في أمثالنا يقولون "منين ما يميل يغرف" أو " منين ما تميل يغرف" , ومعناه أنه إنسان لا تعنيه إلا مصلحته الشخصية وحسب , فقد يتغير في لمحة بصر من موقف لآخر من أجل الحصول على ما يرضيه من الحاجات.
وكلنا يعرف أن الأقلام هي التي ساهمت في صناعة ويلاتنا المتنوعة , لأنها تكتب بحبر " منين ما تميل يغرف"!
ولهذا السلوك تأثيره المأساوي على الأمم والشعوب , ومن الصعب أن تجد أقلاما كأقلامنا في مجتمعات وأمم الدنيا الأخرى.
ولا تقرأ في تراثها وثقافتها المعاصرة مديحا وتزلفا ونفاقا مثلما نقرأه عندنا.
وهو سلوك متوارث عبر الأجيال , فلم يبتكر الشاعر الجاهلي المعروف كعب بن زهير شعر المديح , وإنما أخذه عن الذين قبله بمئات السنين وأكثر , ومضى على سنته جميع الشعراء في العصور التي أعقبته.
فمعظم تراثنا الثقافي مديح وتمجيد وتأليه للآخر , الذي يرضي حاجاتنا الشخصية الأنانية المرحلية الضيقة.
ودواووين الشعراء المعروفين محتشدة بقصائد المديح والهجاء , وهذان الإتجاهان قد أسهما في صناعة السلوك الذي أوصلنا إلى قاع الوجود الحضاري المعاصر.
وبسبب ذلك نحن مهرة وخبراء في صناعة الطغاة والمستبدين , ونستحلبهم حتى الجفاف ونحولهم إلى قتلة ومجرمين وخونة ومنكرين.
تلك مأساة سلوكية لا مثيل لها في الدنيا المعاصرة.
فلو راجعنا صحف زمنهم لوجدناها تحشد بالتمجيد والتأليه والتعظيم , وكأننا لا وجود لنا إلا بهم , فترى الأقلام بأنواعها تكتب بذات المفردات , وترقص على ذات الأنغام , لآخر لحظة في حياتهم.
وما أن تتبدل الأوضاع حتى تجد ذات الأقلام قد أخذت تكتب بمفردات الزمن الجديد , وتبرر خطاياها وآثامها أجمعين.
فالطغاة والمستبدون مولودون من رحم مجتمعاتهم , و "الإناء ينضح بما فيه" , وكل ما يتحقق في المجتمع هو من صنعه , في أي زمان ومكان.
فما جرى عندنا في القرن العشرين هو من صنعنا , وما يجري اليوم في ديارنا من صنعنا.
فمشاكلنا وويلاتنا ليست "مصنوعة في الصين" , وإنما مصنوعة في أوطاننا , وبآلاتنا ومصانعنا وموادنا الأولية الخالصة , وكأننا لا نعرف إلا صناعتها!
فلماذا لا نراجع أنفسنا بجرأة وشجاعة وتبصّر , بدلا من العزف على أوتار "السابق" و"البائد" وغيرها من مفردات التعمية والتجهيل والتضليل , التي تساهم في إعادة ذات الكرة وإستمرار الدوران في ذات الحلقة المفرغة التي دارت فيها الأجيال السابقة.
علينا أن نعترف بالخلل الحضاري المروّع الذي نتداوله ما بين جيل وجيل.
ولا بد من صحوة جيل ونهضته من وعثاء الرؤى والمفاهيم التي تتحكم بالسلوك الجمعي.
فما يجري اليوم في واقعنا هو ذاته الذي تحقق على مر العقود السابقات , لأن آليات الفهم والإدراك بقيت على حالها , وتتواصل في الإسهام بصناعة الصورة المأساوية السائدة.
فهل سيجلب القرن الحادي والعشرين خيرا لنا , وما تغيّرت آليات إدراكنا الجمعية؟!!