بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
لاشك أنّ رسول الله محمد بن عبد الله‘ سيد الرّسل وهادي السُّبل خلّف من بعده خلافتين وهما الثقلان كتاب الله الكريم وعترته من أهل بيته المعصومين الطاهرين^، والأوّل هو القرآن الصامت التدويني واللفظي والكتبي، والثاني هو القرآن الناطق العيني إلّا أنّ الأمّة من بعده منهم من إتخذ هذا القرآن مهجوراً، فمنهم من هجر القرآن التدويني فإكتفى بألفاظه وغفل عن تطبيقه في حياته، ومنهم من هجر القرآن العيني، فلم يؤمن باماتهم ووجوب طاعتهم وولايتهم.
ولا شك أن فضل كلام الله التدويني والعيني على سائر الكلام كفضل الله على خلقه، ونحن إنّما نعيش في هذه الدنيا مرّة واحدة، فالمفروض والمطلوب منّا أن نكون مع القرآن في كل حركة وسكون ، وفي كل صغيرة وكبيرة، فنعرض أنفسنا وحياتنا بكل جوانبها وأبعادها على القرآن الكريم، فما وافقه فهو الحق وما خالفه فإنّه من زخرف القول ومن الباطل الزائل.
وعلينا بتلاوة القرآن في الليل والنهار والعمل به (ومن قرء القرآن وهو شاب إختلط بلحمه ودمه) و(خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه وعمل به، فإنّه (بأيدي سفرة كرام بَررَة) فمن إختلط لحمه ودمه بالقرآن كان مع السفرة الكرام من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والأوصياء والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقاً.
وكان القرآن حاميه وشفاه وشافعه يوم القيامة، وإنّ القرآن يعني كلام الله مع عبده من دون حاجز ومن دون واسطة، بل من الحديث المباشر، فيخاطبه الله تارة إنطلاقاً من مجتمعه الإنساني بقوله (يا أيها الناس) وأخرى إنطلاقاً من مجتمعه ألا بما في قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا).
وأوّل القرآن تلاوته المباركة، ﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ وفي الروايات لا يقل في كل يوم عن خمسين آية، والنظر إلى المصحف الشريف عبادة، ومن مسّه بعد الطهارة من الحدث الاكبر والأصغر، فإنّه يحيي قلبه، وينير بصره، ويزيد في رزقه وأنه خزائن الله ومأدبته وأنه سبحانه يتجلّى في كتابه، الله الله بهذا القرآن العظيم والكتاب الكريم، فاستشفوا به وإنتفعوا من أنواره ومن تلاوته، إلّا أن العمل بآية منه أكبر وأعظم من ألف ألف مرة من تلاوته، فإنّه ربّ تال للقرآن والقرآن يلعنه، فيما إذا خالف قوله فإذا قال ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ فلا يكذب وإذا قال ﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ﴾ أقامها، وإذا قال ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ ﴾ في شهر رمضان المبارك فإنه یصوم وهكذا يعمل بكل تعاليمه وأحكامه، فلا يأكل الربا إذ أنّ القرآن قال له أنّه حرب مع الله سبحانه، وليعلم أنّه ما من عمل من خير أو شر يره يوم الجزاء من مالك يوم الدين.
جاء أعرابي إلى رسول الله وآمن به وأراد أن يتعلم القرآن، فأمر النبي أحد أصحابه أن يعلّمه، فبدء الصحابي بتعليمه أولاً سورة الزلزال ولما وصل إلى قوله تعالى ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه ﴾ فقال الأعرابي كفاني فإنّه عرفت ما هو الواجب عليّ وذهب، فأخبر الرسول الأعظم‘ بذهابه وما قاله، فقال النبي‘: (رجع الاعرابي فقيهاً) أي فاهماً فإنّ الفقه لغة بمعنى الفهم، فإنه فهم الأعرابي وصار فقيهاً إذ عرف أن لكل فعل ردّة فعل، وآمن بيوم القيامة وبالمعاد ويوم الجزاء، وإنّه من يعمل مثقال ذرة من خير أو شر فإنّه يرى ذلك محضراً، فيا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، ولتنظر كل نفس ماذا قدّمت لغد ، وإلا فإنه يأتي ذلك اليوم الذي يدك فيها الأرض دكاً، وجاء أمر ربك والملائكة صفاً، وجيء بجهنّم يومئذ ، فيتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى، فيقول يا ليتني قدمت لحياتي، فإنّ الآخرة هي الحياة الأبدية، وأمّا الدنيا فحياتها ظلّ لتلك الحياة وإنها مشوبة بالموت والأحزان ومحفوفة بالمكاره والمخاطر.
ثم للقرآن تقسيمات في سوره وآياته كما ورد في جملة من الأحاديث الشريفة، وتقسيماته من جهات عديدة تارة بإعتبار أصول الدين وفروعه وأخلاقه، وأخرى بإعتبار قصصه وحكمه وآثاره، ومن تقسيماته أن الآيات القرآنية قسم منها يعرفها العالم والجاهل، وقسم منها يعرفه من لطفت روحه وحسنت سريرته، وكان من أمناء الله والراسخين في العلم وهذا ينبع من شرح الصدر للإسلام، فإنّه انشرح نور يقع في قلب المؤمن، وليس العلم بكثرة التعلّم إنّما نور يقذفه الله في قلب من يشاء أن يهديه، فيشرح صدره وينبسط قلبه فيسع رحمة ربه وعلمه، وكان عرش الرحمن وحرم الله، وكما ورد في الحديث القدسي عن الله سبحانه (أرضي وسمائي لا تسعني ولكن قلب عبدي المؤمن يسعني) ولهذا الإنشراح علامات ومنها: التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، والإستعداد للموت قبل حلول الفوت، فتجد المؤمن نشيطاً بالعلم النافع والعمل الصالح، فيستعد لتلقي الحقائق وأسرار الكون، وما علومه الظاهرية والكسبية الحصولية إلّا مقدمة للعلوم الملكوتية والقلبيّة، فالوصول إلى حقائق القرآن لابّد من إنشراح الصدر ولطافة الحواس وشفافية الحدس، وطلب العلم القلبي إنّما يتّم بالطلب لحقيقة العبودية وذلّها في النّفس، فلا يرى لنفسه ملكاً ولا نفعاً ولا ضراً ولا حياة ولا نشوراً، وإنّه ليشتغل بأمر الله ونهيه، وكان شغله في صلاة، ولا يستكبر عن عبادة ربّه ولا يتكبّر على خلقه، وأنّ حقائق القرآن في صدور الذين أوتوا العلم محمد وآل محمد^، وقيل لرسول الله من يشهد على رسالتك، فقال: الله ومن عنده علم الكتاب، وهذا العلم عند أئمة أهل البيت^، وكما قال الإمام الصادق× (ولدني رسول الله وأنا أعلم بكتاب الله) فهذه من الولادة الخاصة وليست الولادة النسبيّة، فعند أميرالمؤمنين علي× علم الكتاب بتمامه، وأمّا مثل آصف الذي جاء بعرش بلقيس إلى سليمان بطرفة العين، فإنّه عنده علم من الكتاب أي بعض العلم وليس تمامه، فشرّق أو غرّب لا تجد العلم التام إلّا عند أهله، عند الراسخين في العلم محمد وآل محمد^، وما بيان الأئمة وتفسيرهم للقرآن الكريم إلّا لبيان حقائق القرآن وحقائق الإيمان، فأعرف منازل الشيعة بقدر روايتهم ومعرفتهم ودرايتهم بالآيات والأحاديث الشريفة، فإنّ المعرفة هي الدراية للرواية، وبالبدايات يعلو درجات المؤمن ﴿ يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ﴾ ومعرفة الحقائق القرآنية بأحاديث محمد وآله، فالمعارف والعرفان الإسلامي الصحيح كلّه في الثقلين بالقرآن والعترة الطاهرة^ والحمد لله رب العالمين.