لقد اهتم الإسلام بموضوع العفاف والأخلاق العامة ، وكافح كل انحطاط خلقي بأبعاده المختلفة ، ومع إنه شرّع عقوبات معينة لمن يخالف التكاليف المتعلقة بالعفاف إلا إن اللجوء إلى القوة وحدها لا يكفي لاقتلاع جذور الفساد ، ولا يحدُّ من الأعمال المخلّة بالآداب ، ولا تُرجى نتيجة مُرْضِية من العقاب وحده ، وإنما يستوجب اتّباع عدة أساليب كإشاعة الثقافة الإسلامية ، وتعليم الآداب والأخلاق العامة ، واتباع السبل الصحيحة في القضايا العاطفية ؛ لذا فقد أقرَّ الإسلام سلسلة من التدابير لتهدئة الغريزة الجنسية للحيلولة دون الوقوع في الإثم وإلى جانب هذه الأمور يكون العقاب لردع المنحرفين عن الطريق السوي .
من أكثر السور القرآنية التي تناولت القضايا التي تدور حول العفاف والأخلاق العامة ، والعلاقات بين الجنسين ، والحجاب ، وغيرها من المسائل المتعلقة بهذا الموضوع الحيوي والمهم هي (سورة النور) ، ومن تلك القضايا التي تناولتها السورة المباركة ، وشرحت خصائصها هي الاستئذان للدخول إلى الغرفة المخصصة للزوجين مما يدل على عدم إغفال الإسلام لأي من هذه التفاصيل التي لها علاقة بمسألة العفاف والشرف .
- وجوب الاستئذان في أوقات معينة:
قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة النور آية 58
المخاطب في الآية هم أولياء الأطفال ؛ لأن الأطفال لم يبلغوا بعد سن التكليف لتشملهم الواجبات الشرعية ، فعلى أولياء الأمور أن يعلّموهم هذه الأصول ، ويأمروهم بالاستئذان ، فالخطاب للكبار تكليف ، وللصغار تمرين ، ومع إن الخطاب للرجال ظاهراً ؛ لأن كلمة ( الذين ) تستخدم لجمع المذكر السالم ولكنّه من باب التغليب ، فلا يمنع من أن يكون مفهوم الآية عاماً فيدخل فيه النساء ، فعبارة : ( يا أيها الذين آمنوا ) استعملت في كثير من الخطابات القرآنية وقصد بها المجموع ، كما في آية وجوب الصوم : ( يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم ) سورة البقرة آية 83 ، فكما إن الأمر الشرعي بالصيام يعمّ الجميع ففي هذه الآية يعمهم أيضاً ، بل إن الرازي يقول في تفسيره : ( الحكم يثبت للنساء بقياس جليّ لأنّهنّ في الحفظ أشدّ حالاً من الرجال ) .
لماذا اختصّت هذه الأوقات الثلاثة دون غيرها ؟
حددت الآية الكريمة ثلاث أوقات يجب فيها على الخدم والأطفال الاستئذان قبل الدخول إلى غرف الأزواج : ( ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ ) ، وقد وُصِفت هذه الأوقات بأنها ( عورة ) ، والعورة مشتقة من ( العار) ، أي : العيب وأطلق العرب الكلمة على العضو الخاص في جسم الإنسان ؛ لأن الكشف عنه عار ، كما تعني العورة الشق الذي في الجدار أو الثوب ، وأحيانا تعني العيب بشكل عام .
وإطلاق كلمة ( العورة ) على هذه الأوقات الثلاثة ؛ لأنه وقت الراحة ، والقيلولة ، وحيث يكون الناس عادة متجردين من الملابس الإضافية التي يرتدونها في الأوقات الأخرى ، وقد يختلي الزوج بزوجته .
ولابد من القول بأن هذه الآية تتحدث عن أطفال مميزين يعرفون القضايا الجنسية ، ويعلمون ماذا تعني العورة ؛ لهذا أمرتهم بالاستئذان عند الدخول إلى غرفة الوالدين ، وهم يدركون سبب هذا الاستئذان ، وجاءت عبارة ( ثلاث عورات ) شاهداً آخر على هذا المعنى .
ولكن هل عبارة ( الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) تختص بالعبيد الذكور فقط أو يشمل الإماء والجواري أيضاً ؟
هناك أحاديث مختلفة في هذا المجال منها ما روي عن زرارة عن أبي عبد الله ( عليه السلام ) في قوله تعالى : (الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) ، قال : (هي خاصة في الرجال دون النساء ) قلت : فالنساء يستأذن في هذه الثلاث ساعات ؟ قال : (لا ، ولكن يدخلن ويخرجن ) ، ولكن يمكن ترجيح الأحاديث التي تؤيد ظاهر الآية أي شمولها الغلمان والجواري وفي الوقت الحاضر حيث لا يوجد رقّ فنستطيع القول التكليف يشمل الخدم من الرجال والنساء .
الاستئذان بعد هذه الأوقات:
تختتم الآية بالقول : ( ليسَ عليكُمْ ولا عليهِمْ جُناحٌ بعدهنَّ طوّافونَ عليكُمْ بعضُكُمْ على بعضٍ ) فهذا المقطع من الآية جواب على سؤال مقدّر محذوف تقديره : وما حكم الأوقات الأخرى سوى هذه الأوقات ؟ الجواب ليس عليكم ولا عليهم جناح أي لا حرج ولا إثم عليكم وعليهم إذا دخلوا بدون استئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة لزوال سبب الاستئذان وهو احتمال انكشاف العورة .
كما إن عبارة ( طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ ) تعليل لعدم الاستئذان فيما عدا الأوقات الثلاثة ، فالأطفال محتاجون إلى ذويهم ، وحياة الخدم ممتزجة ، وشديدة التعلق مع مخدوميهم مما يجعل الاستئذان أمراً ملزماً للحرج فلا يعقل أن يستأذنوا كلما دخلوا ؛ لذا نجد أن كلمة ( طوّافون ) - المشتقة من ( الطواف ) بمعنى الدوران حول شيء ما - جاءت بصيغة مبالغة لتأكيد تعدد مرات الطواف ، وعبارة : ( بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) تدل على أن الطواف شامل لكلا الطرفين وحركة الطرف الأول مرتبطة بحركة الطرف الثاني .
خصوصية الزمان والمكان:
الحكم السابق يتعلق بالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم حيث يجب عليهم استئذان الوالدين في الأوقات الثلاثة فقط ؛ لأن هذه الأوقات تتميز بالخصوصية الشديدة التي لا يجوز اقتحامها من قبل الآخرين مهما كانت درجة الامتزاج والتعلق بين حياة أولئك الأطفال مع حياة والديهم .
كما نستشفّ من أجواء الآية أن الحكم يختصّ بالمكان المخصص لاستراحة الوالدين أما إذا كانا في غرفة عامة يجلس فيها آخرون أيضاً ، فلا حاجة حينئذ للاستئذان .
حكم الاستئذان بالنسبة للبالغين:
(وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) النور آية 59
كلمة ( الحلم ) أما بمعنى العقل فهي كناية عن البلوغ الذي يعد متزامناً مع طفرة عقلية وفكرية يدخل فيها الإنسان مرحلة جديدة في حياته أو بمعنى الرؤيا فهي كناية عن احتلام الشباب حين البلوغ ، وعلى كل حال يستفاد من الآية السابقة أن الحكم بالنسبة للبالغين يختلف عنه بالنسبة للأطفال غير البالغين ؛ لأن أولئك يجب عليهم استئذان الوالدين في الأوقات الثلاثة فقط ، وأباح لهم الدخول في غيرها من الأوقات ؛ لأن حياتهم قد امتزجت مع حياة والديهم بدرجة يستحيل بها الاستئذان كل مرة ، وكما إنهم لم يعرفوا المشاعر الجنسية بعد أما البالغون فهم مكلفون بالاستئذان حين الدخول على الوالدين في الأوقات جميعها .
وهناك روايات وردت في تفسير الآيتين السابقتين منها ما ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) قال : (يستأذن الذين ملكت أيمانكم ، والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات كما أمركم الله عز وجل ومن بلغ الحلم فلا يلج على أمه ، ولا على أخته ، ولا على خالته ، ولا على سوى ذلك إلا بإذن ، فلا تأذنوا حتى يسلم ، والسلام طاعة لله عز وجل ) .
تدل هذه الرواية على ضرورة حفظ خصوصية الآخرين مهما كانت درجة القرابة معهم فلا يحق لأحد اقتحام غرفهم الخاصة إلا بإذنهم ، فلعلهم في وضع لا يحبون أن يطلع عليهم أحد .
فلسفة الاستئذان والمفاسد المترتبة على عدم الالتزام به:
يبين الحكم السابق ضرورة تعليم أولياء الأمور أطفالهم وخدمهم أدب الاستئذان وهو نوع من الأدب الإسلامي الرفيع ، ولكن الملاحظ في مجتمعاتنا قلّة الالتزام به مع الأسف الشديد رغم بيان القرآن ذلك بصراحة ، ورغم إن ظاهر الآية يوجب هذا الحكم ، وحتى لو اعتبرناه مستحباً فإنه ينبغي الحديث عنه باهتمام ، وبحث جزئياته ، والالتزام به وتطبيقه ، ولا يُعرف سبب إهمال هذا الحكم القرآني الحاسم والتساهل الذي يصل حد التفريط ، فنجد غرف الوالدين ومخادعهم الزوجية مباحة لجميع أفراد العائلة صغاراً وكباراً ،وفي الأوقات كلها ، ورغم تصور بعض السذج بأن الأطفال لا يدركون شيئاً من هذه الأمور ، وأن خدم البيت لا يهتمون بها ، فإن الثابت هو حساسية الأطفال بالنسبة لهذه القضية فكيف بالنسبة للكبار ؟ وقد يؤدي رؤية الأطفال لمشاهد ممنوعة إلى إيقاظ المشاعر الجنسية الدفينة في قبل أوانها وبالتالي انحرافهم خلقياً ، وأحياناً تؤدي إلى إصابتهم بأمراض نفسية كل ذلك بسبب الأثر الذي زرعه في نفوسهم إهمال الوالدين ، وعدم حيطتهم في بعض تصرفاتهم .
من هنا تتضح لنا قيمة وأهمية هذا الحكم الإسلامي الذي جاء به الإسلام قبل أربعة عشر قرناً بينما بلغه العلماء المعاصرون في عهد قريب وهنا نجد لزاماً علينا توصية الآباء والأمهات بالجدية في الحياة الزوجية ، وتعليم أولادهم الاستئذان حين الدخول إلى غرفتهما ، واجتناب كل عمل قد يثير الأولاد ويحرّك غرائزهم الدفينة قبل الأوان .
المصادر :
1- القرآن الكريم
2- كنز العرفان في فقه القرآن / المقداد السيوري
3- زبدة التفاسير / الملا فتح الله الكاشاني
4- تفسير الميزان / السيد الطباطبائي
5- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي
خديجة أحمد موسى
المصدر
من هنا