ارتبطت الحركة الكردية باسمه لأكثر من نصف قرن. واستقطب نضاله وإخلاصه حركة التحرر القومي في كافة أجزاء كردستان. واستيقظت أجيال كردية عديدة على هويتها القومية من نضال البارزاني، وأصداء كفاحه الدائب من أجل حرية الشعب الكردي وتحرره من الاضطهاد.
ولد الملا مصطفى بن الشيخ محمد البارزاني بقرية بارزان في ١٤ / آذار / ١٩٠٣م، بعيد وفاة والده. وفي الثالثة من عمره ساق العثمانيون حملة تأديبية على العشائر الكردية عقب فشل ثورة بارزان ضد العثمانيين، فأسروا الشيخ عبد السلام ( الشقيق الأكبر له ) وسجنوا الطفل( مصطفى ) مع أمه في سجن الموصل حيث قضيا فيه تسعة أشهر. وكان لوالده أربعة أولاد آخرين وهم: الشيخ عبد السلام، الشيخ أحمد، محمد صديق، بابو.
لقد لفت انتباه الناس لشخصه منذ الطفولة، لما تحلى به من خصال حميدة في السلوك والشجاعة. وحاز على عطف وحب شديدين من قبل الأسرة البارزانية. وكان منذ نعومة أظفاره ميالاً للعلم والمعرفة، ويبذل جهده وطاقته البدنية ويصقلها في ممارسة الصيد. قضى الملا مصطفى ستة سنوات في تحصيله العلمي الابتدائي على يد معلمين خصوصيين في قرية بارزان، وبعدها درس الشريعة والفقه الاسلامي في بارزان لمدة أربع سنوات. ثم استمر أثناء نفيه من بارزان في إكمال دراسته الفقهية في السليمانية
مقولات خالدة للبارزاني الأب مصطفى
إعداد د. خالد يونس خالد
•- ماذا قال البارزاني أمام الكرملين؟
بعد انهيار جمهورية مهاباد الكردستانية عام 1947 رفض البارزاني الأب الذي كان آنذاك قائداً لجيش الجمهورية، رفض الاستسلام للايرانيين وقرر الانسحاب من كردستان إلى الاتحاد السوفييتي سيراً على الأقدام مع ٥٠٠ من البارزانيين. وبعد الاصطدام بقوات الدول الغاصبة لكردستان (العراق، ايران، تركيا) والدول الحليفة لها (أمريكا، بريطانيا) وصل إلى نهر آراس فعبره مع رفاقه إلى الاتحاد السوفييتي السابق في يوم ١٧ /٦ / ١٩٤٧م ، وتحديدا إلى أذربيجان وأوزبكستان السوفيتيتين، وتعرضه ورفاقه لمضايقات من قبل قيادات الحزب الشيوعي في هاتين الجمهوريتين. وبعد موت ستالين قرر القائد الأب البارزاني السفر إلى موسكو في محاولة اللقاء بالقيادة السوفياتية الجديدة لشرح قضية شعبه وإخراجها من إطارها المحدد في أذربيجان وأوزبكستان.
قصد الكرملين مباشرة بشجاعته وجرأته المعروفة في وسط مدينة موسكو. وتوجه مباشرة إلى مكتب الاستعلامات في الكرملين وكشف عن هويته قائلاً:
‘‘أنا ملا مصطفى البارزاني جئت لأعرض قضية شعب مظلوم على شعب لينين وحزبه‘‘.
أصيب الموظف المسؤول بدهشة لأن هذا العمل غير مسبوق من رجل جريئ إلى هذا الحد.
جرى التحقيق معه في الحال، وبعد أن تعرفوا على شخصيته، نُقِل في الحال إلى فندق موسكو في وسط المدينة.
وبعد عدة جلسات تحقيق أدخلوه الكرملين لمقابلة قادة الحزب ومنها إحدى لقاءاته مع الزعيم السوفيتي خورتشوف. فسرد له ما جرى له ولرفاقه، وقص عليهم قضية شعبه المظلوم.
•- ماذا قال لرئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري السعيد؟
قال بوقار وبنفس مليئة بالثقة والاطمئنان، هذه القصة الرائعة:
قال البارزاني الخالد طيب الله ثراه: ‘‘طلب مني رئيس الوزراء العراقي الأسبق في العهد البائد نوري السعيد أن أكف عن النضال من أجل حقوق شعبي، وعرض علي وعلى أبنائي المال الكثير والقصور والوظائف العالية، فرفضتُ ذلك قطعا.
واستغرب الرجل نوري السعيد متسائلا لماذا يا بارزاني؟ فجاوبته بلا تردد وبشكل حاسم: للإنسان شيئان عزيزان، الشرف والحياة. فإماّ أن يضحي الإنسان بحياته من أجل شرفه أو يضحي بشرفه من أجل حياته. وأنا أضحي بحياتي من أجل شرفي، لأنه لا حياة بلا شرف، فالشرف باق والحياة فانية، وشرفي هو كرامة الشعب الكردي‘‘.
•- ماذا قال فيكلمته أمام أمراءالقيادات العسكرية للبيشمركة الكرد ومسؤولي الحزب الديمقراطي الكردستاتني بتاريخ 15 أبريل/ نيسان 1967؟
مقتطافات من الكلمة:
‘‘إنَّ كل ثورة وحركة في العالم لصالح الشعب، وعليه يجب على كل المسؤولين في الثورة أن يضعوا مصلحة الشعب أمام أعينهم، وينسوا الأنانية والمصلحة الشخصية. وإن أي عمل لمصلحة الشعب يجب أن ينفذ حتى إذا لم يكن لصالح الشخص المنفذ‘‘.
وقال: ‘‘إن المليونير الكردي الذي لم يساعد الثورة، يظهر أمام أبناء الشعب إنسان ذو سمعة سيئة، ولا يحظى باحتلرام الآخرين، لأن الغنى لا تخلق الشرف. إن الأموال إذا لم تصرف لمصلحة الشعب يعني أنها تؤدي إلى الرذالة. إننا لم نسمع في التاريخ مدح إنسان كان يتعاطى الأكلات الطيبة أو ينام على أفرشة ناعمة. إن الذين يُذكّر أسماءهم في سجل الشرفاء هم أولئك الذين تحملوا المشاق وناضلوا من أجل مصلحة الشعب‘‘.
وقال: ‘‘لقد أخبرتكم آلاف المرات بأنني أخدم أصغرنا، إنني لست رئيس أحد، ولا أريد رئاسة أحد، بل أريد ان أكون أخا لكم وأخدمكم، وأريد أن تكونوا إخواني وتتعاونوا معي لنصبح أبناء الشعب وفي خدمة الشعب، ونبتعد عن حب الذات والطمع والأنانية. ونكون حذرين من العدو، ولا ننسى واقعنا بورقة أو كلمة أو أكذوبة‘‘.
وقال: ‘‘إذا لم يكن هناك تعاون وتضحية بيننا، فلن نستطيع خدمة شعبنا. يجب أن تعلموا إننا لن ننتصر بالسلاح فقط، ولا بالأموال، ولا بالنهب والسلب، ولا بسلب حقوق الآخرين وقتلهم، بل ننتصر حين تكون قلوبنا صافية مع بعضنا البعض، الكبير والصغير يحترمان بعضهما البعض. كل كردي يجعل مصلحة أخيه مصلحته، وضرر أخيه ضرره‘‘.
وقال: ‘‘إنني لم أخن صديقي أبدا ولم اطمع لشئ لذاتي ولم يكن لدي حب الذات تجاه رفيقي. قدمت له خبزي وتحملت الجوع، وأعطيته ملابسي وتحملت البرد، حتى أنني شاركت في الجبهة مع إخواني وذهبت إلى المكان الذي كان يقصف بالطائرات والمدافع، والمكان الذي لم يعش فيه أحد. وكنت في مقدمة البيشمركه الذين تعرضوا للهجوم أكثر من مرة إلى أن وصلت إلى هذه الحالة‘‘.
وقال: ‘‘يجب أن لا ننسى، كل من يعمل ضمن هذه الثورة، ابتداءً بشخصي ثم المسؤولين ومرورا بالبيشمركه والعضو الحزبي. إن جرح شعور قروي أو راعي أو كاسب أو إمرأة أو طفل، أو الطعن بكرامة الآخرين، أو أخذ بيضة أو دجاجة أو أي شئ آخر من أبناء الشعب بالغدر والظلم، يعني أننا أعداء الشعب وأعداء أنفسنا. إذا كانت قلوب الشعب معنا فإن العدو لن ينال منا حتى إذا كان أقوى مما هو عليه الآن ألف مرة. أما إذا لم تكن قلوب الشعب معنا فوالله إننا نخسر ونفشل حتى إذا كنا أقوى مما نحن عليه الآن ألف مرة‘‘.
وقال: ‘‘ نحن لا نريد مخالفة الحكومة العراقية إذا لم تكن السلطة بأيدي حكومة سارقة أو لا أخلاقية تخدم أعداء العرب والكرد. إننا نريد مصلحة العراق في ثورتنا هذه. أولا للعرب، وثانيا للكرد وكل الأقليات، تركمان وآشوريون وأرمن وغيرهم من العراقيين الشرفاء. نريد حكومة ديمقراطية عادلة بالانتخابات الحرة النزيهة بدون ضغوطات وظلم واعتداء. ويوضع قانون عادل من قبل الشعب. لا أن ينادي عسكري كل يوم: قررنا ما يلي ليحكم الشعب بأنانيته ومصلحته الشخصية دون أن يتجرأ الشعب محاسبته. نحن لم نشن الهجوم على أحد ولن نفعله. نحن ندافع عن حقوقنا الشرعية وعن شرفنا وأموالنا وحياة شعبنا الكردي ... عليهم أن يرحموا بالشعب العراقي وأن يكفوا عن الظلم ضد الشعب الكردي حتى نستطيع نحن الشعب العراقي ككل أن نعيش بسعادة وأخوة وسلام وعدالة‘‘.
(ملاحظة: الكلمة طويلة جدا ألقاها البارزاني الأب مصطفى باللغة الكردية، واقتبست مقتطفات منها.
سبق لكاتب هذه السطور أن ترجم نص الكلمة إلى اللغة العربية عام 1980 ووزعت على أعضاء جمعية الطلبة الأكراد في أوربا في حينه).
•- ماذا قال للصحفي الأمريكي دانا آدمز شمدت؟
‘‘ إنَّ هدفي هو الأخذ بيد الشعب الكردي إلى عيشة مستقرة وآمنة، وكان الله في عوننا‘‘ (ينظر: شمدت، رحلة إلى رجال شجعان، ص 281).
وقال جوابا على سؤال طرحه الصحفي شمدت حين سماه جنرالا: أجاب البارزاني ببساطته المعهودة وثقته بنفسه وحبه لشعبه مايلي:
إني لست جنرالا، إني مصطفى لاغير. قل لصحيفتك إني لا أهتم قلامة ظفر بالألقاب. وإني لست إلاّ فردا من الشعب الكردي‘‘ (ص 283).
وقال: ‘‘لا أريد القول بأني فعلت كذا وعملت كذا. لكني استطيع القول بأني حائز ثقة الشعب الكردي وأعتقد أنهم يثق بي‘‘ (ص 293).
وقال: ‘‘ إني لست ضد الشعب العربي، إني أطالب بحقوق شعبي فحسب، إني لا أطلب أراضي منهم‘‘. (ص345).
ولكن ماذا قال داناآدمزشمدت بدهشة عن البارزاني؟
قال لدهشتي ‘‘أن الطعام في مقر البارزاني قد يكون أسوء من طعام أية قرية صادفناها في الطريق. إنه لا يخص نفسه ولا هم حوله بالأطايب‘‘. (ص282).
•- ماذاقال للصحفي السويدي تورد فالستروم؟
نحن ندافع عن وطننا، وكل ما نطلبه هو حقنا في الحياة الكريمة. لكننا مجبرون أن نواجه عدوا يفتقد للمشاعر الأنسانية، وعدوا لا يعرف الرحمة ولا يراعي حقوقنا. see: Tord Wallsstrom, Bergen ar vara enda vanner, p. 137
•- ماذا قال لنا في زيارتنا له بعد مؤامرة الجزائر الخيانية عام 1975؟
نحن أقوى من الجبال ،سنرجع ونثور ونصمد مع صمود جبال الكردستان.
•- عن الطلبة؟
الطلبة رأس الرمح في كل المعارك والثورات
•- عن العلم والمعرفة؟
عليكم بالعلم والمعرفة لأنهما مفتاح التحرر والتقدم
•- عن نابليون بونابرت؟
كان بونابرت مصابا بداء العظمة
•- عن الاعتزاز والثقة بالنفس؟
أنافلاح مع الفلاح وعامل مع العامل، ولكني في مرتبة أعلى من الذي يريد أن يسلط نفسه على الشعب فأقاومه.
•- عن القيادة والثقة بالشعب؟
أستمد قوتي من شعبي. لاأحب الزعامة ولكن الشعب يريدني رئيسا.
خاتمة
إنه الأب الخالد ملا مصطفى البارزاني الذي وافته المنيةفي 1/3/1979ونّقل جثمانه الطاهرإلى إيران ليوارى الثرى في قرية شنو الكردستانية، وبحضورآلاف الناس من مختلف مناطق العالم لتوديع القائد الذي ناضل من أجل حرية واستقلال شعبه.
تلاميذمدرسة البارزاني الخالد،ملتزمون بنهجه،أوفياء لفكره نبراسا يضئ دروب الظلام،سائرون على التراث الذي فتح الطريق،وزرع الأزهار والنرجس في ربوع الوطن الجميل.
إنه البارزاني،أب الكرد الذي منح حرية للبلابل كي تغرد،وجمالا للعصافير حتى تزقزق،ولولاهذه الحديقة التي اخضرت بالحرية، وبعمل وكدِ ووفاء الشهداء الذين سكبوا دماءهم الطاهرة، لما وصل الشعب الكردستاني إلى ماوصل إليه اليوم بعون الله تعالى.
إنه البارزاني الذي أبت القلوب إلاّ أن يكون الحبيب بينهم، فنُقلَ جثمانه الطاهر من قصبة شنو إلى بارزان وسط حشد جماهيري كبير لم يسبق له مثيل، تاركا وراءه نبراسا منيرا وتراثا مضيئا ونهجا وطنيا ديمقراطيا، ومدرسة لها تلاميذها ومناضليها الأوفياء لقيادته وللكوردايه تي. إنه اليوم في بارزان.
بارزان الذي قال فيه الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري:
بارزان ياقمما يشبهها الدم
وتنوء كاهلها والثلوج فتهرم
وتغازل القمر المضىء فتزدهى
وتعارك الموت الزوام فتظلم
بارزان يالغزا تعاص حله
عبر القرون الغبر فهو مطلسم
بالمصطفى عنوان نهضة أمة
يوم التخاصم باسمه يقسم
إنه البارزاني الذي سيبقى حيا في الأفكار،
وذكرى في الأفئدة،
ورمزا للأحرار،
ومحبة تُضفي بالعطر لكل أطفال وأبناء كردستان من عشاق الحرية في كل مكان.
إليك أيها القائد الإنسان محبتي وحبي بلا إنتهاء.