Sunday 29 April 2012
مكوك الفضاء في الثقافة الأميركية
بعد انتصارات 30 سنة.. وداعاً «ديسكفري»
صباح الثلاثاء في واشنطن كان ربيعيا رائعا، شمس ساطعة، ونسمة خفيفة، وحرارة معتدلة، شجع سكان العاصمة الأميركية، واشنطن، للخروج إلى الميادين العامة، وخصوصا «مول»، الميدان العملاق الذي يمتد من مبنى الكونغرس في الشرق إلى تمثال أبراهام لنكولن في الغرب، مارا بالبيت الأبيض، ونصب جورج واشنطن التذكاري. وكان هناك سبب آخر، وهو إعلان وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) أن مكوك الفضاء «ديسكفري»، أول مكوك فضاء، سيصل إلى واشنطن، في آخر رحلة من رحلات استمرت 30 سنة، ليستقر في مقره الأخير في واحد من مجموعة متاحف «سميثونيان» في واشنطن.لكن لم يأت المكوك من آخر رحلة في الفضاء. هذه كانت قبل سنتين، عندما قضى في الفضاء 14 يوما، ثم هبط نهائيا في مركز كيندي للفضاء (ولاية فلوريدا). ويوم الثلاثاء «حلق» مرة أخرى، ولكن على ظهر طائرة «747» عملاقة، نقلته من فلوريدا إلى واشنطن.
وتعمدت «ناسا» أن يكون يوم آخر رحلة لأول مكوك ذكرى في أذهان الأميركيين (وغيرهم) ربما مثل يوم سير أول رائد فضاء أميركي على سطح القمر. وربما في هذا سلوى للعاملين في «ناسا»، لأن الحكومة الأميركية، بسبب الأزمة الاقتصادية، خفضت ميزانيتها كثيرا. واضطرت «ناسا» لتغير برامجها لاكتشاف الفضاء، وتنهي تكنولوجيا المكوك، وتخطط لتكنولوجيا جديدة.
لهذا، قبيل هبوط المكوك المحمول في مطار دالاس (في ضواحي واشنطن)، حلق فوق واشنطن، وخصوصا فوق ميدان «مول»، لساعة تقريبا، كانت الأعناق ترتفع إلى السماء في دهشة وفرح. وإذا كان غير الأميركيين (وربما بعض الأميركيين أنفسهم) يقولون إن الأميركيين يبالغون في الحماس والوطنية، فلا أحد يقدر على قول ذلك وهو يشاهد هؤلاء الذين ارتفعت أعناقهم إلى السماء. وربما سبب ذلك هو أن الفخر هذه المرة كان بسبب انتصار علمي، وليس بسبب غزو دول دولا أخرى واحتلالها.
وكان في ميدان «مول» بريان فاستاج، مراسل صحيفة «واشنطن بوست»، وكتب: «مثل عرض فني في الفضاء». وقالت ميغان غوردن، وكانت خرجت من مكتبها في وزارة التجارة القريبة: «ليضع كل واحد كاميرته وتليفونه في جيبه، ويتأمل. فقط يتأمل». وبكت مارلين بوغايار، سائحة جاءت إلى واشنطن من ولاية أوكلاهوما، وهي تقول: «يقف شعر رأسي، لا أقدر على التعبير عن إحساسي». بينما ذكرت كاثي كنتار، ومعها ابنها سام، وعمره 9 سنوات، أنه يريد أن يكون رائد فضاء. وأيضا، بكت ميليسا غونغستاين، التي تعمل في مبنى بلدية واشنطن، وهي تقول: «لا أصدق. آخر رحلات المكوك!». وبكت أيضا مارثا تافت وهي تكرر: «واو، واو، واو».
وغير الحشود في ميدان «مول»، كانت هناك حشود أخرى في مطار دالاس، بالقرب من متحف «أدفار هيزي» الجوي والفضائي، وفيه طائرات، وصواريخ فضاء، وسفن فضاء. وكان فيه مجسم لمكوك فضاء، أخرج مؤخرا ليحل محله المكوك الحقيقي «ديسكفري».
وتذكر كثير من كبار السن أنهم شاهدوا في التلفزيون، قبل 30 سنة، إقلاع «ديسكفوري»، أول مكوك في أول رحلة، من قاعدة كيندي الفضائية في ولاية فلوريدا. وها هو «ديسكفوري» يأتي إلى مرقده الأخير أمام أعينهم.
ويحق أن يفتخر «ديسكفوري» بنفسه، ويفتخر به الأميركيون. خلال 30 سنة تقريبا، قام بـ40 رحلة فضائية. وقطع ما جملته 150 مليون ميل. وطاف حول الأرض 6 آلاف مرة. وقضى في الفضاء ما جملته سنة كاملة.
وجاء الاسم من سفينة جيمس كوك، البريطاني الذي اكتشف جزر المحيط الهادي في القرن الثامن عشر. وسفينة المهاجرين البريطانيين الأوائل إلى الدنيا الجديدة الذين أسسوا أول مستعمرة في جيمس تاون (ولاية فرجينيا) في القرن السابع عشر. وسفينة البريطاني روبرت سكوت، الذي عبر القطب المتجمد الشمالي في بداية القرن العشرين.
من أهم إنجازات «ديسكفوري» نقل «هابل»، أكبر تليسكوب في التاريخ، إلى الفضاء سنة 1990. ثم زيارته 3 مرات لإجراء إصلاحات ووضع أجهزة إلكترونية متطورة. وقبل ذلك، في سنة 1988، عندما احترق مكوك الفضاء «تشالنجر» وقتل كل الرواد بداخله بعد لحظات من إقلاعه، ساد التشاؤم في «ناسا». لكن، كان إقلاع «ديسكفري» بنجاح بعد الكارثة مصدر فخر وتفاؤل. وفي سنة 2003، ساد تشاؤم مماثل عندما احترق مكوك الفضاء «كولومبيا» وهو يهم بالهبوط، وأيضا قتل كل رواد الفضاء فيه. ومرة أخرى، عادوا إلى «ديسكفوري» ليقوم برحلة ناجحة أعادت التفاؤل.
وفي سنة 1998، حمل «ديسكفوري» الطيار الجوي العسكري جون ماكين (في وقت لاحق، السيناتور)، أول رائد فضاء أميركي. حمله في الذكرى الخامسة والعشرين لأول جولة في الفضاء يقوم بها أميركي.
في ذلك الوقت، كانت «فرندشب» (صداقة) التي لا تحمل غير شخص واحد، وفي حجم سيارة صغيرة، هي أكبر سفينة فضاء. وكان صاروخ «ميركاري» الذي نقلها أكبر صاروخ فضاء. وكان الصاروخ يرسل السفينة الصغيرة إلى الفضاء، ويحترق هو، وعندما يحين وقت عودة السفينة، تهبط بمظلة في المحيط حيث كانت تنتظرها السفن لتلتقطها.
بعد «فرندشب» الصغيرة للدوران حول الأرض، جاءت سفن «أبوللو» العملاقة للوصول إلى القمر.
ومثل الاختراعات الأميركية الرئيسية، انعكس اختراع مكوك الفضاء على الثقافة الأميركي، مثل: ثقافة السيارة، وثقافة الطائرة، وثقافة الوصول إلى القمر. وخلال العشرين سنة الماضية شهدت روعة سفن «أبوللو»، قبل روعة المكوك، ظهر فيلم «هيوستن.. عندنا مشكلة» (سنة 1974)، اعتمد الفيلم على حادث حقيقي، عندما كادت «أبوللو» تنفجر في الفضاء، أو تتجه إلى مسار لا عودة منه.
ثم جاء فيلم «أبوللو 13»، وهو وثائقي عما حدث حقيقة، وليس خيالا. وكان كتاب «أبوللو المفقود» صدر قبل ذلك بسنوات، وكتبه الذين كانوا داخل السفينة، ومثل فيه الدور الرئيسي توم هانكز، وجاء فيلم «من الأرض إلى القمر» أيضا اعتمادا على الكتاب.
وحتى قبل مرحلة المكوك وقبل «ديسكفري»، مثل جيمس بوند فيلم «مونراكر» (جوال القمر)، عن وصوله إلى القمر، ليس في «أبوللو»، ولكن في مكوك فضاء خيالي، هبط على سطح القمر، ثم أقلع وعاد إلى الأرض. وأيضا، قبل «ديسكفري»، ظهرت لعبة إلكترونية «رحلة إلى الفضاء»، عن رحلة خيالية بطائرة تهبط وتقلع وكأنها طائرة عادية. وقبل 3 سنوات من إقلاع «ديسكفوري»، أقبل الأميركيون على قراءة رواية خيالية، «المكوك المحلي».
وخلال العشرين سنة التالية، بعد أن صار المكوك عاديا، أبدعت هوليوود في تصوير أشكال وألوان له. صور فيلم «إرماغدون» (يوم القيامة) في سنة 1998، أسطول مكوك يحمل الناس إلى الفضاء الخارجي بعد أن ضرب كوكب الأرض مذنب فضائي دمره، وأحرق كل من فيه.
وفي سنة 2000، مثل كلينت إيستوود، فيلم «كاوبوي الفضاء»، وهو يتنقل من كوكب إلى كوكب داخل مكوك. وفي سنة 2003، صور فيلم «كور» (الجوهر) زلزالا في باطن الأرض حال دون هبوط مكوك فضاء. وفي سنة 2004، جاء مخرج أفلام هندي إلى أميركا، وصور فيلم «شولا»، عن رائد فضاء هندي كان في المكوك «كولومبيا» الذي احترق قبل ذلك بسنوات.
وفي مجال أدب الأطفال، لا حدود لقصص وألعاب ورسوم مكوك الفضاء. وتصور قصة «مكوكي الخاص» كل طفل وقد اشترى له والده مكوك فضاء، ليتجول وسط النجوم والأقمار والشموس. أما لعبة «أوديسي»، فهي مسابقة إلكترونية عن احتراق كل كوكب الأرض، والتنافس وسط المشتركين في اللعبة لدخول آخر مكوك يغادر الأرض إلى الفضاء الخارجي.
وفي متحف الفضاء في واشنطن، واحد من مجموعة متاحف «سميثونيان»، بقايا رحلات المكوك الناجحة والفاشلة. وبعد النجاح في الوصول إلى بقايا السفينة «تايتانيك» في قاع المحيط الأطلسي، يحاول منتجون وأثرياء ومغامرون الوصول إلى بقايا مكوك الفضاء «تشالنجر» الذي احترق سنة 1988.