ليس هذا في الحقيقة عنوان معاكس للمضمون.. ولا يهدف للاستفزاز الذي يتأمل منه نتيجة عكسية, بل هو عنوان يشي بمحتوى المقال تماما, وما يدعو إليه دون تحوير. الكثير من النصائح و الدعوات والتي تأتي على شكل تغريدات و منشورات على مواقع التواصل, و ربما نسمعها في الحلقات التلفزيونية التي يقوم الدعاة بتقديمها. تلك النصائح التي توجع فينا ضمائرنا, و تلهب مشاعرنا عادة, و قد تنفع و نستجيب لها; فنقوم بإبعاد أجهزة الحاسوب و الهواتف الذكية عن مجالسنا العائلية لنكسب رضا الوالدين و كبار السن من العائلة و نسعدهم. المشكلة الحقيقية هي أن كبار السن ليسوا أغبياء، و لن يخفى عليهم أننا نجالسهم بأجسادنا، بينما نتوق إلى إلقاء نظرة على هواتفنا أو صفحاتنا على مواقع التواصل, و قد نهدم ما بنيناه عندما نقوم باستراق نظرة تكشف صراعنا هذا أمامهم. إذن فلنتفق أن حل المشكلة لا يكون بإخفاء أجهزة الهاتف الذكي, لأن هذا الفعل مكشوف, و من الممكن أن يدمر قلب الأهل و لن يحسن من العلاقة بالتأكيد. عندما بدأنا جميعا كإخوة و أولادنا معنا بالشعور بأن هناك فراغ كبير تتركه أجهزتنا الذكية وهوة تفصل بيننا و بين والدتنا -التي قاربت السبعين من عمرها- كانت المبادرة من الجميع و تم الاتفاق على شراء هاتف ذكي بشاشة كبيرة للوالدة و (تابلت) رغم تصريحاتها المتكررة بأنها لا تريد. كنا جميعا نعرف أن السبب هو تلك الأنفة التي تسكن روح الكبار عندما يتعرضون لما يظهر جهلهم أمام أولادهم - و بخاصة الأباء العرب- و هم يعتقدون أن هذا قد يقلل من شأنهم, و ينقص من احترام أولادهم و أحفادهم لهم, و يجعلهم مثار سخريتهم. هذه هي الحقيقة التي تمنع الآباء من التعلم, و هي فكرة تكاد تكون معكوسة تماما في الدول و البلاد المتقدمة، فلا نكاد نرى جامعة إلا و فيها من ذوي الشيب و المشيب على مدرجاتها، و في قاعاتها و على مقاعدها و ينظر إليهم المجتمع بإعجاب، و ينالون ما يستحقونه من تشجيع و إعجاب و احترام من الجميع. لم يخل الأمر من أوقات صعبة و مملة، كانت تتذمر والدتي فيها من التعلم و تتأفف من تعجلنا, و لكنها كانت كلما خلت إلى هاتفها تحاول, وتنادي على أحد أحفادها و كان ودودا، طيبا، رائقا، و متواضعا معها, و كانت تسأله فيجيبها, و يعلمها, و تبتسم, و تترضَّى عليه. اليوم والدتي تتابعنا على صفحات موقع التواصل ( الفيس بوك)، و تشترك معنا في مجموعات الواتس العائلية، و تتحدث مع صديقاتها و أخواتها اللواتي يعشن في الغربة, و لم تعد تشعر بالفراغ، و لم تعد تشعر بأنها عبئ على جلساتنا، وأننا نترك أجهزتنا لأجلها، بل بتنا نضحك أحيانا لأنها تكون معنا في جلساتنا العائلية، و أمامنا فناجين قهوتنا و نجدها مشغولة بحديث مع صديقة لها، أو إحدى أخواتها على برامج التواصل، فنضحك من سرورنا بها, و نترحم مازحين على الأيام الخوالي. أن نتخلى عن التقنية لأجل الكبار، أمر لن يحل المشكلة أبدا, بل يشبه فعل ذاك الذي يملك إحدى أنواع (المايكروويف) ثم يقوم بإشعال الحطب لتسخين الطعام رحمة بجاره الفقير, و كان الأولى به أن يشتري لجاره ما يسخن به طعامه. وقد بتنا متأكدين أن الحل الأكيد والصحيح هو التواضع لهم, و خفض الجناح, و البدء بتعليمهم عليها خطوة خطوة, دون تكبر, و دون ترفع, و دون سخرية, حتى نجدهم قد اندمجوا, و انسجموا, و استمتعوا بهذا العالم الجديد الجميل الثري, و من ثم نسمع و نستمتع لسماعنا من أفواههم كلمات الرضا عنا.