من فلسفة العقوبات
مسألة: سبق أن قانون العقوبات في الإسلام ـ سواء في المرور وغيره ـ وضع لأجل أمور ذكرنا بعضها، ونشير إلى بعضها الآخر، وهو:

وقاية الفرد والمجتمع من الإجرام ومن آثاره السيئة في إطار العقيدة.
لا يقال: إن البلاد المسماة بالحرة لا تهتم بالعقيدة، وإنما همها عدم وقوع الجرم، فهو بنظر العقل أقرب.
لأنه يقال: أما الجرائم الإنسانية كالقتل والسرقة، والاغتصاب والاصطدام، وما أشبه، فهما فيه سواء.
وأما الجرائم المرتبطة بالعقيدة والشريعة مثل شرب الخمر أو الزنا برضا الجانبين أو ما أشبه، فتلك البلاد ينتقض عليهم: بأنهم سلبوا كثيراً من حريات الناس في قبال إعطائهم هذه الحريات، بينما الإسلام أعطى كثيراً من الحريات في قبال سلبه هذه الحريات المزعومة.
مضافاً إلى أن إعطاء هذه الحريات توجب الفساد الكثير كما حقق في مظانها، فإن الخمر توجب الأمراض، والزنا يوجب الفوضى في العوائل والاضطراب في الحياة الأسرية، مما يسبب كثرة العوانس، وزيادة العزّاب والعازبات، وهو إيلام على الجانبين، فالإسلام أعطى حريات معقولة، بينما الغرب عمل بعكس ذلك.
العقاب لا يتجاوز صاحبه
مسألة: إن عقوبات الإسلام مطلقاً ـ في المرور وغيره ـ خاصة بنفس المجرم، ولا تتعدى إلى غيره أبداً.
قال الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها، ولا تزر وازرة وزر أخرى)(1).
وقال سبحانه عن لسان نبيه يوسف(ع): (معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده إنا إذاً لظالمون)(2).
وفي الخبر: أن امرأة حامل أمر عمر برجمها لأنها كانت قد زنت وثبت جرمها، فاعترض عليه الإمام أمير المؤمنين (ع) بأنها لو كانت هي المذنبة، فما ذنب الجنين الذي في بطنها، فأمر برفع الحد عنها حتى تلد وترضعه وتحتضنه، وبعد الحضانة عندما يكبر الطفل، يجرى الحد عليها(3).
الجاهل القاصر لا يعاقب
مسألة: لا يعاقب الجاهل القاصر مطلقاً، سواء كان في قوانين المرور أم في غيره، بينما القانون الوضعي لا يهتم بالجهل والعلم مع أن الجاهل القاصر معذور عقلاً.
قال الله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً)(4).
وقال سبحانه: (لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها)(5).
لا عقاب لهؤلاء
مسألة: لا عقاب على المكره، أو المجبور، أو المضطر، فيما أكره، وأجبر، واضطر إليه مطلقاً، سواء في مسائل المرور أم في غيرها، بينما القانون الوضعي لم يفتح لهؤلاء حساباً خاصاً، ولم يعبأ بعذرهم.
ثم إن الفرق بين المجبور والمضطر أن الأول يساق إلى الجريمة، بينما الثاني يفعل بنفسه الجريمة لكن اضطراراً.
قال الله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان)(6).
وقال سبحانه: (وقد فصل لكم ما حرّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه)(7).
وقال عز وجل: (فمن اضطّر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه)(8).
وقال رسول الله(ص): «رفع عن أمتي تسعة أشياء: الخطأ، والنسيان، وما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه، والحسد، والطيرة، والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة»(9).
المستثنون من العقاب
مسألة: الصغير والمجنون والسفيه مستثنون من العقاب، وهذا مشترك بين الإسلام وغيره إجمالاً، مع اختلاف بينهما في حد الصغر.
ومقتضى القاعدة استثناء السكران أيضاً إلا إذا سكر بقصد الإتيان بالجريمة، وفيه كلام ذكرناه في الفقه.
قانونية العقوبات
مسألة: عقوبات الجرائم مطلقاً في المرور وغيره يجب أن تدخل تحت القوانين الشرعية لا أن تكون حسب أهواء الحكام ومشتهياتهم.
قال الله تعالى: (فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا)(10).
وقال سبحانه: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس)(11).
وقال عز وجل: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً)(12).
وقال تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه)(13).
وقال سبحانه: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله)(14).
وقال تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله)(15).
وقال سبحانه: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى)(16).
وقال تعالى: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم)(17).
وقال سبحانه: (وكذّبوا واتبعوا أهواءهم)(18).
وقال تعالى: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه)(19).
من وظائف الدولة
مسألة: يلزم كشف الجريمة، وتعقيب المجرم، والوقاية عن وقوع الجريمة، وهذه أمور أقرها الإسلام وأمر بها في إطار إنساني نظيف، كما أنها مقررة أيضاً ولو بنسبة فيما تسمى بالبلاد الحرة، من غير فرق بين جرائم المرور وغيرها.
ولعل من أهم عوامل الوقاية عن وقوع الجرائم هو: زهد الحكام وعدلهم.
أما عدلهم فيؤمن المظلوم الخائف، ويصدّ الظالمين عن التعدي والظلم، فإن العدل كما في الأحاديث أساس الملك، وإنه بالعدل قامت السماوات والأرض.
وأما زهدهم فيوفّر المال على الشعب ويرفعهم عن مزالق الفقر ومداحضه، حيث إن أكثر الجرائم وأغلبها ينتج عن الفقر، وعن عدم توفّر لقمة العيش للجميع، فإن الفقر كما في الروايات كاد أن يكون كفراً(20) وإنه سواد الوجه في الدارين(21) وإنه من لا معاش له لا معاد له.
تساوي قانون العقوبات
مسألة: قوانين العقوبات مطلقاً، سواء عقوبات جرائم المرور أم غيرها، متساوية بالنسبة إلى الجميع إلا فيما استثني، فإن بعض الناس لهم نصف العذاب على ما جاء وصفهم وحكمهم في القرآن الحكيم، وألمعنا الإشارة إليه سابقاً، كما أنه يختلف الزاني المحصن وغير المحصن، وإلى غير ذلك من موارد الاستثناء مما هو مذكور في الفقه، وإلاّ فالأصل التساوي في قانون العقوبات.
كيفية ثبوت الجرم
مسألة: لا تثبت الجريمة مطلقاً، سواء جريمة المرور أم غير المرور، إلا بالموازين المقررة في الإسلام، مثل البينة العادلة، وشهادة أربعة رجال عدول، والإقرار مرة أو مرتين أو أربع مرات كل في مورده، إقراراً بطواعية ورغبة، ومن دون أي إكراه أو إرعاب، أو تخويف أو تعذيب، فإن الإقرار إذا لم يكن عن طواعية ورغبة كان باطلاً شرعاً، ولم يترتب عليه أثر.
لا يقال: لولا الإكراه والتعذيب لم يقر أحد بجرمه.
لأنه يقال:
أولاً: إن الإكراه والتعذيب يتنافى مع كرامة الإنسان وحريته التي أقرها الإسلام له.
وثانياً: هناك طرق لكشف الجريمة واعتراف المجرم برغبته ومن دون أيّ إكراه وتعذيب، يعرفها المتضلعون في علوم القضاء وعلم النفس، ومطالعة كتب قضاء الإمام أمير المؤمنين (ع) خير دليل على ذلك.
هذا ولا حق لأحد في إعمال خلاف الإرادة بالنسبة إلى أحد، إلا لحكام الشرع إجمالاً، وذلك حسب ما يقرر في الفقه من موارد الاستثناء.
بين حق الله وحق الناس
مسألة: إذا كانت العقوبة على جريمة تابعة لنقض حق من حقوق الله، فإن الفقيه الجامع للشرائط يتمكن من تخفيفها أو رفعها، وأما إذا كانت تابعة لنقض حق من حقوق الناس، وكان ذلك الحق من الحقوق الاصطلاحية، فالإنسان المجني عليه له أن يعفو عن جميعها أو بعضها، وكذلك حال وليه أو وكيله في ذلك، كولي المقتول حيث له أن يعفو عن القصاص كلاً، وعن الدية كلاً، أو يأخذ بعض الدية مثلاً، أو يصالح عليها بشيء آخر.
قال الله عز وجل: (وأن تعفوا أقرب للتقوى)(22).
وقال الله تعالى: (وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم)(23).
وقال الله سبحانه: (وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم)(24).
المعادلة بين الحقوق
مسألة: من الضروري المعادلة بين حقوق المجتمع، وحقوق المجرم، وحقوق أسرته، فإن الزيادة والنقيصة في أحدها خبال وخلاف العقل والشرع، قال سبحانه: (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط)(25).
وقال تعالى: (قل أمر ربي بالقسط)(26).
فإن من حق المجتمع أن يعيش في أمن وسلام، ورفاه واستقرار، وهذا يقتضي أن ينال المجرم جزاءه، حتى يعتبر هو في المستقبل، ويعتبر غيره ممن تسوّل له نفسه الجريمة ويقلع عنها، فيعيش المجتمع آمناً مستقراً.
ومن حق المجرم بما أنه إنسان مهما كان، أن لا يضاف إلى عقابه المقرر شيء آخر، وقد ضرب قنبر إنساناً سوطاً زائداً فأخذ الإمام أمير المؤمنين (ع) السوط وضربه قصاصاً سوطاً بسوط(27).
ومن حق أسرة المجرم أن لا يُشمت بهم ولا يُعيّرون بذلك، فإنهم ينالهم ـ طبيعياً ـ شيء من عقاب المجرم كسوء السمعة ـ مثلاً ـ ابناً كان المجرم أو أباً، أخاً كان أو أختاً، بنتاً كانت أو سائر الأقرباء، بل ينال الأصدقاء والجيران والمنطقة بعض رذاذ عقاب المجرم، حيث يرون أنفسهم منكسي الرأس أمام المجتمع إذا سرق أبوهم ـ مثلاً ـ أو زنا ابنهم، أو ما أشبه ذلك.
فاللازم مراعاة هؤلاء أيضاً، وعدم تضييع حقوقهم، أو تعييرهم أو الشماتة بهم.
وحيث انه لا يمكن في الدنيا القضاء بصورة لا ينال شيئاً منه غير المجرم حتى في هذه الحيثيات، اضطر إليه وإن كان فيه هذه الأمور الجانبية، من باب الأهم والمهم، إضافة إلى أن ذلك من سنن الكون سلباً وإيجاباً، فإن الإنسان الطيب مفخرة لذويه ومن أشبه.
نعم في الآخرة عدالة محضة، فلا عقاب إلا للمجرم بقدر ما يستحقه ولا يصيب شيئاً من جانبياته أحداً غيره، ولذا ورد في الدعاء (يا من عند الميزان قضاؤه)(28) أي: أن القضاء الكامل العادل من جميع الجهات إنما يكون عند الميزان، لأنه يلاحظ هناك كل الشؤون النفسية والجنائية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها.
أما الحدود الأعم من القصاص والتعزير بأقسامه المقررة في الإسلام فلا معدل عنها، وأما غيرهـــا مما بيـــد الفقهاء فاللازم مراعاة هـــذه الجوانب الـــثلاثة فيها، وقد ذكرنا في كتاب (الفقه: الدولة)(29) بعض ما يرتبط بحقوق السجناء وما إلى ذلك(30).
مصادر القوانين الجزائية
مسألة: مصادر أحكام العقوبات والقوانين الجزائية مطلقاً من مرور وغير مرور، كغيرها من القوانين الأخرى، عندنا نحن الشيعة هي الأدلة الأربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وذلك حسب استنباط الفقهاء العدول مقيداً بالشورى في رئاسة الدولة كما ذكرناه في جملة من كتبنا.
وأما عند العامة فهم في الغالب أضافوا إليها ثلاثة مصادر أخرى هي: القياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة.
فالأول: عبارة عن تشبيه شيء لم يرد فيه حكم، بشيء ورد فيه حكم، بتعدي الحكم من فرع إلى فرع آخر.
والثاني: عبارة عن ما لا قياس فيه، لكن الفقيه يستحسن أن يكون حكمه كذا.
والثالث: عبارة عن مصلحة للأمة لم يرد فيها دليل من فعل النبي (ص) أو قوله أو تقريره، أو أحد صحابته عندهم، فإنهم يرون حجية قول الصحابة أيضاً لما رووه عنه(ص) من قوله: (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) لكن هذا الحديث عندنا فيه نظر سنداً ومضموناً والصحيح هو قوله(ص): (أهل بيتي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)(31) كما ورد في كتبهم أيضاً.
وعلى أي: فإذا لم يكن هناك أصل يقاس عليه، ولا أن الفقيه استحسن أن يكون حكمه كذا، فإن هنا يأتي موضوع المصلحة المرسلة عندهم، حيث يضع الفقيه من نفسه حكماً له، لا بالقياس ولا بالاستحسان، وإلا لم يحتج إلى كونه من المصالح المرسلة.
وبذلك يظهر عدم الانسجام بين هذه الثلاثة، فالمصالح المرسلة في الموضوعات والحكم يكون حسب رغبة الفقيه وموازينه، بينما القياس في الموضوع وحكمه يكون حسب المقيس عليه، والاستحسان في الحكم يكون حسب ما يراه الفقيه حسناً من حكم كذا في موضوع لا حكم له.
في الأدلة الأربعة كفاية:
لكنا نرى أن كل الأحكام مذكورة في الأدلة الأربعة إما خصوصاً وإما عموماً، فلا حاجة إلى هذه الثلاثة التي ذكروها.
وعلى أي: فالكتاب والسنة والإجماع متفق عليه بين المسلمين، أما العقل وهذه الثلاثة فمختلف فيه بين السنة والشيعة، أو السنة أنفسهم، أو الشيعة أنفسهم والزيدية والأباضية ومن أشبههما من فرق المسلمين، فإن الزيدية ـ مثلاً ـ يضيفون على مصدر الأحكام أقوال زيد الشهيد (عليه السلام) والخوارج ينقصون منها قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وعثمان لأنهم يكرهون الصهرين.
ثم إن الشيعة لا يرون انحصار السنة في قول الرسول (ص) وفعله وتقريره، بل يقولون بأن الأئمة الاثني عشر وفاطمة الزهراء (عليهم الصلاة والسلام) هم امتداد للرسول(ص) بأمر من الله تعالى، ونص من رسوله (ص) وان ما صدر من قولهم وفعلهم وتقريرهم فهو من السنّة ومصدر أيضاً(32).
كما أن حجية هذه الثلاثة(33) الواصلة إلينا عن الأنبياء السابقين (ع) وأوصيائهم والملائكة ومريم البتول (عليهم الصلاة والسلام) والأحاديث القدسية الثابتة أيضاً لا نزاع فيه، ويدل عليه قوله سبحانه: (قولوا آمنا بالله)(34) الآية، وفي استصحاب الشرائع السابقة توضيح لهذا الأمر، وقد ذكرناه في الأصول.
العقوبات تدرأ بالشبهات
مسألة: لا عقوبة على من اشتبه عليه الأمر بحيث لم يعلم هل فعل الحلال أو الحرام؟ كما إذا شرب سائلاً ولم يعلم أنه خمر أو ماء، ثم ظهر أنه كان خمراً.
وكذا لو لم يثبت انه هل فعل الحرام اختياراً أو إكراهاً أو اضطراراً، فلو علمنا أنه فعل بالأجنبية لكنا لا نعلم وجهه وقال: أكرهت أو اضطررت مع وجود القرائن على صحة كلامه، فإنه يقبل قوله.
ولذا قبل الإمـــام أمير المؤمنين (ع) كلام المرأة التي رؤيـــت مع أجنبي على بعض المياه وقالت أنها اضـــطرت لشرب الماء(35).
وكذلك سأل (عليه السلام) المفطرين في رمضان هل هم مسافرون أم لا ؟(36) مما ظاهره أنهم لو أجابوا بالإثبات لم يكن عليهم بأس.
بالإضافة إلى حمل الفعل على الصحيح، مسلماً كان أو غير مسلم، كما ذكرناه في الفقه.
أما أمره (ع) شارب الخمر بأن يطاف به في صفوف الصلاة، ليُعلم هل قرأ عليه أحد آية التحريم وفسرت له أم لا(37)، فذلك لإمكان الفحص اللازم على الحاكم في مرتكب الحرام ظاهراً.
ولو سب أحد شخصاً وقال: لم أقصد السب، بل قصدت معنىً كنائياً أو ما أشبه ذلك قبل منه إن أقام قرينة على ذلك، ولذا قال المشهور: بأنه لو كتب البائع أنه نقد الثمن من المشتري ثم قال: كتبت ذلك من باب التعارف لكني لم أقبضه، قبل قوله إذا أقام دليلاً على ذلك.
كما أنه لا يحد الزاني إذا اشتبه بين شخصين، فلم يعلم هل زنا زيد أو عمرو ولم يستبن الحاكم.
ولو علم بأنه فعل حراماً لكن لم يعلم عين ما فعله من الحرام، فإن كان هناك جامع حد بقدر الجامع، كما إذا لم يعلم هل شرب الخمر أو زنى؟ فإنّ حدهما: ثمانون، ومائة، فيُحدّ ثمانون، لأن الثمانين مقطوع به على أي حال، ولا يحد العشرين للشك، وإن لم يكن هناك جامع كشرب الخمر والقتل العمدي، لم يستبعد أن يؤدب بدون إجراء أي من الحدين.
ومما تقدم يُعلم أنه لو قتل شخص إنساناً بريئاً لكن لم يعلم هل انه قتله عمداً أو خطأً؟ فإنه لا قصاص عليه إذا ادّعى الخطأ، أو لم يقل شيئاً.
وكذا لا يحد المجرم إذا لم يعلم هل أنه ارتكب الجرم عالماً أو جاهلاً قاصراً؟ كما أنه لا حدّ عليه لو فعل الحرام لكن لم يعلم هل كان صغيراً حال الفعل أو كبيراً؟ لكن عليه التأديب إذا كان الصغير يؤدب في مثله، كما في الزنا والسرقة وما أشبه، والمفروض أنه لا استصحاب للصغر، أما إذا كان استصحاب فهو المحكم.
وكذلك لا حد عليه إذا لم يعلم هل كان حين ارتكاب الجرم عاقلاً أو مجنوناً ـ في المجنون الأدواري مثلاً ـ أو لم يعلم هل كان ارتكابه له عمداً أو اشتباهاً، أو كان نائماً أو يقظاناً، كالسائق يقتل عابراً؟ أو هل كان صاحياً أو سكراناً؟ فيما إذا قيل بأنه لم يكن للسكران فيه حد، أو كان قاصراً أو مقصراً.
وهكذا بين الخطأ المحض وشبه العمد إذا شك في ذلك، فإنه يحمل على الأول لقاعدة (درء الحدود).
وإذا ارتد شخص وادعى أنه كان في التيار(38) أو حدثت له شبهة، مع احتماله في حقه، لم يحد، حيث ذكرنا في باب الارتداد لزوم عدم وجود هذين الأمرين في جريان الحد.
وكذلك لا يحد إذا شك الشاهد في أن مرتكب الجرم كان زيداً أو عمرواً، أو أنه شرب خمراً أو ماءً، وإلى آخر ما تقدم.
وهكذا لا يحد أحد مع اشتباه الحكم على الحاكم، وعدم وضوحه وثبوته له بعينه، إلا إذا كان بينهما جامع وعلم بوجود أحدهما حيث يحد بالأقل لقاعدة (درء الحدود) فإنه يشمل اصل الحد كما يشمل زيادته.
القوانين وشروط صياغتها
مسألة: الواجب في الدولة الإسلامية أن يصاغ القانون ـ في المرور وغيره ـ مطابقاً فرع، من مسائل المرور وغيره، وكل فرع من الفروع إما مخالف للشريعة أو موافق لها، ولا واسطة.
لا تعدي في الإسلام
مسألة: يجب على الدولة الإسلامية صيانة أموال الناس فرداً فرداً وأعراضهم وأنفسهم وحرياتهم وأعمالهم وحيثياتهم عن أي تعد بما للكلمة من معنى، إلا إذا ارتكب فرد منهم جرماً وكان قد قرر الإسلام عقوبة له، كما للشريعة المقدسة، وذلك حسب نظر شورى الفقهاء المراجع، والقول بأنه يكفي في الجملة أن لا يخالف الإسلام مردود، إذ الإسلام بجزئياته وكلياته يتضمن كل فرع إذا فعل الشيء المحرم أو ما أشبه، وذلك بشروطه.
ثم إن إثبات كون الشخص قد ارتكب المحرم أو ما أشبه، يجب أن يعرف من قوانين الإسلام الذي استنبطه الفقهاء المراجع، لا بمجرد قول شخص أو ما أشبه، فإن الأخذ على التهمة والظنّة مما لا يقرّه الإسلام أبداً، وقد حاربه بكل قوة، وعاقب عليه الوشاة والمتملقين.
لا لتفتيش العقائد
مسألة: كما أنه لا يجوز للدولة الإسلامية التفتيش عن عقائد الناس، فكذلك لا يجوز لها التفتيش عن سائر شؤونهم، فإذا كان رجل مع امرأة ـ مثلاً ـ فلا يفتش عن أنها هل هي زوجته أو ذات محرمه أو لا، لأن الأصل في كل فعل من أفعال الإنسان مسلماً أو غيره، هو: أن يحمل على الصحيح.
ثم إن المطبوعات تكون حرة في الدولة الإسلامية، إلا إذا خالفت موازين الإسلام حسب نظر شورى الفقهاء المراجع.
وكذلك الروابط الخاصة والعامة بين الأفراد والجماعات ومختلف الاتصالات، تكون حرة ومحترمة، سواء في مجالسهم العامة والخاصة، أم في مكالماتهم ومراسلاتهم كذلك، وسواء كانت عبر الهواتف والمسجلات والأشرطة والفاكس والتلكس وما أشبه، أم بغيرها.
ولا يحق لأحد ولا لدولة التجسس عن أي شيء منها، إلا في المورد الذي أباحه الإسلام حسب نظر شورى الفقهاء المراجع.
كما أنه لا يحق للدولة أو غيرها أخذ الضرائب إلا بقدر ما قرره الإسلام من الخمس والزكاة والجزية والخراج، ولو فرض احتياج الدولة إلى المال الضروري، يلزم أن يعين ذلك شورى الفقهاء المراجع وبقدر الضرورة ويكون حينئذ أمراً وقتياً لا قانوناً أولياً.
من حقوق الرعية
مسألة: ثم إن للناس حق تشكيل الأحزاب والجمعيات، وتأسيس المنظمات والهيئات وما أشبه ذلك، ولهم حق تأسيس المؤسسات والشركات، وبناء الأبنية الخيرية والانتفاعية، وإحداث الطرق وما أشبه، وفتح البنوك والمطابع، وإصدار الجرائد والمجلات، ونشر الكتب والنشرات، وتأسيس الإذاعات ومحطات التلفزة، واقتناء الفيديوات والكامبيوترات، ولا يحق لأحد المنع عن أي شيء من ذلك.
كما لا يحق لأي جهة جلب أحد إلى المحكمة إلا بأمر القاضي المنصوب من قبل شورى الفقهاء المراجع، وكذا لا يحق لأحد توقيف أحد إلا بذلك، كما أنه لا يحق لأحد أيضاً تفتيش بيت أحد أو محل أحد إلا بأمره، وذلك مع حفظ كل الشروط الأخلاقية التي أمر الإسلام بها، من الاستئذان، والدخول من الباب، وما أشبه ذلك.
كما أنه لا يحق لأي جهة نفي أحد أو تسفيره، أو إخراجه عن محله إلى محل آخر، أو إخراجه من بيته أو دكانه أو مزرعته أو بستانه، أو قطع أي علاقة من علاقاته الفردية أو الاجتماعية إلا بذلك أيضاً.
ولا يهان أحد، ولا يضرب أحد، ولا يسجن أحد، ولا يعاقب أحد، ولا يمنع أحد عن حرياته إلا عن الممنوع شرعاً وبقدره، أو بإجازة الفقهاء المراجع.
وكل من فعل شيئاً مما ذكرناه من الممنوعات، فعليه التعزير ضرباً أو توقيفاً أو ما أشبه ذلك، مما ينص عليه شورى الفقهاء المراجع.
ولكل أحد الحق في مراجعة المحاكم الشرعية، ولا يحق لأحد المنع عن ذلك، كما إن المحاكم يجب أن تكون موجودة بكل أقسامها: ابتدائية واستئنافية وتمييزية، وقد ذكرنا ذلك في الفقه مفصلاً.
وهكذا يحق لكل أحد مراجعة المحامين، ويحق لمن صلح لذلك أن يكون محامياً.
ضمان التطبيق:
ثم إن ضمان تطبيق كل ذلك ذكرناه من الحريات وحقوق الناس لا يكون إلا تحت ظل شورى الفقهاء المراجع، ووجود نظام التعددية والأحزاب الحرة، وإلا فالقانون بنفسه لا يضمن إجراء نفسه.
الأصل في الإسلام: براءة الإنسان
مسألة: كل إنسان بريء حتى تثبت إدانته، ولا يحق أخذ الاعتراف من أحد بالإكراه والإجبار، والضرب والتعذيب وما أشبه ذلك، كما أنه (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)(39) ، وذلك بحسب الموازين الفقهية المذكورة في محلها، ولا ربا ولا غصب، ولا رشوة ولا اختلاس، ولا سرقة ولا قمار، ولا يجوز فتح المواخير والمراقص، والحانات والملاهي، وكل فاسد أو مفسد ممنوع في الدولة الإسلامية.
الأرض لله ولمن عمرها
مسألة: الأراضي التي لا مالك شرعي لها تكون لمن سبق إليها، ففي الحديث: (الأرض لله ولمن عمرها)(40).
وكذلك حال المعادن والغابات، والمراتع والمراعي، وسائر الثروات الطبيعية في إطار (لكم)(41) الواردة في الآية الشريفة.
وحيازة المباحات، ومزاولة المعاملات، كلها مشروعة إلا ما نص الشرع على خلافها، كحيازة المباح بأكثر مما يستحقه وبما يضر الآخرين، وكمعاملة الكالي بالكالي.
فلا حق لأحد أو جهة أو دولة في منع أحد من حيازة أو كسب أو تجارة أو بيع أو رهن أو إجارة أو جعله طريقاً للمرور أو غير ذلك.
ولو غصب إنسان مال آخر، أو استولى على زوجته أو ولده، أو منع الآخرين عن الاستفادة من حقوقهم الطبيعية في التجارة أو الزراعة أو الصناعة أو الاكتساب أو حيازة المباحات أو ما أشبه ذلك، وجب على الدولة الإسلامية رد مظلمة المظلوم، وإذا سبب الظالم خسارة على المظلوم وجب عليه تداركه.

1 ـ سورة الأنعام: 164.
2 ـ سورة يوسف: 79.
3 ـ راجع بحار الأنوار: ج4 ص250 ب97 ح25.
4 ـ سورة الإسراء: 15.
5 ـ سورة الطلاق: 7.
6 ـ سورة النحل: 106.
7 ـ سورة الأنعام: 119.
8 ـ سورة البقرة: 173.
9 ـ وسائل الشيعة: ج11 ص295 ب56 ح1.
10 ـ سورة النساء: 135.
11 ـ سورة النجم: 23.
12 ـ سورة الفرقان: 43.
13 ـ سورة الكهف: 28.
14 ـ سورة القصص: 50.
15 ـ صورة ص: 26.
16 ـ سورة طه: 16.
17 ـ سورة الروم: 29.
18 ـ سورة القمر: 3.
19 ـ سورة الأعراف: 176.
20 ـ غوالي اللئالي: ج1 ص40 ح40، وبحار الأنوار: ج69 ص29 ب94 ح26، وفيه عن الصادق(ع): «كاد الفقر أن يكون كفراً» الحديث.
21 ـ غوالي اللئالي: ج1 ص40 ح41.
22 ـ سورة البقرة: 237.
23 ـ سورة التغابن: 14.
24 ـ سورة النور: 22.
25 ـ سورة الحديد: 25.
26 ـ سورة الأعراف: 29.
27 ـ راجع دعائم الإسلام: ج2 ص444 ح1552، وتهذيب الأحكام: ج10 ص148 ب18 ح587. وفيه: «عن أبي جعفر (ع) : أن أمير المؤمنين (ع) أمر قنبراً أن يضرب رجلا حداً، فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط، فأقاده علي (ع) من قنبر ثلاثة أسواط».
28 ـ راجع مصباح الكفعمي: ص25.
29 ـ موسوعة الفقه: ج101-102.
30 ـ انظر أيضاً (كيف ينظر الإسلام إلى السجين) للإمام المؤلف.
31 ـ غوالي اللآلئ: ج4 ص86 ح100، وراجع الإفصاح للشيخ المفيد: ص49.
32 ـ راجع كتاب (من فقه الزهراء عليها السلام) المجلد الأول، و(السيدة زينب (ع) عالمة غير معلمة) للإمام المؤلف.
33 ـ أي القول والفعل والتقرير.
34 ـ سورة البقرة: 136.
35 ـ راجع الإرشاد للشيخ المفيد: ج1 ص207.
36 ـ راجع وسائل الشيعة: ج7 ص157 ب20 ح7.

37 ـ راجع وسائل الشيعة: ج18 ص324 ب14 ح5.

38 ـ أي حصلت شبهة جماعية ارتد على أثرها جماعة، فإن في مثل ذلك لا تجرى أحكام الارتداد.

39 ـ وسائل الشيعة: ج17 ص376 ب1 ح10.
40 ـ وسائل الشيعة: ج17 ص328 ب3 ح1.
41 ـ سورة البقرة:29، قال تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً).