* وَصيَّةُ الْمُسَافِر ***
أَبِي،
لاَ تَفْتَقِدْنِي يا أَبي،
إِنِّي ذَهَبْتُ
وَسَافَرَ الطِّفْلُ الصَّغِيرْ.
غَدًا تَنْسَى،
فَلاَ تَحْزَنْ كَثِيرًا،
وَلْتَكُنْ جَلْدًا صَبُورْ.
***
أَتَذْكُرُ يَا أَبي تلْكَ الْأَمَاسِي،
ذَلِكَ الْعُمْرَ الْقَصِيرْ؟
أَتَذْكُرُ ضِحْكَةَ الطِّفْلِ الْمُشَاغِبِ
عِنْدَمَا كَانَ السُّرُورْ؟
***
أَنَا مَازِلْتُ أَذْكُرُ أَوْبَتِي
عِنْدَ الْمَسَاءِ الْبَارِدِ الْفَضِّ الْمَطِيرْ،
أَعُودُ بِقَلْبِيَ الشّادِي
وَحُلْمِي الْمَارِدِ الْغَضِّ الْكَبِيرْ
أُغَنِّي لِلْمَسَاءِ إِذَا أَتَى
وأَقُومُ لِلْفَجْرِ الْوَليدِ مُسَبِّحًا
مُسْتَبْشِرًا بِالنُّورِ والْأَمَلِ النَّضيرْ
***
أَنَا مَازِلْتُ أَذْكُرُ قِمْطَرِي
وَاللَّوْحَ والْقَلَمَ الصَّغِيرْ
وَأَذْكُرُ رِفْقَتِي
عِنْدَ الصَّبَاحِ إِذَا الْتَقَيْنَا
نَكْتَفِي بِالْهَمْسِ
وَالْأَمَلِ النَّضِيرْ
***
وَكُنَّا كُلَّمَا جَاءَ الصَّبَاحُ
وَرَاوَدَ الْقَلْبَ الْمَسِيرْ
مَضَيْنَا كَالْفَرَاشِ إِلَى الزُّهُورْ
نُفَاخِرُ ضِحْكَةَ الرَّوْضِ الْمُعَشَّبِ
ثُمَّ نَرْجُو لَوْ نَطِيرْ.
نَظَلُّ نُطَارِدُ الْحَرْفَ الْجَمِيلَ
وَنَرْسُمُ الْحُلْمَ الْمُضَمَّخَ بِالْعَبِيرْ،
وَنَحْلُمُ بِالسِّنِينَ الْقَادِمَاتِ وَسِحْرِهَا،
لاَ نَعْرِفُ الْيَأْسَ الْمُدَمِّرَ،
لاَ نَمَلُّ تَتَبُّعَ الْأَمَلِ الْمُنِيرْ.
نَعُودُ إِذَا أَتَى طَيْفُ الْمَسَاءِ
فَنَكْتُمُ الْأَحْلاَمَ عَنْ عَيْنِ الظَّلاَمِ الْقَهْرِ
فِي الصَّدْرِ الْكَسِيرْ
***
أَتَذْكُرُ يَا أَبِي؟
إِنِّي لَأَذْكُرُ كُلَّ ذَاكْ.
وَكُنْتُ أَرَى الْحُقُولَ تَثُورُ
تَصْنَعُهَا يَدَاكْ،
فَتُومِضُ بَسْمَةُ الْإِعْزَازِ إِصْرَارًا،
وَأُعْجَبُ حينَ أسْعَى شَادِيًا طَرِبًا هُنَاكْ،
وَأَعْرِفُ أَنَّ تِلْكَ جُذُورُنَا،
وَأَرَى الْهَوَاءَ الْمُعَطَّرَ فِي دَرْبِي دِمَاكْ.
***
وَكَانَ اللَّيْلُ،
حِينَ أَفَقْتُ لَمْ أَلْقَ الْأَغَانِي،
كَانَ غَيْرُكَ قَدْ أَتَاكْ،
أَتَاكَ مَعَ الظَّلاَمِ مُزَمْجِرًا نَهِمًا
فَلَمْ يَرَهُ سِوَاكْ.
لَقَدْ أَدْمَى الْمَلاَمِحَ،
أَحْرَقَ الْأَزْهَارَ،
أَذْوَاهَا،
وَغَرَّبَ حِينَذَاكْ.
***
فَعَرَفْتُ،
عَرَفْتُ أَحْزَانِي
فَقَرَّرْتُ الْفِرَارْ،
وَفِي غَسَقِ الدُّجَى أَحْضَرْتُ زَادِي.
كُنْتُ وَحْدِي فِي الْحِصَارْ.
***
ذَكَرْتُ أَحِبَّتِي
وَالشَّمْسَ
وَالدّرْبَ الطّوِيلَ
وذِي الدّيَارْ
وَقَافِيَتِي الَّتِي غَنّتْ مَعِي
أَحْيَانَ شَوْقِي فِي شُرُودِ الاِنْتِظَارْ.
كُنْتُ مُغَيَّبًا غِرًّا
أَعِيشَ الْمَوْتَ مُنْفَرِدًا
يُعَاوِدُنِي أَنِينُ الْاِحْتِضَارْ.
***
سَلُوا أُمّي عَنِ الْأَسْحَارِ في خَفَقَانِهَا
تُحْصِي السِّنِينْ
دَعُوهَا تَرْتَوِ بِالْحُزْنِ،
تَبْكِينِي طَوِيلاً فِي تَوَحُّدِهَا
فَلَنْ تَنْسَى الْحَنِينْ
***
سَتَرْوِي قِصَّتِي للْبَحْرِ
لِلْمَاضِي
لِأَطْيَافِ الْمَسَاءِ إِذَا أَتَتْ
لِلذّاهِبِينْ
لِكُلِّ حَمَامَةٍ نَاحَتْ
لِكُلِّ تَذَكُّرٍ يَأْتِي
لِقَافِلَةِ الْقَادِمِينْ
لِلَغْوِ الطِّفْلِ
لِلرَّاحِلِينْ
لِكُلِّ تَمِيمَةٍ سَطَّرْتُهَا وَحَرَقْتُهَا
لِلطَّيْرِ أَحْيَانَ التَّغَنِّي
لِلرِّفَاقِ الْحَائِرِينْ
***
فَلاَ تَدَعُوا الدُّمُوعَ تُمِيتُهَا حُزْنًا
فَإنَّ الْأُمَّ بَحْرٌ
وَالْبِحَارُ يَنَالُهَا مَرُّ السِّنِينْ.
***
وَلاَ تَبْكُوا كَثِيرًا
حِينَ إِبْحَارِي
فَلاَ تَبْكِي عَصَافِيري الصِّغَارْ،
وَغَنُّوهُمْ أَغَانِيَّ الْبَريئَةَ
إِنَّهَا كَانَتْ حَنِيني لِلنّهَارْ
فَإِنِّي الْآنَ أَمْضِي هَارِبًا
أُخْفِي قَرَارِي عَنْ عَصَافِيري
وَأُخْفِي خَيْبَتِي.
كَانَ الْقَرَارْ.
*** أحمد الحاجي ***