النتائج 1 إلى 2 من 2
الموضوع:

الرجل الميت

الزوار من محركات البحث: 8 المشاهدات : 308 الردود: 1
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    صديق نشيط
    تاريخ التسجيل: March-2015
    الدولة: ميسان
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 361 المواضيع: 226
    صوتيات: 1 سوالف عراقية: 27
    التقييم: 233
    مزاجي: متقلب
    المهنة: طالب جامعي
    أكلتي المفضلة: fish
    موبايلي: not3
    آخر نشاط: 20/July/2019
    مقالات المدونة: 2

    الرجل الميت

    جد أبي مرة جثة رجل غريب طافية على شاطئ النيل قبالة منزلنا من ناحية اليسار. كانت الجثة واهنة ومتحللة وهناك ثقوب في البطن وفي الظهر والأفدح من ذلك أن الأنف والشفتين كانتا مفقودتين كلية بفعل ما يبدو وكأنه اعتداء أسماك أو كائنات نيلية صغيرة على جسد الغريق، مما جعل الناس الذين تدافعوا من القرى المجاورة إلى حيث الجنازة يتفحصون جسد الغريق بأعينهم المذعورة كثيرا خشية أن يكون أحدا منهم أو شخصا ما يعرفونه فلا يستطيعون الوثوق من شيء. تحلق الرجال بجلابيبهم البيضاء حول الجثة من كل ناحية وصوب ومن خلفهم النسوة يبكين الميت في ذعر بين دون أن يتأكدن من هويته وكان الأطفال يتسللون في تلقائية من بين المناكب المتدافعة إلى حيث مكان جثة الرجل الغريب الميت. كان مشهدا مهولا من الفوضى والرعب.

    لقد وصل الخبر في لمح البصر إلى كل مكان في البلدة وإلى البلدات المجاورة وربما أبعد من ذلك بكثير. كان الخبر يزحف ناحية الصعيد "الجنوب"، ناحية تيار الماء الذي جاء بالجثة إلى هنا. إلى حيث منزلنا بجزيرة أم أرضة. ظن كل الناس وجزموا أن الغريق قادم من الصعيد، إنه الاحتمال الذي يشبه وقائع الطبيعة ليس إلا! فليس من المستبعد أن يكون الغريق ذهب إلى الصعيد بمركب شراعية وعاد محمولا على تيار الماء ناحية أهله في السافل "الشمال" بعد أن تسببت كارثة ما في غرقه. ربما انتحر، قتل نفسه عمدا، لا أحد يستطيع أن يجزم بشيء ما أي كان!.

    قفل الناس راجعون من حيث أتوا في سرعة البرق يتفقدون ذويهم ويعلنون خبر الجثة التي جاء بها أبي إلى منزلنا ووضعها على طاولة خشبية كبيرة في صحن الدار بعد أن غطاها بعمامته البيضاء في انتظار ما تسفر عنه الأنباء.

    بعد يوم كامل من البحث في كل أرجاء القرى المجاورة تبين جليا أن الغريق ليس من هنا. ليس من البلدة ولا البلدات المجاورة. إنه رجل غريب. في حوالي الأربعين من عمره. الأمر الوحيد الذي استطاعه أبي هو تقدير عمر الغريق من تمام أسنانه وتناسقها وبياضها. كان من المستحيل تحديد أي هوية محتملة للرجل الغريب الميت. لا أحد يستطيع تخمين قبيلته أو عرقه كون أهم محددات الهوية العرقية مفقودة وهما الأنف والشفتين. كما أن لا أحدا يستطيع أن يتعرف على دين الرجل أو أخلاقه كون ذاك أمرا غير مستطاع.

    والأدهى من ذلك كله قيل أن أحد الرجال الموتورين شك في أن الرجل الميت ربما كان من رهط الأعداء القبليين، فقالها علانية في وقاحة تضاد أي وقار محتمل لمثل تلك اللحظات العصيبة " هذه السحنة من سحنات قاتلي أبناء عمومتنا في الصعيد". فانقسم القوم تجاه شكه يعلنون موافقتهم أو رفضهم بغير كلمات، فقط صدرت همهمات كثيرة متشابكة يصعب تحديد مصدرها أو معناها على وجه الدقة.

    ليس ذاك فحسب، لقد جالت برؤوس القوم الكثير من الخواطر "ربما كان كافرا أو نصرانياً، هناك شعائر مختلفة تجب في حقه"، "ربما كان مجرماً، لصاً أو قاتلاً محترفا" أو "ربما اتهمنا أهله بقتله وطلبوا الثأر". كانت الظنون والشكوك والهواجس تزحم المكان. ولكن بين الفينة والأخرى تتجلى مسافة زمنية صغيرة شاغرة تشع عندها حالة من الصمت الظاهري في لباس الخشوع، حالة هدوء يكذبها صخب الدواخل ولجاجة الضمائر. إنه هدوء مفروض قسراً بواسطة سلطان الموت الجبار.

    على أي حال كل تلك الظنون والتخمينات ليست عبطاً أو بلا معنى! فعلى أساسها سيتحدد عمليا "أين سيقبر الرجل الغريب الميت وكيف ومتى". المقابر مقسمة على أساس قبلي (عرقي) صارم وديني غير قابلين للجدل. لا توجد مقابر خاصة بالأغراب أو البشر الميتين غير محددي الهوية. تلك كانت أول حالة تواجه الناس في البلدة. دار جدال ساخن بين رجال البلد حول سؤال " مكان دفن جثة الرجل الغريب!".. كان جله جدلا عقيما وبلا جدوى:
    "أن يدفن جسد الرجل الغريب الميت مثله وأهل البلد فيغسل ويكفن وفق النظام المتبع في العادة، غير ممكن، أن ترجع الجثة إلى مكانها الذي أتت منه خلسة فيحملها تيار الماء إلى شأنها، غير متفق عليه، أن يتم إبلاغ السلطات الرسمية "الحكومية" ويترك لها حق التصرف في الجثة، غير محتمل، كون الحكومة لا تكترث بالأحياء فما بالك بالموتى".

    لقد عطب خيال القوم!.

    أخيرا حسم أبي الأمر. كان رجلا حكيماً ويتمتع بخواص نادرة. أمر الجميع بالذهاب وترك الجثة له وحده "تلك هي لقيتي التي لقيت، أنا أتبنى هذا الرجل الغريب وأعتبره جزءاً لا يتجزأ من أهلي وأسرتي وليس له علاقة بكم ولا بمقابركم". فانفض القوم بعد بعض لأي جديد. وعند منتصف تلك الليلة وعلى ضوء القمر الخافت الحزين كفن أبي الجثة وصلى عليها وحده سراً، فقط كانت هناك امرأة واحدة تبكي بغير دموع ولا صوت تقف بجانبه تعاونه في مهمته الحتمية، تلك المرأة هي أمي، ثم دفن أبي جثة الرجل الغريب في العراء بالقرب من بيتنا حوالي مائتي متر شرقي الدار وصنع فوق القبر كتلة من الجالوص وغرز يمين القبر ويساره عصا صغيرة من أعواد السنط. وظل أبي لسنوات عديدة لاحقة ومن حين إلى آخر يذهب إلى قبر الرجل الغريب الميت يقف أمامه يرفع يديه إلى السماء راجيا له الرحمة ومتمنيا لروحه السلام. كان يفعل ذلك بصورة دؤوبة حتى رحل بدوره إلى العالم الآخر.

    وظللنا أنا وأمي بدورنا نفعل مثله كلما تحين الفرص وربما حتى نرحل مثلما رحلا "الرجل الغريب الميت وأبي". كما شرع كثير من الناس الآخرين يجيئون إلى القبر بغرض التحية على روح الرجل الغريب الميت. يبدو أن الرجل الغريب الميت ظل يفرض نفسه على الواقع كلما مر الوقت. لقد قبله الآن كل الناس الذين رفضوه في البدء كأحدهم، ولو أسكنوه في قبره وحيداً في وحشته الأبدية، وكأنهم الآن يكفرون عن خطيئة ما! ثم رويداً رويداً أصبح "الرجل الغريب الميت" جزءاً لا يتجزأ من وقائع الطبيعة العادية واليومية كما جزءاً أصيلاً من ألغازها العديدة.

  2. #2
    عضوة سابقة
    تاريخ التسجيل: September-2014
    الدولة: Baghdad
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 4,701 المواضيع: 141
    التقييم: 2832
    مزاجي: متفاءلة دائماً ان شاء الله
    المهنة: Searching
    أكلتي المفضلة: كل الاكلات هي نعمة من الله
    مقالات المدونة: 1
    جميلة و مضمنة معاني راقية ،جزيت خيرا اخي في الله

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال