بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته

هناك نماذج من البشرية في كل جيل تقتات التكلم والادّعاء، وتفرح بالمدح والاطراء وحبّ الظهور..
هذه النماذج يرسمها التعبير القرآني في لمسة أدبية تربوية رائعة، تختزن في جوهرها عمق المنهج القرآني الذي يتناول تربية الشخصية الإسلامية، ومن ثم إنشاء المجتمع الإسلامي المنشود.. فإذا ملامح هذا التعبير القرآني واضحة للعيان، قريبة للأذهان وصالحة التطبيق في كل زمان، وتلك طريقة القرآن الحكيم، كما في قوله تعالى:
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (آل عمران/ 188).
وصف تعالى هؤلاء القوم بأنهم يفرحون بأعمالهم الصغيرة، ويحبون – أيضاً أن يحمدوا بما لم يفعلوا.. والمفسّرون ذكروا فيه وجوهاً:
الوجه الأول: إن هؤلاء هم اليهود الذين يحرّفون نصوص التوراة ويفسّرونها تفسيرات باطلة، ويروّجونها على عموم الناس، ويفرحون بهذا الصنع، ثم يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل الدين والعفاف، وأهل العلم والقيادة، وأهل التنظير والتدبير.
إنّ هذه الحالة إحساس بالشعور بالنقص، ومحاولة التغطية عليه بحالة من حالات الزهو والخيلاء، ومرتبة من مراتب الكبرياء، وهذا لا ينطبق على اليهود فقط، وإنما أحوال أكثر الخلق كذلك، فإنهم يأتون بجميع وجوه الحيل لتحصيل منازل معينة في الدار الدنيا، ويفرحون بوجدان مطلوبهم، ثم إنهم لا يكتفون بالفرح فحسب وإنما يحبون أن يحمدوا بأنهم أهل العلم والدين، والتنظير والتدبير.
الوجه الثاني: إن الآية نزلت في المنافقين، فإنهم يفرحون بما أتوا من إظهار الإيمان للمسلمين على سبيل النفاق، من حيث انهم كانوا يتوصلون بذلك إلى تحصيل مصالحهم في الدنيا، ثم كانوا يتوقّعون من النبي (ص) أن يحمدهم على الإيمان الذي ما كان موجوداً في قلوبهم.

واعلم أن الأولى أن يحمل على كل الوجوه، لأن جميع هذه الأمور المذكورة، مشتركة في قدر واحد، وهو أن الإنسان يأتي بالفعل الصغير والذي من الطبيعي فعله، ولا ينبغي مدحه والثناء عليه، ثم يأخذه الاعجاب بنفسه وبقابلياته ومواهبه.. ويفرح بها. ثم يتوقع من الناس ويأمل منهم أن يصفوه بسداد السيرة، وجمال التنظير، واستقامة الطريقة، وإذا لم يحصل ما كان يتوقع من مدح وثناء فإنه يتألم كثيراً، ويحقد على العمل والعاملين جميعهم..
· قال الإمام عليّ (ع): "من مدحك بما ليس فيك، فهو خليق أن يذمك بما ليس فيك".
· وقال (ع): "إياك أن تُثني على أحد بما ليس فيه، فإن فعله يصدق وصفه ويكذبك".
· ومن كتاب أمير المؤمنين (ع) للأشتر: "..الصق بأهل الورع والصدق، ثم رضّهم على ألاّ يطروك، ولا يبحجوك بباطل لم تفعله، فإن كثرة الإطراء تحدث الزهو، وتدني من العزّة".
· وقال الإمام الصادق (ع): "لا يصير العبد عبداً خالصاً لله عز وجل حتى يصير المدح والذم عنده سواء، لأن الممدوح عند الله عز وجل لا يصير مذموماً بذمّهم، وكذلك المذموم، فلا تفرح بمدح أحد، فإنه لا يزيد في منزلتك عند الله، ولا يغنيك عن المحكوم لك، والمقدور عليك، ولا تحزن أيضاً بذم أحد فإنه لا ينقص عنك به ذرّة...".
· وقال الإمام علي (ع): "عجبت لمن يقال إن فيه الشرّ الذي يعلم أنه فيه كيف يسخط!!، وعجبت لمن يوصف بالخير الذي يعلم أنه ليس فيه كيف يرضى!!".
إن هذه الآية الآنفة على عمومها مبينة لشيء من الثمن الذي استبدلوه بكتاب الله، وكونه بئس الثمن، وهو أمران:
الأمر الأول: فرحهم بما أتوه من الأعمال فرح غرور وخيلاء وفخر على أن منه نبذ كتاب الله بترك العمل به، وعدم تبيينه على وجهه الصحيح، إما بتحريفه عن مواضعه ليوافق أهواء الحكام، أو أهواء الناس، وإما بالسكوت عنه والأخذ بكلام العلماء السابقين تقليداً بغير حجة إلاّ ادّعاء أنهم كانوا أعلم بالكتاب، وأنهم وإن خالفوا بعض نصوصه فلا بد أن يكون عندهم دليل أوجب عليهم ذلك.
وفي هذا الخصوص قال الإمام علي (ع): "ينبغي أن يكون التفاخر بعلى الهمم والوفاء بالذمم، والمبالغة في الكرم، لا ببوالي الرمم، ورذائل الشيم".

الأمر الثاني: حب المدح والثناء بالباطل، فإنهم يتبعون أهواء الحكام والناس في الدين، ويحبون أن يحمدوا بأنهم يبينون الحق لوجه الله لا تأخذهم فيه لومة لائم، فإن الحاكم أو غير الحاكم إذا احتاج إلى عمل يرضي به هواه وشهوته مما يحظره عليه الدين، يلجأ إلى واعظ من وعاظ السلاطين ليعلّمه حيلة شرعية يسلم بها من نقد الناقدين وذم المتدينين، ويحاول بعدها أن يحسّن صورة ذلك الواعظ أمام الناس ليعتقدوا فيه العلم والصلاح في فتواه ورأيه، ليأخذوا كلامه بالقبول!
إن طلبة حب الجاه، وحب الرئاسة، وحب التسلّط، وحب الدنيا من المؤمنين ما زالوا يستفيدون من الدين بمساعدة بعض رجالة المتسامحين، أو ممن يلتبس عليهم الأمر، على اضاعة حقوق الأمّة وإذلالها لهم، ليتمتعوا بلذة حلم حب الرئاسة ونعيمها، ويفرحون بما أتوا من ضروب المكائد السياسية والاجتماعية، والتأويلات الدينية، التي ترفع قدرهم، وتخضع العامة لهم، ويحبون أن يحمدوا دائماً بأنهم أنصار الدين وحماته ومبيّنو الشرع ودعاته، وإن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتوجهوا إلى كتب من يرضي طموحهم ويحقق آمالهم، وكانت الأمّة المستضعفة المحرومة المقهورة.. لا تزداد كل يوم إلاّ شقاء بهم، حتى أصبحوا مبتلين بعزتهم وكرامتهم، ويرفرف الرعب والخوف على رؤوسهم.
ثم آل الأمر إلى أن ضعف سلطان التقوى أمام سلطان حب الجاه وحب المال، فصار كثير من رجال الدين وطلبة علومه هم الذين يتهافتون على أبواب الأمر والساطين، فيقرَّب المنافقون، ويُبعَّد المتقون، وتكون مراتب الآخرين على نسبة قربهم منهم.


فإن حب الحمد غريزة من أقوى غرائز البشر التي تنهض بالهمم وتحفز العزائم إلى الأعمال العظيمة النافعة، رغبة في اقتطاف ثمار الثناء عليها.. حتى قيل: "إذا مدحت فاختصر، وإذا ذممت فاقتصر".

· وقد سئل الإمام الصادق (ع): يجوز أن يزكي الرجل نفسه؟ قال: "نعم إذا اضطر إليه، أما سمعت قول يوسف (ع): (.. اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) (يوسف/ 55)، وقول العبد الصالح: (.. أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف/ 68).

ولو لا أن حب المحمدة بالحق على العمل النافع، من غرائز الفطرة التي يستعان بها على التربية العالية، لما قيّد الله تعالى الوعيد على حب الحمد بقوله:
(بما لم يفعلوا) فبهذا القيد يدل على أن حب الثناء على العمل النافع غير مذموم، ولا متوعد عليه، وهذا هو الذي يليق بدين الفطرة.
بل جاء في الكتاب الحكيم ما يدل على مدح هذه الغريزة بقوله تعالى لنبيّه (ص): (ورفعنا لك ذكرك). نعم إن هناك مرتبة أعلى من مرتبة مَن يعمل الحسنات ليحمد عليها، وهي مرتبة من يعملها حباً بالخير لذاته، وتقرباً به إلى الله تعالى.
على أن المدح بالحق أيضاً لا يخلو في بعض الأحوال من ضرر في الممدوح كالغرور والعجب، وفتور الهمة عن الثبات والمواظبة على العمل الذي حمد عليه وهذا هو سبب النهي عن المدح.

وقال الإمام علي (ع): "أيها الناس، إعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه".
إن الفرح بالعمل من شأن المغرورين، وليس المراد به هنا ارتياح نفس العامل.. وهو ما نبّه عليه القرآن في فائدة المصائب التي تصيب المؤمنين بقوله عز وجل:
(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (الحديد/ 23)، ومنه قوله تعالى: (.. إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) (القصص/ 76).
وقال الإمام علي (ع): "ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه، ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه".
وهذا الافراط في الفرح بالنعمة الذي يكون من الضعفاء يقابله عندهم المبالغة في الحزن في المصيبة، إلى أن يقع المصاب في اليأس والكفر!!
وقد بيّن تعالى حال الفريقين بقوله:
(وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) (هود/ 9-11).
ولما كان هذا هو شأن أصحاب هذا النوع من الفرح – فرح البطر والغرور – كان مما يتبع ذلك تبع المعلول للعلة، والمسبب للسبب، ترك الشكر على النعمة باستعمالها فيما ينفع الناس، بل يستعملونها فيما يسرّهم ويمتّعهم بلذاتهم ونعيمهم فيكون ذلك مهلكة للأمّة كما قال تعالى في أقوام هذا
شأنهم: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) (الأنعام/ 44).
ولا يعارض ذلك قوله تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (يونس/ 58)،
لأن السرور والنعمة مع تذكر أنها فضل من الله لا يحدث بطراً ولا غروراً وإنما يحدث شكراً وإحساناً في العمل.
أن الذين يفرحون بأعمالهم فرح بطر واختيال وغرور يكونون مستحقين للوعيد بالعذاب، وإن كانت أعمالهم التي بطروا وفخروا واغتروا بها.. من الأعمال الحسنة، لأن بعض الأعمال الحسنة قد تكون لها عواقب رديئة، وبعض الأعمال السيئة قد تكون لها عاقبة حسنة، وفي هذا قال ابن عطاء في
حكمه: "ربّ معصية أورثت ذلاً وانكساراً، خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً".
ويؤيد هذا المعنى
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون/ 60).
تقدم: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ
) (المؤمنون/ 61). بخلاف الذين يفرحون بما أتوا من عمل، وما أتوا من صدقة فرح عجب وخيلاء، فإنه يغلب عليهم الرياء وحب الثناء والسمعة فيكسلون عن العمل، ولا يواظبون عليه.
هذا شأن العمل في الدين، ومثله العمل في الدنيا وللدنيا، كما يفيدنا البحث في أحوال الأمم والشعوب، فإن الذين استولى عليهم الغرور يفرحون ويبطرون بكل عمل يعملونه، ويرون أنه منتهى الكمال، فلا تنشط هممهم إلى طلب المزيد والمسارعة في الخيرات، ولا يقبلون الانتقاد على التقصير، ويتضايقون من التنبيه على عمل الخطأ، فإذا تدبرت ما قلناه في هاتين الصفتين الذميمتين: فرح البطر والغرور والفخر بالأعمال، الذي يدعو إلى الكسل والاهمال، وحب المحمدة الباطلة، والقناعة بالثناء الكاذب.. إذا تدبرت هذا فقهت سر الوعيد الشديد، بتعذيب الأمّة المتصفة بهما مرتين، واحدة في الدنيا، وواحدة في الآخرة، وهو المراد بقوله عز وجل: (فلا تحسبنهم بمفارة من العذاب) أي لا تظن يا محمد أو أيها المخاطب أنهم بمنجاة من العذاب الدنيوي
(أي متلبسون بالفوز والنجاة منه) وهو العذاب الذي يصيب الأمم التي فسدت أخلاقها، وساءت أعمالها، وكابرت الحق والعدل، وألفت الفساد والظلم والانحراف..
وهو على قسمين: عذاب هو أثر طبيعي اجتماعي للحال التي يكون عليها المبطلون، بحسب سنة الله في الاجتماع البشري، وهو خذلان أهل الباطل وانكسارهم، وتمكينهم من رقابهم وديارهم وأموالهم وأمورهم ليحل الاصلاح محل الفسادن والعدل مكان الظلم كما في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (هود/ 102).
وعذاب لا يكون أثراً طبيعياً بل يسمى سخطاً سماوياً، كالزلازل والخسف والطوفان.. وغير ذلك من الأمور والأحداث المدمرة التي نزلت ببعض أقوام الأنبياء الذين كفروا بهم وكذبوهم وآذوهم، فكان الله يوفق بين أسباب ذلك العذاب المعتادة، وأقدارها فينزلها بالقوم عند اشتداد عتوهم وإيذائهم لرسوله، فيكونون من الهالكين.
ثم قال جلّ وعلا: (.. ولهم عذاب أليم...) أي في الآخرة، فإن فساد أخلاقهم الفاسدة، وفرحهم وبطرهم وصغارهم بما لهم من حب الحمد الكاذب بالباطل، جعل نفوسهم مظلمة دنسة فهي التي تهبط بهم إلى الهاوية حيث يلاقون ذلك العذاب المؤلم.
وأخيراً قال الإمام الباقر (ع): "الإيمان إقرار وعمل، والإسلام إقرار بلا عمل" (تحف العقول، ص217).