ولادة الأقمار المحمدية
الإمام الحسين و العباس والإمام السجاد (عليهم السلام)
شاءت إرادة الباري جل شأنه أن تتجسد القيم والفضائل الإنسانية مجتمعة في أيام متتالية من ولادة كائنات غير كل الكائنات البشرية على وجه الخليقة، فكانت ولادة الحسين والعباس والسجاد (ع) طريق لبداية العزة والنبل منذ بزوغ نور ممثلي تلك الفضائل ليصلوا بها إلى قضيتها العظمى في كربلاء وما بعدها.
ومهما حاولنا الحديث عن حياة أولئك العظماء منذ الولادة، فإننا سنجد أقلامنا تنساق ناحية المنظومة المتكاملة التي تمثلت في كربلاء من خلال ثلاث قيم أساسية كان أهمها التضحية الحسينية والشجاعة العباسية والصبر والحكمة السجادية من خلال مواقف الإمام زين العابدين (ع) قبل وأثناء وبعد استشهاد والده الحسين (ع).
كان الإمام الحسين (ع) منذ ولادته بشير سعادة ورجل تحرير، لا تحرير من عبودية الطاغوت وأغلال الذل فحسب، بل تحرير الخلق من كل شقاء طويل كما في قصة الملك فطرس الذي ببركة مولده (ع) أعيدت له القدرة على الخروج من تلك الجزيرة النائية، فكانت بشائر الحرية في حياة هذا المولود العظيم جلية منذ اللحظات الأولى لولادته، ليأتي الرسول الأعظم (ص) بتبيين عظمة هذا المولود في محطات عديدة من طفولته ليجعله حجة على البشرية الناكثة، فهاهو (ص) يجثو للحسنين فيركبان على ظهره ويقول: «نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما» ، ليرسل للعالم رسالة بعدل الإمام الحسين وصدق ثورته.
لقد حول الإمام الحسين (ع) الموت إلى حياة، والطرق التي مر عليها إلى حضارات وتاريخ للقيم البشرية و كربلاء النموذج الحي، فـ "قبل عاشوراء، كانت كربلاء اسماً لمدينة صغيرة، أما بعد عاشوراء فقد أصبحت عنواناً لحضارة شاملة" ، وهنا إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل، فما قام به سيد الشهداء (ع) كان عملاً عظيماً فاستحق المكافأة من الله كبيرة بعظم عمله، وواحدة من تلك المكافآت بقاؤه حياً في القلوب يقصده محبيه من المسلمين والمسيحيين والبوذيين وكافة الطوائف ويعظموا مكانه الذي هو اليوم موئل للزائرين ومكانته التي عرفتها الفطرة النقية في القلوب الصادقة.
وتتمثل الشجاعة الحيدرية بميلاد قمر بني هاشم أبي الفضل العباس (ع) الذي شائت إرادة الله أن يكون يوم مولده بعد أخيه الحسين (ع) كإشارة إلى أن ولادته جاءت لتشد به أزر أخيه الحسين (ع). تمثلت في قمر العشيرة الخصال الحميدة التي ورثها من أمير المؤمنين (ع) وأخويه الحسن والحسين (ع) فيكون بذلك جامع الصفات الغر من بيت العلم والفضيلة، فقد «تجلبب العباس بالمناقب حتى لا تكاد تجد فرقاً بين كلمة «العباس» وكلمة «المناقب» في قاموس المناقبيات». كان (ع) شديد البأس والشجاعة في حروبه مع والده أمير المؤمنين، وقد عاش الظروف الصعبة التي مر بها الإمام علي (ع) في النهروان والجمل وصفين.
ظهرت من العباس وهو لا يزال في سني المراهقة شجاعة فائقة في يوم صفين، ومما يروى في هذا المجال أنه في بعض أيام صفين، خرج من جيش أمير المؤمنين شابٌ يعلو وجهه نقاب تعلوه الهيبة وتظهر عليه الشجاعة وكان يقدر عمره بخمسة عشر عاماً وأخذ يطلب المبارزة من أصحاب معاوية فهابه الأعداء، فندب معاوية إليه واحداً من أشجع أهل الشام يسمى أبو الشعثاء فقال أبو الشعثاء: يا معاوية إن أهل الشام يعدونني بألف فارس، فلا أخرج إليه وإنما أرسل إليه أحد أولادي، وكان عنده سبعة فأرسل ابنه الأول فبارز صاحب النقاب فقتله صاحب النقاب، ثم أرسل أبو الشعثاء ابنه الثاني فقتله أيضا فأرسل الثالث والرابع والخامس والسادس والسابع، فقضى عليهم جميعاً فساء ذلك أبا الشعثاء وأغصبه فبرز إلى صاحب النقاب وهو يظن أنه قادرُ على مواجهة ألف فارس مثله وقال «لأثكلن عليك أمك» فشد عليه صاحب النقاب وألحقه بأولاده السبعة. فهاب كل أصحاب معاوية ذلك الرجل، ولم يجرؤ على مبارزته أحد، فيما بعد أدهش هذا الموقف ليس العدو فقط وإنما الصديق أيضا، وعرف أصحاب الإمام علي من هذه البسالة أنها لا تعدو الهاشميين، ولكنهم لم يعرفوا من هو ذلك البطل الباسل فلما رجع إلى مخيم الإمام أزال النقاب عن وجهه فإذا هو قمر بني هاشم العباس (ع).
وللصبر والحكمة باب آخر مثّله سيد الساجدين الإمام زين العابدين (ع)، فكان مثالاً واعياً للحكمة السياسية والرسالة الإعلامية بعيدة المدى، فلم يلجأ إلى الخيار العسكري ضد قاتل أبيه الحسين (ع) لعلمه بمدى الطيش الذي ينتهجه يزيد بن معاوية الذي ربما ينتهي الأمر به بتصفيته (ع) والقضاء على النسل المحمدي، فلجأ الإمام السجاد (ع) إلى القيام بدور إعلامي متميز يوصل عبره لعامة الناس الجاهلة حقيقة ماجرى، فكان يمر بالأسواق ويبكي عندما يرى الكبش تذبح ليبين مدى ألمه: كيف أن أباه حُرم الماء الذي تنعم به حتى البهائم!، ثم يبدأ بالبكاء الذي هو وسيلة للتعريف بالثورة الحسينية وفضح الطغاة الأمويون.
لعب الإمام السجاد (ع) دوراً كبيراً في تربية وتخريج جيل من العلماء والمبلغين إلى الأقطار قاطبة مع إعداد المؤمنين روحياً في كل العصور من خلال التراث الضخم من الأدعية والمناجات التي تركها (ع) في الصحيفة السجادية المعروفة بـ «زبور آل محمد»، حيث جاءت هذه الأدعية كمنهاج لتعليم الأمة من دون أن يلتفت الظلمة إلى هذا الأسلوب الذي كان حديثاً في مواجهتهم، ولا يختلف الدور الذي يقوم به إمام عن آخر وإن اختلفت سبل التنفيذ، فقد تتهيأ الظروف للخيارات العسكرية وقد تكون الظروف ملائمة لإعداد وبناء كوادر سياسية ودينية تأتمر بأمر الأئمة عليهم السلام تؤدي دورها داخل الوزارات السياسية في الأنظمة القائمة آنذاك بالطريق الذي يريده الإمام المعصوم في عصره.
علينا جميعاً وفي هذه الذكرى وهذه الاحتفالات الشعبانية المباركة أن نأخذ من تلك القيم والمعان العميقة التي مثلها أبطال البيت العلوي مكونين بذلك منظومة متكاملة من القيم التي هي كفيلة باجتماعها في رسم منهج واضح ونتيجة متحققة إذا ما أردنا الوصول إلى الأهداف التي نأمل تحقيقها.
نسالكم الدعاء