خرج الملك في موكب عظيم يتجول في مملكته .. وفي أحد الطرق استوقفه مشهد رجلٍ يجمع بقايا الطعام من إحدى أكوام القمامة .. أشار الملك إلى أحد رجاله وأمره بأن يحضر له الرجل ليستخبر حاله .. فأُتي بالرجل مذعوراً .. طمأنه الملك وهدّأ من روعه ثم سأله عن حاله .. فأخبره الرجل بأنه أبٌ لعددٍ من الأولاد والبنات وأنه لا مصدر دخل له فلا يقدر على شراء الطعام .. لذا فهو يعمد إلى جمع فضلات الطعام من المكبات ... أشفق الملك عليه وعيّنه سائساً لخيله .. فرح الرجل بذلك وعلى الفور أحضر عائلته وانتقل للسكن في قصر الملك.
مرّت الأيام والسائس ينعم في أرغد عيش .. فقد تغير عيش المعدم وأظهرت له الدنيا وجهها الحسن من بعد ضنك العيش .. حتى أتى ذلك اليوم الذي أقبل الملك فيه على السائس يسأله عن أحواله وأهله وعمله .. ثم أخذ الملك يتفقد أحوال الخيل حتى وصل إلى أحبّ خيله إليه وأعزّهم لديه .. فسأله الملك: " ما رأيك في هذا الجواد؟ " .. فأجاب السائس: " إنه جواد جميل .. قلّما تصادف مثله .. إلاّ أن فيه عيبا واحدا" .. تغيّر وجه الملك وسأله متعجباً: " وما هو؟ " .. أجاب السائس: " هذا الجواد أرضعته بقرة " .. صُدم الملك لجواب السائس فخرج لا ينطق جواباً وعلى الفور أمر باستدعاء التاجر الذي أهداه هذا الجواد .. فسأله الملك: " أخبرني عن الجواد الذي أهديتني إياه " .. أجاب التاجر: " إنه جواد أصيل .. وما كنت لأجد أحدا أولى به من الملك تطيب نفسي بإهدائه إليه " .. ردّ الملك: " أصدقني عن الجواد وإلا فلن ترى الخير " .. أحس التاجر بغضب الملك فآثر الصدق : " أيّها الملك .. لقد ماتت أمّ هذا الجواد أثناء ولادته .. وكانت عندي بقرة فوضعته تحتها .. فربي معها يرضع منها وتحنو عليه كأنه صغيرها ".
تبيّن الملك صدق السائس وعزم على الإمعان في اختباره .. فاستدعاه في اليوم التالي وسأله عن صقره .. أجاب السائس: " إنه صقر قويّ سريع مدرّب أحسن التدريب .. إلا أن أمه دجاجة " .. انتفض الملك غضبا قائلا: " ماذا؟ .. أمدرك أنت لما تقول " .. وأمر باستدعاء مدرّب الصقر .. واستنطقه بشأن الصقر .. فأقرّ المدرب بأنه وجد بيضة صقر في أحد أعشاش الصقور .. وأنه أخذها ووضعها وسط بيض ترقد عليه دجاجته .. حتى فقست البيضة وخرج منها الصقر .. فعلّمه ودرّبه حتى غدا صيّاداً بارعاً لا يفلت منه طيرٌ في السماء .. فأهداه للملك.
استشاط الملك غضبا وعزم على الإيقاع بسائسه .. فاستدعاه لقصره ثم أمره أن يسوس له زوجته .. ذُهل السائس لأمر الملك إلا أنه لم يكن له بدّ .. نظر السائس إلى زوجة الملك ثم قال له - على انفراد: " إن الملكة يا سيدي من أجمل نساء المملكة .. إن لم تكن الأجمل " .. نظر إليه الملك بحدّة ثم قال له : " ليس عن هذا سألتك .. أريدك أن تخبرني بأصلها " .. ابتلع السائس ريقه بصعوبة وسأل الملك الأمان فأجابه الملك إلى ذلك إن صدقه .. فقال: " سيدي الملك .. إنها غجرية " .. نزل الجواب كالصاعقة على الملك .. فذهب من فوره إلى أصهاره .. وتوعدهم إن لم يصدقوه عن ابنتهم .. فبينوا له حقيقة الأمر .. وأن قوما من الغجر نزلوا بمدينتهم ثم ارتحلوا بعد مدة وخلّفوا وراءهم طفلة صغيرة نسوها في غمرة رحيلهم .. فتعهدوها حتى كبرت وأصبحت أجمل نساء المدينة .. فلم يجدوا أحدا خيرا من الملك يتزوجها.
رجع الملك إلى سائسه وصدره يتقدّ .. وأمره هذه المرة أن يسوسه ويعرف أصله .. أدرك السائس أن هذه النهاية وأنه ميت لا محالة إن لم يصدق الملك القول .. فرفض الإجابة قبل أن يؤمّنه الملك .. حينها أجاب: " سيّدي الملك .. أعظم ملوك الأرض .. غير أنك لست من صلب الملك الراحل !! " .. اسودت الدنيا في عينيّ الملك وأطبق السكون فلم يكن يرى أو يسمع ما يدور حوله .. استجمع ما تبقى من وعيه ومضى إلى أمه .. وضع السيف على رقبتها وهدّدها بالقتل إن لم تصدقه .. انهارت أم الملك وشرعت في البكاء .. تستعطفه وتستلينه وتقسم له بأنها أمه وأنه ابن الملك الراحل .. غير أنه لم يعبأ بتوسلاتها ولا باستعطافها .. فلمّا يئست منه صارحته بالحقيقة الصادمة .. فالملك السابق لم يكن ينجب وخاف أن يضيع ملكه فطلب من زوجته أن تواقع أحد أعوانه ثم لمّا تبيّن حملها أمر بقتل هذا الشخص.
اعتزل الملك حاشيته ورجاله وأخذ يسترجع ذكرياته .. أيام سعادته وهنائه قبل أن يصادف وجه النحس الذي قلب حياته رأساً على عقب .. وجعل أحبّ الأشياء لديه مصدراً لتعاسته .. هنا أضمر الملك الشرّ بالسائس وعزم بصدق على قتله .. فخرج من عزلته وأمر أن يؤتى بالسائس إليه .. فلمّا أُحضر رمى السائس بنفسه على قدميّ الملك يتمسح بنعليه ويسأله أن يعفو عنه لا لأجله ولكن لأجل أولاده .. لم يعبأ الملك بتوسلات السائس إلا أنه وضعه تحت اختبار نتيجته حتمية وهي موت السائس لا محالة .. أشار الملك إلى ثلاث جرار بجواره وأمر السائس أن يخمن ما بداخلها فإن أخطأ قتله .. أدرك السائس أنه ميّت لا محالة وأن لا أمل في نجاته .. فكيف له أن يعلم ما بداخل هذه الجرار وهو الذي لا يعرف أصلاً أصول السَوس .. فكل ما أخبر به الملك من قبل ما هي إلا تخمينات وتكهنات تصادف أنها كانت صادقةً جميعُها !!
طلب السائس من الملك طلباً أخيراً بأن يودّع أبناءه قبل الرحيل .. أجابه الملك إلى طلبه على مضض .. ولمّا اجتمع السائس ببنيه قال لهم على مسمعٍ من الملك - ملخّصاً مراحل حياتهم معاً والدموع تترقرق في عينيه: " يا أولادي .. الأولى زفت .. والثانية عسل .. والثالثة قطران " .. يقصد أن عيشهم كان ضنكاً (زفت) ثم غمرتهم النعم (عسل) والآن انقلب الحال إلى فراق وموت (قطران - زفت مُسال).
ظنّ الملك أنّ السائس يتحدث عن الجرارالتي كانت مملموءة بالفعل كما قال .. زفت وعسل وقطران .. فلم يكن أمامه إلا يعفو عن السائس كما وعد - على غير رغبةٍ منه .. وأمر بطرده وأهله من القصر والمدينة.