وأن الأمر لا يعدو أن يكون ظنا وترجيحا؛ أما اليقين فلا يكاد يتجاوز ما ذكره أبو حيان بنفسه عن نفسه في كتبه ورسائله.ولعل هذا راجع إلى تجاهل أدباء عصر التوحيدي ومؤرخيه له؛ ذلك الموقف الذي تعّجب منه ياقوت الحموي في معجمه الشهير معجم الأدباء (كتاب), مما حدا بالحموي إلى التقاط شذرات من مما ورد في كتب التوحيدي عرضا عن نفسه وتضمينها في ترجمة شغلت عدة صفحات من معجمه ذاك، كما لّقبه بشيخ الصوفية وفيلسوف الأدباء؛ كنوع من رد الاعتبار لهذا العالم الفذ ولو بصورة غير مباشرة
اسمه وكنيته هو علي بن محمد بن العباس التوحيدي البغدادي، كنيته "أبو حيان", وهي كنية غلبت على اسمه فاشتهر بها حتى أن ابن حجر العسقلاني ترجم له في باب الكنى، وأورد اسمه مسبوقا
مولده ووفاته كانت ولادة أبي حيان في بغداد سنة 310 هجرية؛ أما وفاته فكانت في شيراز سنة 414 هجرية وفي هذين التاريخين خلاف؛ والمقطوع به أنه كان حيا سنة 400 هجرية حسب ما تفيد بذلك بعض رسائله.ومما يروى عن بعض أصحاب أبي حيان أنه لما حضرته الوفاة كان بين يديه جماعة من الناس فقال بعضهم لبعض: (اذكروا الله فإن هذا مقام خوف وكل يسعى لهذه الساعة) ثم جعلوا يذكرونه ويعظونه، فرفع أبو حيان رأسه إليهم وقال: (كأني أقدم على جندي أو شرطي !!! إنما أقدم على رب غفور) ومات من ساعته.
] أصله ونسبته
اختلفت الآراء وتعددت حول أصل أبو حيان, فقيل أن أصله من شيراز وقيل من نيسابور ولكن الراجح أنه عربي الأصل [1].وكذلك اختلف في نسبته إلى التوحيد, فقيل سببها أن أباه كان يبيع نوعا من التمر العراقي ببغداد يطلق عليه "التوحيد"" وهو الذي عناه المتنبي حين قال:يترشفن من فمي رشفات ** هن فيه أحلى من التوحيدِوقيل: يحتمل أن يكون نسبة إلى التوحيد الذي هو جوهر دين الإسلام؛ لأنه معتزلي والمعتزلة يلقبون أنفسهم بـأهل العدل والتوحيد وممن مال إلى هذا الرأي ابن حجر العسقلاني نقله عنه جلال الدين السيوطي، وقال ابن خلكان في وفيات الأعيان (كتاب) بأنه لم يقف على هذه النسبة (يعني إلى التوحيد) في شيء من كتب الأنساب العربية.
] نشأته وسماته
في عائلة من عائلات بغداد الفقيرة؛ نشأ أبو حيان يتيما, يعاني شظف العيش ومرارة الحرمان؛ لا سيما بعد رحيل والده, وانتقاله إلى كفالة عمه الذي كان يكره هذا الطفل البائس ويقسو عليه كثيرا.وحين شب أبو حيان عن الطوق، امتهن حرفة الوراقة، ورغم أنها أتاحت لهذا الوراق الشاب التزود بكم هائل من المعرفة جعل منه مثقفا موسوعيا إلا أنها لم ترضِ طموحه ولم تتلّبِ حاجاته، مما جعله يتجه إلى وجهة أخرى، فاتصل بكبار متنفذي عصره من أمثال ابن العميد والصاحب بن عباد والوزير المهلبي غير أنه كان يعود في كل مرة صفر اليدين، خائب الآمال، ناقما على عصره ومجتمعه.هذه الإحباطات الدائمة، والإخفاقات المتواصلة؛ انتهت بهذا العبقري إلى غاية اليأس فأحرق كتبه بعد أن تجاوز التسعين من العمر، وقبل ذلك فّر من مواجهة ظروفه الصعبة إلى أحضان التصوف عساه يجد هنالك بعض العزاء فينعم بالسكينة والهدوء.ولعل السر في ما لاقاه أبو حيان في حياته من عناء وإهمال وفشل يعود إلى طباعه وسماته؛ حيث كان مع ذكائه وعلمه وفصاحته: واسع الطموح، شديد الاعتداد بالنفس، سوداوي المزاج... إلى غير ذلك من صفات وضعت في طريقه المتاعب وحالت دون وصوله إلى ما يريد