كنتُ أستقلُّ إحدَى وَسائِل المواصلات كعادتي، وكان من حظِّي هذه المرَّة أنْ أجلِسَ بجوار السائق، وكانتْ ملامحه تدلُّ على الطِّيبة والخُلُق الحسَن، بعكسِ ما يتمتَّع به - عادةً - أصحابُ هذه المهنة من الحدَّة والشدَّة والقَسوة في بعض الأَحيان، بل في أحيانٍ كثيرةٍ؛ حيث تجدهم يَجلِسون خلفَ عجلةِ القِيادة، وكأنهم في حلبة سِباق سيَّارات، يُسرِعون في السَّير ويتلوَّى بالطَّرِيق كالثُّعبان، يُرِيد أنْ يلتَهِم الذي أمامَه من البشر، ويَتوقَّفون فجأةً؛ بحيث تَسمَع صوت المكابح وهي تَصرُخ بل تتألَّم.
وشعرتُ به أنَّه يُرِيد أنْ يتحدَّث معي، فيبدو أنَّ مَلامِحي تدلُّ على أنَّني مستمعٌ جيد، أو مُنصتٌ جيد، فوجدته يوجِّه لي الحديثَ قائِلاً: هل تعرف؟ فسكتُّ برهةً، ثم تردَّدتُ هل أسأله: أعرف ماذا؟! ولكنِّي فضَّلتُ الصَّمت والسُّكون، ثم قال: أنا أُطبِّق "نظريَّة الهدوء" دائِمًا!
ثم سكت عن الكَلام المباح، وأنا لا أعرف هل كان يُوجِّه الحديث إليَّ، أم يتحدَّث مع نفسه، أو يُحدِّث إنسانًا آخَر؟ فانتَظرتُ أن يُكمِل حديثَه، أو أَنزِل في المكان الذي أقصده، وأذهب إلى حال سبيلي.
ثم تنهَّد قائلاً: لم تسألني كيف؟ وأردَفَ دون أنْ أتلفَّظ بكلمةٍ واحدةٍ، وقال: سأشرح لك: أنا أَسِيرُ بسيَّارتي بهدوءٍ، فأُحافِظ عليها في حالةٍ جيِّدة؛ أي: إنَّني أُحافِظ على الموتور بحالةٍ سليمة ولا أُرهِقه بحيث يَطُولُ عمره، وفي الوقت نَفسِه أُحافِظُ على أعصابي من التوتُّر والقلق؛ بحيث لا تنتابني العصبيَّة ويرتَفِع الضغط عندي، وأيضًا لعلَّ الذي يجري بسيَّارته مُسرِعًا لن يستَطِيع أنْ يلتَقِط أحد الرُّكَّاب لسرعته، فيكون من نصيبي أنا وآخُذُه بهدوئي!
فتعجَّبتُ من حكمةِ ذلك السائق، والذي يبدو عليه أنَّه لم يحظَ بنصيبٍ وافرٍ من التعليم، إلاَّ أنَّ الدنيا قد هرسَتْه ودهسَتْه بين تُرُوسِها، فتعلَّم تلك النَّصيحة الغاليَة، وقد صبَغَها بصبغته، وأسماها بـ"نظريَّة الهدوء"، وسعيدٌ كلَّ السعادة بها، ويُطبِّقها بقناعةٍ وإيمانٍ وحُبٍّ، وكما تقول الأمثال: "في التأنِّي السلامة، وفى العجَلَة الندامة".
وتذكَّرت الأمر الرباني: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200] إنَّه الصبر والمُصابَرة، والمُرابَطة والاستِمرار، والثَّبات الموصول بيقينٍ راسخ في الله - عز وجل -: (وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].
ويكون هذا الفَلاح في صُورَة طمأنينة في القلوب، وسكينة في النُّفوس، وثَبات في الأقدام، ووضوح في الحجَّة والبرهان في هذه الحياة الدنيا، فاللهم لك الحمدُ كلُّه، ولك الملكُ كلُّه، وبيدك الخيرُ كلُّه، وإليك يَرجِع الأمرُ كلُّه، علانيته وسرُّه، وآخِر دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين.