صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 1 23 الأخيرةالأخيرة
النتائج 11 إلى 20 من 21
الموضوع:

اقرأ واستمتع مع قصة عابر سبيل للكاتبة احلام مستغاني - الصفحة 2

الزوار من محركات البحث: 1112 المشاهدات : 3755 الردود: 20
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #11
    من أهل الدار
    انثى استثنائية
    تاريخ التسجيل: October-2014
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 5,145 المواضيع: 361
    صوتيات: 0 سوالف عراقية: 1
    التقييم: 2052
    آخر نشاط: 19/January/2018
    مقالات المدونة: 42
    عندما انتهينا من قراءة فاتحة على روحه, ابتعدنا ثلاثتنا نحو ركن قصيّ من الصالة. اغتنمت الفرصة لأمدها بكيس فيه دفاتر صغيرة سجّل عليها زيان أفكاراً مبعثرة على مدى سنوات, وأوراق أخرى كان يحتفظ بها في ظرف, أظنها كانت لزياد, نظراً لصيغتها الشعرية المتقنة, ولاختلاف خطّها عن خطّ زيان.
    وضعت أيضاً في الكيس كتابيها, بدون إهداء, كما احتفظ بهما زيان لسنوات, واضعاً سطوراً على بعض الجمل. ولم أنس طبعاً كتاب " توأما نجمة" كما أهدته إياه قبل أيّام في آخر زيارة لها.
    هكذا أكون قسَّمت تركة خالد بين امرأتين, واثقاً بأن واحدة ستسارع بإلقاء معظمها في الزبالة, ولن تحتفظ سوى باللوحات لقيمتها الماديّة, وأخرى وقد فقدت اللوحات.. ستصنع من خسارتها كتاباً.
    لم أحتفظ لنفسي سوى بساعته, غير واعٍ أنني سأقع في فخّ تلك الساعة في ما بعد , فكيف يمكن مقاربة الحياة انطلاقاً من الموت, لكأنّ عقارب الوقت التي وهبت سمّها لعقارب ساعتك, تدور ضدّك, وفي كلّ دورة تستعجلك الفناء.
    قلت كما لأبرر لناصر مدِّي أخته بذلك الكيس:
    - إنها بعض أوراق وكتابات تركها زيان, قد تستفيد منها السيدة حياة إن شاءت أن تكتب شيئاً عنه.
    - لا تهتم ستتكفَّل الصحافة بعد الآن بتكفينه بورق الجرائد.
    لم تفتح الكيس, ولا حاولت أن تلقي نظرة على محتوياته. حتماً لم تتوقّع موقفاً عجيباً كهذا, لكنّها توجهت إليَّ لأول مرة وسألتني:
    - بالنسبة للوحاته, ماذا فعلتم بها؟
    قلت:
    -أظنها بيعت في معظمها.
    قال ناصر:
    - عندما أخبرتني بموته, أول فكرة خطرت ببالي بعد المكالمة, تلك اللوحة التي حكيت لي أنا ومراد كيف أقنعته أن يبيعك إياها. في البدء ظننتك مجنوناً لأنك دفعت فيها كل ما تملك, ثم بعد ذلك فكرت أن ثمة أشياء لا تعوّض ويجب على المرء أن لا يفكّر في الثمن عندما تعرض عليه.
    سألت بفضول:
    - عن أية لوحة تتحدثان؟
    وقبل أن أرد أجاب ناصر:
    - عن لوحة رسمها سي زيان في بداياته وكانت تعزّ عليه كثيراً.
    إنها تمثّل جسر سيدي مسيد.
    قالت بتهذيب يضع بيننا مسافة للبراءة الكاذبة:
    - أتمنى أن أراها. أيمكنك أن تترك لي هاتفاً أو عنواناً أكاتبك عليه إن احتجت شيئاً في ما يخص أعمال زيان؟
    كانت هذه آخر حيلة عثرت عليها لتطلب عنواني في حضرة أخيها , فهي تعرف عاداتي في الاختفاء المفاجئ من حياتها.
    أجبتها بطريقة تفهم منها أنني لم أتغيَّر:
    - آسف , فليس لي عنوان ثابت بعد- مضيفاً بعد شيء من الصمت- ثم إنني... بعت تلك اللوحة!
    صرخ الاثنان بتعجب:
    - بعتها؟ وعلاش؟
    " وعلاش؟"
    لم يكن المكان مناسباً لأشرح لهما " لماذا" بعتها. فقد يكون زيان يسترق السمع إلينا, وفاجعة واحدة تكفيه. ذلك أن السؤال سيتوالد ويصبح " كيفاش؟" و " بقداش؟" و " لشكون؟"
    وبكم ليست شيئاً قياساً بلمن, فعندها سأصبح خائناً باع الجزائر والأمة العربية جميعها للغرب, وبسببي سقطت غرناطة وضاعت القدس, فحتماً ثمة مؤامرة حيكت ضد الأمة العربية, دبرها الرواق بالاشتراك مع المستشفى, خاصة أن معظم الأطباء هم من اليهود. وهل ما يحدث لنا منذ قرون خارج المؤامرة؟
    كانا مازالا مذهولين ينتظران مني جواباً, ولم أجد شيئاً لأجيب به عن سؤالهما " وعلاش؟". فأحياناً يلزمك كتابة كتاب من هذا الحجم لتجيب عن سؤال من كلمة واحدة :" لماذا؟"
    هل صدمها حقاً فقدان تلك اللوحة.. فأفقدتها الفاجعة صوتها!

    أظنها كانت ستقول شيئاً, عندما علا صوت المضيفة على الميكروفون يطالب المسافرين إلى قسنطينة على متن الخطوط الجزائرية, الرحلة رقم 701, بالالتحاق بالبوابة رقم 43.
    بدت كأنها وجدت في ذلك النداء ذريعةً للتأهب لمغادرة المكان, فما عاد ثمة ما يقال.
    حضرني قول مالك حداد: " في محطات السفر والمطارات, مكبرات الصوت تقول" على السادة المسافرين التوجه إلى..." ذلك أن السيدات لا يغادرن أبداً".
    فعلى أيامه كانت النساء ممنوعات من السفر, قابعات في البيوت. أما اليوم, فلا وقت لهن لمرافقة حبيبٍ يسافر في تابوت.
    ضمّني ناصر إلى صدره وقال:
    - ربي يعظّم أجرك, ويحميك. لو كنت نقدر ندخل للجزائر والله نروح معالك.. لكن هاك على بالك.
    ثم وقف أمام الجثمان لحظات متمتماً بكلمات كأنها دعاء. لمحته يمسح دموعاً دون أن يرفع يده اليمنى عن النعش.

    هل أيقظ دعاء ناصر شيئاً فيها؟ هل ذكَّرها نداء الميكروفون أنني أنا وهذا المسجّى مسافران معاً, وأنها فقدتنا نحن الاثنين؟
    مدت يدها نحوي موّدعة. رأيتها لأول مرة أمام جثمانه مجهشةً بالبكاء.
    كنت أحتقر تعاسة الذين لا يجرؤون على الاقتراب من السعادة الشاهقة, الباهظة, التي لا تملك للسطو عليها إلا لحظة, فالحبّ الكبير يختبر في لحظة ضياعه القصوى.
    تلك اللحظة التي تصنع مفخرة كبار العشّاق الذين يأتون عندما نيأس من مجيئهم, ويخطفون سائق سيارة ليلحقوا بطائرة ويشتروا آخر مكان في رحلة, ليحجزوا للمصادفة مقعداً جوار مَن يحبّون.
    الرائعون الذين يخطفون قدرك بالسرعة التي سطوا بها ذات يوم على قطار عمرك.
    كنت أريد حباً يأتي دقائق قبل إقلاع الطائرة فيغِّير مسار رحلتي, أو يحجز له مكاناً جواري. لكنها تركتني معه.. ومضت.
    لم تقل شيئاً. فقط بكت. وخالد ظلَّ يكفنه البرد بيننا. استطعت أن أؤمن له ثمن تذكرة, وما استطعت أن أتدبَّر له معطفاً.

    كان الميكروفون يكرر النداء. إنه وعي الفراق, ولا مناديل للوداعات الكبيرة.
    وحدي كنت معه, عندما جاؤوا لنقله. حملوه ليقبع هناك شخصاً بين الأمتعة. أمّا أنا فولجت الطائرة متاعاً بين الركاب.
    افترقنا هناك, برغم أننا كنا نأخذ الطائرة نفسها أنا وهو.
    ذهب آخر رفاق الريح, وبقيت مرتعداً, لا أدري كيف أوصد الباب خلف رجل عاش كما مات في مهب التاريخ, واقفاً فوق جسر. في كل غربة, كأسماك الصومون, تبحث عن مجرى مائي يعيدك من حيث جئت, سالكاً جسراً للوصول. لكن, ليس بسبب النهر وُجد الجسر, إنه كالمواطنة, لم تبتدع إلا بسبب خديعة اسمها الوطن.
    فنم نومة لوحة, ما عاد جسرك جسراً يا صاحبي.



    ***
    استعادت المطارات دورها المعتاد.
    في كل مطار ينتصر الفراق, وتنفرط مسبحة العشاق.
    مطارات تنادي عليك في استرسال محموم, مرددة رقم رحلتك, تلك التي تكفّل القدر بنفسه بحجزها لك, في مكتب السفريات الذي اختصاصه رحلتك الأخيرة.
    ما جدوى كل هذه النداءات الملحاحة إذن لتذكيرك بوجهتك, وكل هذه الإشارات المضيئة لتوجيهك نحو بوابتك, أيها المسافر وحيداً, في صندوق محكم الإغلاق, لا تذكرة في جيبك, وكل الممرات توصل حيث أنت ذاهب.
    يا رجل الضفّتين, مسافة جسر وتصل. إنها ساعتان ونصف فقط, وتستقر في حفرتك, على مرمى قدر, لك قبر في ضيق وطن.
    تجلس على مقعدك, وتدري أن تحتك ينام الرجل الذي كان توأمك, محتمٍ بصمته من إهانة الحقائب والصناديق التي ألقي بينها.
    ما عاد الرجل الذي كان, ولا الرسام الذي كان. إنه صندوق في حمولة طائرة.
    ليس الصندوق الذي يفرِّق بينكما, إنما كونه أصبح يقيم منذ الآن في العالم السفلي, بينما ما زلت أنت تجلس وتمشي وتروح وتجيء فوقه. لك ذلك الحضور المتعالي للحياة.
    لو يحدث أن عرفت موقفاً غريباً كهذا. السفر مع جثمان ميت, حجزت له بنفسي تذكرة معي, أو بالأحرى حجزت لنفسي تذكرة معه.

    أستعيد كتاب " توأما نجمة" وصاحبه الذي يروي كيف وجد نفسه لمصادفة غريبة, المرافق لجثمانيْ كاتب ياسين ومصطفى كاتب من مرسيليا إلى الجزائر. وأجد عزائي في احتمال أن يكون قد عرف ألماً مضاعفاً لألمي ما دام سافر مع جثمانين.
    ثم تقودني الأفكار إلى تلك الأخبار التي نقلتها الصحف في الثمانينات عن طائرات بلد عربي مخصصة لنقل البضائع, حوّلتها الضرورة إلى طائرات للنعوش, وراحت لأسابيع تنقل في رحلات مكّوكيّة أحلام آلاف المصريين الذين قصدوا ذلك البلد للعمل بنوايا وحدوية, وعادوا منه مشوّهين في صناديق محكمة الإقفال, أغلقت على أحلامهم المتواضعة التي تم التنكيل بها, عندما أعلن رسمياً في ليلة ظلماء وفي خضم الإحتفالات بعودة الجنود الأبطال من حربهم ضد الجيران, فتح موسم إصطياد الغرباء الذين اتّهموا بإنتهاك شرف النساء.. أثناء انشغال أبناء الوطن بالدفاع عن الأمة العربية.
    إنه الموت العربي بالجملة وبالتجزئة. الموت مفرداً ومثنى وجمعاً, الذي لا تدري أمامه هل أكثر ألماً أن تسافر في طائرة لا يدري ركابها, وهم يطاردون المضيفة بصغائر الطلبات, أن تحتهم رجلاً ميتاً, أم أن تكون قائد طائرة عربية لا مضيفات فيها ولا خدمات, لأن جميع ركابها أموات؟!

    يذكرني الموقف بصديق ينتمي إلى إحدى " الممالك" العربية, سأله أحدهم مرة:" من أين أنت؟" أجاب ساخراً :" من المهلكة", فردَّ عليه الثاني مزايداً:" وأنا من أمّ المهالك", وضحك الاثنان على النكتة. فقد تعرَّف كلاهما على بلد الآخر, دون أن يتّفقا على أيّ منهما كان أكثر هلاكاً من الآخر!
    هالك يا ولدي.. مهلوك. وفي هذا المطار بإمكانك أن تختبر حجم الأذى الذي ألحقه القتلة بجوازك الأخضر.
    ذهب عنفوانك. مثير للريبة حيث حللت, تفضحك هيئتك, وسمرتك, وطابور المتدافعين, والكلاب المتدربة على شمشمة أمثالك.
    مذ قام الإرهابيون باختطاف طائرة فرنسية وقتل بعض ركابها, والجزائريون يخضعون لحجر أمنيّ في المطار, كما لو أن بهم وباء, وعليك أن تقف أعزل أمام جبروت الأجهزة الكاشفة لكل شيء, والكاميرات الفاضحة لنواياك, والنظرات الثاقبة لأحاسيسك, والإهانات المهذبة التي تطرح عليك في شكل أسئلة.

    تستااااااااهل ما الذي جاء بك؟
    من ردهة إلى ممر إلى معبر, لست سوى رقم في طوابير الذلّ. فكيف وقد اعتدت المذلة أن تطالب باحترام أكثر على متن " طائرتك"؟
    لا رقم لمقعدك, وعليك أن تدخل في سباق الفوز بكرسيّ, أن تكون لك جسارة تجّار الحقائب في التدافع.
    فالكرسيّ, أيّ كرسيّ, لا بدّ من الاقتتال للفوز به. ثمة من أرسلوا أناساً باالآلاف إلى المقابر للجلوس عليه, والانفراد به, وأنت تريد كرسيّاً من دون عناء!
    وتريد مكاناً تضع فيه حقيبة يدك, ولكنهم سبقوك واحتلوا كل شيء. الكل محمَّل بالحقائب البائسة المكتظة بالعمر الغالي, والجميع حريص على ما في يده, أكثر من حرصه على نفسه, لا يدري أنْ لا شيء سوى الإنسان سريع العطب.

    أتساءل, أين كنت إذن سأضع تلك اللوحة لو كنت أحضرتها معي. فحتى إن قضيت نصف الرحلة في إقناع المضيفة بأهميتها, ماذا كانت تستطيع أن تفعل أكثر مما فعل غيرها في موقف كهذا؟ فأنا لم أنسَ تلك الكاتبة المقيمة في المهجر, التي شاهدتها على التلفزيون الجزائري تحكي, كيف أنها عندما عادت لزيارة الجزائر, ومعها حقيبة صغيرة لا تفارقها, فيها كتاباتها ومخطوط روايتها الجديدة, ما وجدوا في تلك الطائرة الواصلة من سوريا والمليئة برهط غريب من تجّار الأرصفة الذين لا يحتاجون إلى تأشيرة لدخول الشام, أيّ مكان يضعون فيه الحقيبة, فتطَّوع مضيف للتكفّل بها عندما أبلغه بعض من تعرَّف عليها من الركاب, أنها حقيبة كاتبة لم تعد لوطنها منذ سبع سنوات.
    في منتصف الرحلة جاء من يخبرها أن حقيبتها كرّمت بوضعها في " مرحاض الطائرة". المضيف قال إنه كان شخصياً يقوم بإخراجها وإعادتها إلى مكانها في الحمام, بعد مرور كل راكب, لأنهم أوصوه خيراً بها, ولولا معزّتها واحترامه للأدب لما وضعها في " بيت الأدب", ولأصر على إنزالها مع بقية الحقائب إلى جوف الطائرة.. وارتاح!
    ماذا تقول لوطن يهينك بنية صادقة في الاحتفاء بك؟

    إحدى الصور التي تمنيت لو التقطتها, هي صورة حقيبة الكاتب, مرمية أرضاً في مرحاض الطائرة بعد أربع ساعات من الطيران, بينما تسافر بضائع المهربين الصغار مصونة محفوظة في الخزائن الموجودة فوق رؤوس أصحابها.
    لو نشرت صورة كتلك, لجاء من يقول إنني أهين وطني أمام الغرباء, وأعطاني درساً في الوطنية, ذلك أن الوطن وحده يملك حق إهانتك, وحق إسكاتك, وحق قتلك, وحق حبّك على طريقته بكل تشوهاته العاطفية.
    كيف حدث هذا؟ وكيف وصلنا إلى شيء على هذا القدر من الغرابة؟
    لا تنتظر أن يجيبك أحد هنا. فالجواب ليس في طائرة, إنما في مكان آخر حيث كان إقلاعها الأول.

    عليك بعد الآن وإلى آخر عمرك أن تجيب: لماذا حصلت على تلك الجائزة دون غيرك؟ لماذا أخذت تلك الصورة لذلك الطفل وذلك الكلب دون سواهما؟ لماذا بعت تلك اللوحة لذلك الشخص دون سواه؟
    أنت مطالب بالإجابة على أسئلة يحتكر غيرك الردّ عليها, من أنت حتى تغيّر مجرى التاريخ أو مجرى نهر لست فيه سوى قشة يجرفها التيار إلى حتمية المصب؟
    أنت لا تعرف حتى ماذا تفعل هنا, وكيف أصبحت الوصيّ على هذا الجثمان وأنت مثقل بالوصايا, متعب بنوايا يحرسها القتلة.
    تتمنى لو كنت محمد بوضياف عائداً إلى الوطن في طائرة فرحتك لإنقاذ الجزائر, لو أن لا حقائب لك, لو أن يديك ممدودتان لتحية المستقبلين ملوّحتان بتوعد القتلة واللصوص الكبار المهيبين. لكن هو نفسه عاد مرتدياً كفنه, وما فتح ملفّاً إلا وفتح معه قبره.
    فاربط حزام الأمان يا رجل, وتابع شروح المضيفة حول أقنعة الأوكسجين, وصدريّة النجاة.

    ***

    اخترت بنفسي العجوز التي ستجلس جواري, أما الفتاة التي جلست على شمالي, فهي التي اختارتني. قد تكون استلطفتني مقارنة بالخيارات الرجالية الأخرى.
    فمهمّ في رحلة طويلة كهذه ألا تجد نفسك مربوطاً جوار من سيزيدونك هماً وغماً, فينتابك إحساس من توقف به المصعد, ووجد نفسه محجوزاً مع أناس لا يستلطفهم, وعليه أن يتقاسم معهم حدوده الإقليمية وأجواءه الحميمية المستباحة بحكم المكان.
    وكنت بعد عبورنا نقطة التفتيش, قمت بمساعدة تلك العجوز على حمل الكيس الكبير الذي لا أدري كيف حمَّلوها إياه, أو كيف أصرَّت هي على حمله وراحت تتوقف كل حين لتستريح قليلاً من عبئه.

    أحبّ عجائزنا, ولا أقاوم رائحة عرق عباءاتهن, لا أقاوم دعواتهن وبركاتهن. لا أقاوم لغتهن المحملة بكمّ من الأمومة, تعطيك في بضع كلمات زادك من الحنان لعمر.. وبعض عمر.
    - يعيشك يا وليدي.. ربي يسترك ويهزّ عنك هم الدنيا.. ربي يزيِّن سعدك.
    كلمات وأقع في ورطة عاطفية مع عجوز, وإذ بي حمّال وعتّال ومرافق لها, ومسؤول عن إيصالها حتى قسنطينة.
    أهي عقدة يتمي؟ دوماً خطفتني العجائز وغيَّرن وجهتي.
    فما صادفت واحدة تنوء كهولتها بقفّةٍ, إلا ووجدتني أحمل وزرها عنها مدّعياً أنّ وجهتها تصادف وجهتي. مرة تسبب لي الأمر في صفعة تأديبية من أبي, الذي لم يصدِّق عذر تأخري في العودة من المدرسة.
    كانت العجوز ذاهبة صوب رحبة الصوف لبيع أرغفة أعدّتها في البيت, وقضيت ساعة أمشي جوارها حاملاً محفظة المدرسة بيد, وقفّتها بيدي الأخرى.
    كانت تلك الصفعة الوحيدة التي تلقّيتها في حياتي من أبي.

    كانت العجوز الجالسة جواري تسافر لأول مرّة بمفردها, وجاءت إلى باريس لزيارة ابنتها التي وضعت مولودها الأول. وقبل أن تقلع الطائرة كنت عرفت تقريباً كل شيء عن حياتها.
    لا سرّ للعجائز, كلّ الذي ينقصهن هو رجل مشدود الوثاق إلى كرسيّ, له صبر الاستماع إلى خيبات كهولتهن.
    كانت مرعوبة من الطائرة, وتريد أن تفهم كل شروحات المضيفة فيما يخصّ صدرية النجاة وقناع الأوكسجين وحزام الأمان ومخارج الطوارئ. ثم تعود من رعبها وتستسلم للمكتوب وتقول إن الأعمار بيد الله, وتواصل ثرثرتها عن صهرها الذي اشترى محلّ قصابة في فرنسا, وابنها الذي يسعى إلى الحصول على أوراق للإقامة في باريس, بعد أن كره العيش في قسنطينة التي كانت ملاذ الفقير فأصبحت مدينة الفقراء. كان المحتاج يقصدها لعلمه بثراء أهلها وكرمهم, وأصبح الآن يقيم فيها مع آلاف الفقراء الذين جاؤوها من كل صوب وأفقروا أهلها.
    - منين جاوْ يا ولدي " جوج وماجوج" هاذُو اللي كلاوْ الدنيا.. وهججونا من البلاد.. يا حسرة راحوا دار شكون وشكون. بقاوْ غير الرعيان. على بالك أنا بنت شكون؟
    ولم أكن على استعداد لأعرف هذه العجوز ابنة مَن, ومن أية شجرة تنحدر. فأنا لم أكن هناك لأخطبها, ولكن لا يمكن أن تمنع عجوزاً من التباهي بأصلها, وهو كل ما بقي لها في زمن الذلّ.
    كانت من العائلات العريقة في قسنطينة. اشتهر عمها بإنشاء أول شركة لإنتاج التبغ في الجزائر. كان ممن يُضرب بهم المثل وجاهة وغنىً, وأفهم ألا تتقبل فكرة أن تنتهي ابنتها زوجة لرجل اغتنى في الغربة, ولم يغتنِ عن إرث أباً عن جدّ, ولا فكرة أن تتقاسم الطائرة مع " الرعيان" و "بني عريان".. ولكن:
    - هذي الدنيا يا امّا واش نديرو..

    في غمرة اندهاشهم بها, أطلق القدامى على قسنطينة اسم " المدينة السعيدة", وهذه العجوز الأميّة كم وفَّرت عليها أمّيّتها من ألم, فهي لن تقرأ يوماً ما قيل في قسنطينة. هي فقط ترى ماآلت إليه. قسنطينة المكابرة لا تدري ماذا تفعل بثراء ماضٍ تمشي في شوارعه حافية.
    قسنطينة الفاضلة التي تحرسها الآثام ويحكمها الضجر المتفاقم, وهذيان الأزقة المحمومة المثقلة بالغرائز المعتّقة تحت الملايات.
    لم تتغيَّر. ما زال يرعب نساءها الجميلات التعيسات, الشهيّات الشهوانيات, الخوف المزمن من نميمة أناسها الطيِّبين الخبثاء. ولذا, هي تجلس صامتة على يساري, وأنا قدري حيث أذهب أن أقع بين فكيّ حبّها.
    عندما, بعد ذلك, مرَّت المضيفة تعرض علينا الجرائد, سمعت الفتاة لأول مرة تنطق لتطلب جريدتي "الوطن" و "الحرية". لم يبق من نصيبي سوى " الشعب" و "المجاهد". تقاسمنا بالتساوي أكاذيب العناوين.
    يحضرني دائماً في مثل هذه المواقف, قول ساخر لبرنارد شو معلّقاً على تمثال الحرية في أمريكا " إن الأمم تصنع تماثيل كبيرة للأشياء التي تفقدها أكثر" وهو ما يفسّر وجود أكبر قوس عربي للنصر في البلد الذي مُني بأكبر الخسائر والدمار.

    إمعاناً منّا في تضخيم خسارات ندّعي اكتسابها, نذهب حتى إضافة ما نفتقده إلى أسماء أوطاننا. ولأن الجزائر خرجت إلى الوجود "جمهورية ديمقراطية شعبية", فقد حسمنا منذ الاستقلال مشاكل الشعب وقضية الديمقراطية, وتفوقنا منذ البدء في ما يخصُّ الحريات على أية دولة أوربية تحمل اسماً من كلمة واحدة!
    أمة تحتفي بخساراتها, وتتوارث منذ الأندلس فن تجميل الهزائم والجرائم بالتعايش اللغوي الفاخر معها.
    عندما نغتال رئيساً نسمِّي مطاراً باسمه, وعندما نفقد مدينة نسمِّمي باسمها شارعاً, وعندما نخسر وطناً نطلق اسمه على فندق,وعندما نخنق في الشعب صوته, ونسرق من جيبه قوته, نسمّي باسمه جريدة.


  2. #12
    من أهل الدار
    انثى استثنائية
    انشغلنا بتصفّح الجرائد. لم نتبادل أية كلمة. كانت امرأة غامضة كبيوت نوافذها إلى الداخل, وكان جميلاً الجلوس بمحاذاة أنوثتها المربكة التي توقظ الرواسب العاطفية المتراكمة فيك, وتجعلك تكتشفها من مشربيات النوافذ.
    عبرتني فكرة مجنونة: ماذا لو كان الحب يجلس على يساري, أنا الذي لم أقاوم يوماً إغراء امرأة صامتة, ولا جمالية أنوثة تحيط كل شيء فيها بلغز.
    عندما جاؤوا بوجبة العشاء, بدا على العجوز حماسة بددت فجأة خوفها من الموت, وأوقفت سيل الأسئلة التي كانت تطاردني بها, عن اهتزاز الطائرة كما تبدّى لها من النافذة. بل إنّها استفادت من فقدان شهيتي للأكل, لاستئذاني في تناول بعض ما في صينيتي.

    أثناء ذلك, كانت الغادة القسنطينية التي على يساري تأكل بدون لهفة, كما لو أنها تأكل بحياءٍ مترفّع, كذلك الزمن الذي كانت النساء يختبئن عن الأنظار ليأكلن, وكأن كل متعة لها علاقة بالجسد لا بد أن تمارسها النساء سرّاً, وأن أيّ جوع جسدي لا يليق بامرأة إشهاره.

    بعد العشاء, أُخفتت الأضواء, وقامت المضيفة بتوزيع بعض الألحفة على المسنين والأطفال, فطلبت لحافاً للعجوز عسى النوم أن يخدر عضلة الثرثرة بين فكيّها, وتكفّ مع كلّ مطبّ هوائيّ عن التبؤ لنا بكارثة جوّيّة.
    مسكينة هي, تعتقد أن لا أخطر من طائرة محلقة في السماء.
    لا تدري أن الموت قد يدبِّر لك مقلباً آخر, وينتطرك أرضاً عند سلّم الطائرة, كما حدث مع عبد العزيز, الصيدلاني المعروف في العاصمة بحبه للحياة, وبخدماته الكثيرة للناس. قائد الطائرة كان من معارفه, فقام بنقله للدرجة الأولى وأوصى المضيفات به خمراً, فرحن يسقينه كؤوس الويسكي الواحدة بعد الأخرى, بحيث كان بعد ساعتين من الطيران بين باريس والجزائر غير قادر على الوقوف على رجليه. وما كاد يضع قدميه على أول درج للطائرة حتى تدحرج من سلّمها الحديدي الضيق الذي كان يهتزّ تحت قدميه, وانتهى جسده في الأسفل ليموت بعد يومين إثر نزيف في الدماغ. فلكونه كان من ركاب الدرجة الأولى, وأول من نزل السلم لم يكن أحد ليسبقه ويحول دون تدحرجه حتى الموت!
    فهل كان قائد الطائرة يدري أنه بتغيير درجته من الثانية إلى الأولى, كان يتمادى في تدليله حدّ إيصاله إلى مرتبة " شهيد" من الدرجة الأولى؟

    في الطائرة, كما في الحياة, عليك أن تحترم قانون المراتب, ولا تتحايل لتقفز مرتبة, فرّبما كان في ذلك المكسب هلاكك. عليك أن تعرف منذ البدء أين يوجد مكانك, في الأولى أم في الثانية. فأيّ تحايل قد يحيلك إلى أسفل.. مع الحقائب!
    عليك أيضاً أن تتأكد أين يوجد مقعدك: على يمين أم على شمال الحب, فالمأساة تبدأ عندما يتسلى القدر بفوضى ترقيم المقاعد.

    كنت دائم التنبه إلى الفتاة الجالسة جواري, إلى عطرها الخفيف, وإلى تلك الرغبات الصامتة التي تولد في العتمة. يكفي شيء من الضوء الخافت, لتستيقظ الحواس وتصبح النساء أجمل مما هنّ عليه.
    قليل من العتمة يوقظ الوهم الجميل فينا, أمّا حلكة التعتيم, فتساوينا بسكان العالم السفلي.
    لم أستطع أن أغفو. ابتسامة بكعب عالٍ, تجاملك من فوق أنوثتها, وتحتك..آه تحتك ثمة ما يمنعك من الابتسام, أنت الجالس بين التقاطع المربع للحياة والموت.

    فجأة أشعلت المضيفة الأضواء, وباشرت بتوزيع بطاقات النزول, بينما مرَّت أخرى لجمع الألحفة من الركاب.
    لاحظت أن العجوز لم تسلِّم لحافها إلى المضيفة, لمحتها تطويه وتخفيه في كيسها. خوفها من الموت لم يمنعها من السطو على تفاهات الحياة.
    إنها كأولئك الذين تنجو طائرتهم من كارثة جوية, أو ينجون من حريق شبَّ في بيتهم, وبعد أن يكونوا عرفوا كل أنواع الويلات, ما يكادون يعودون للحياة حتى يباشرون البحث عن أمتعتهم والتحسر على ما لحق بها من تلف.
    هي تأخذه لا لحاجتها, بل لمجرد " نتف" شركة الطيران. فالذين ينهبون الوطن فوق بالملايين, أعطوا للبسطاء حق سرقة الأشياء الصغيرة أو إتلافها, مساهمة منهم بالتنكيل بوطن حماته لصوصه.

    فيمَ قد ينفعها هذا اللحاف الصغير؟ ذلك النائم تحت في المكان الأكثر برداً في الطائرة, أحوج منها إليه.
    أكانت ستفقد شهيتها للأكل, لو أنا أخبرتها بوجوده؟ هل كانت ستتفرَّغ للدعاء والصلوات وتقلع عن سرقة الألحفة, لو أنها علمت أن لا شيء يفصلها عن الموت, وأنها في أيّة لحظة قد تنتقل للإقامة تحت؟
    من عادة الجالسين فوق, أن يرفضوا التفكير في أنّ في كل موقع يمرون به, ثمة طابق سفلي يتربص بهم.
    سألتني العجوز:
    = واش آوليدي وصلنا لقسمطينة؟
    أجبتها:
    - ما زال ثلث ساعة ونوصلو آمّا.
    باشرت بملء استمارتي واستمارتها. هو لا استمارة له, ربما أن له ترف السفر بتذكرة تساوي أضعاف ثمن أية تذكرة لراكب يجلس "فوقه".
    حتماً في الأمر مزحة ما. إنه يساوي ميتاً, أضعاف ما كان يساويه حيّاً, فلماذا إذن هو بارد وحزين إلى هذا الحد؟
    ألم ينتظر يوماً مطيراً كهذا عمراً بأكمله يعود فيه محمولاً على أكتاف السحب إلى قسنطينة؟
    هاهوذا بلغها أخيراً.

    قسمطينة..آ الميمة جيتك بيه. صغيرك العائد من براد المنافي, مرتعداً كعصفور ضمّيه. كان عليه أن يقضي عمراً من أجل بلوغ صدرك. وليدك المغبون, لفرط ما هو لك ما عاد هو, لفرط ما كان خالد ما عاد زيان, لفرط ما أصبح زيان ما وجد له مستقراً غير قبر أخيه.
    نحن أبناء الصخرة, ما عدنا ندري أيَّا منا صخر. ما عادت من خنساء لنستدل على قبرنا بدموعها. كلنا في هذه الطائرة "صخر". لكن ما عليهش يا امّا.. سنواصل توسيع المدافن.

    فجأة نطقت تلك الفتاة المحصَّنة بالصمت كقلعة, وقالت:
    -هل بإمكاني أن أستعير قلمك؟
    أجبتها وأنا أمدّها بالقلم:
    - حتماً..
    كان في صوتها غيم و رذاذ, وحزن موسيقى تنهطل. لكنّي فتحت مظلة الصمت.
    كنت مغلقاً في وجه رياح الرغبات المباغتة, متحاشياً درباً متعرجاً قد يوصلني إلى امرأة جالسة على الكرسيّ الملاصق, ففي قسنطينة ذات المنعطفات الكثيرة, ليس ثمة طريق مستقيم يوصلك إلى مبتغاك.. المسار دائماً لولبيّ!
    أعادت لي القلم بعد أن انتهت من ملء استمارتها. لم تقل سوى "شكراً" وانكفئت في صمتها.
    تكفَّلت جارتي بفضول العجائز سؤالها:
    - إن شاء الله كاين اللي يجي يلاقيك في هاذا الليل يا بنتي, وإلا نوصلوك معانا أنا وابني. الحالة ماهيش مليحة هاذ الأيام.
    ردت شاكرة:
    - يعطيك الصحة.. راح يجي خويا يلاقيني.
    استنتجت أنها لم تكن متزوجة وأنها تعيش مع أهلها.

    كانت المضيفة تمر لحظتها بعربة البضائع. طلبت منها علبة سجائر. كنت على وشك أن أدفع ثمنها, عندما سمعت الفتاة تسألها إن كان يوجد عندها ذلك العطر. بقيت مندهشاً, شعرت أنّ الحياة تستفزني, وتواصل معابثتي.
    كان الأمر شيء يتجاوز جمال مصادفة تطابق في اختيار نوع عطر بالذات, إلى هول تصادف وجود تابوته تحتنا. هو الذي كان يحتفظ بين أشيائه بقارورةٍ فارغة لهذا العطر نفسه.
    ما عاد السؤال: من أين له تلك القارورة؟ وعلى أية أنثى انسكبت؟ ومنذ متى وهو يحتفظ بها كما يحتفظ يتيم بشيءٍ وحده يعرف قيمته؟ بل غدا سؤالاً آخر إقشعّر له جسدي: ماذا لو كان هو الذي طلب ذلك العطر لأنه اليوم أحوجنا إليه؟
    غير أنه في العالم السفلي, حيث هو, لم يتحرر بالموت من الحياة فحسب, بل تحرر به من محنة يتمه واغترابه. فما حاجته إلى عطرٍ يسكبه في قارورة اليتم الفارغة؟
    إنه اليوم الأقل يتماً بيننا. لا يخاف على شذى فرحة أن تنضب, له رائحة لا يستطيع الزمن أن ينال منها, إنها رائحة الأبدية.
    أم تراه, في عزلة جثمانٍ ينفضح برائحته, هو يحتاج ذلك العطر للجم رائحة توقظ شراهة الديدان, وتشي ببشاعة رجلٍ كان حريصاً على جمالية الحضور.
    غير أن العطر في قارورة هو مشروع شذى رائحة. لا يصبح كذلك إلا بانصهاره بكيمياء الجسد. ولذا ما عاد بإمكان عطرٍ أن يغطّي على تلك الرائحة.
    الرائحة, لا شيء غير اعتذار عطرٍ تأخر فناب عنه الموت.

    عندما عادت المضيفة لتقبض ثمن قارورة العطر من الفتاة, راودتني فكرة أن أهديها إياه, إكراماً لتهكم رائحته, على يتمٍ ننفضح به عطراً في غيابه.
    غير أنني لم أفعل, خشية أن لا تطمئن لعذري, وتظنني أتحرش بها كعادة البائسين من الرجال, عندما يظفرون بأنثى مربوطة إلى جوارهم.
    أكنت بذريعة ملامسة جثمانه بعطر.. لا أسعى سوى لملامسة صمتها؟

    كنت سعيداً بذلك القليل الذي قالته. مستمتعاً بالارتباك اللذيذ أمام شيء شبيه بالحب. ذاهباً بالصمت إلى أقصاه, مهيئاً بيننا بعمق الالتباس حفرة لغرس شتلة الشهوات. تأخذني سنة التفكير إلى نسج أكثر من بداية قصة قد تكون لي مع هذه المرأة.
    فوق هول النهايات, أصابني رعب البدايات, جمال الخوف العاطفي, دواره وإغراؤه. إن إستطعت تأمين مظلةٍ تقيني رذاذ الرغبة, من أين لي بكمامة تصد شذى عطر الغواية النفاذ؟

    كان العبور الخاطف لرائحته, يشوش بعض الوقت على اشتهائي لها. لكن ما استطاع أن يلغي سلطة عطرها عليّ.
    كان الحب يتقدم نحوي كوقع حوافر الجياد, يسبقه غبار الماضي, ذلك أن في هذه المرأة شيئاً من تلك. شيء منها لاأعرفه بعد, لكنني أتشممه.
    تلك التي يوم رأيتها لأول مرة في ذلك المقهى ذات ثلاثين أكتوبر عند الساعة الواحدة والربع, شعرت بصاعقة الاصطدام العشقيّ بين كوكبين سيتشظّيا انخطافاً أحدهما بالآخر.
    أذكر, من هول الانبهار بفاجعة على ذلك القدر من جمال الدمار, أني قلت لها وأنا أستأذنها في الجلوس: " سيدتي.. أشكر الدورة الدموية للكرة الأرضية, لأنها لم تجعلنا نلتقي قبل اليوم".

    في مجرة الحب, من يدير سير الكواكب؟ من يبعدها ويقرِّبها؟ من يبرمج تلاقيها وتصادمها؟ من يطقئ إحداها ويضيء أخرى في سماء حياتنا؟ وهل ينبغي أن يتعثّر المرء بجثمان ليقع في الحب؟
    في سعينا إلى حبٍّ جديد, دوماً نتعثر بجثمان من أحببنا, بمن قتلناهم حتى نستطيع مواصلة الطريق نحو غيرهم, لكأننا نحتاج جثمانهم جسراً. ولذا في كلّ عثراتنا العاطفية, نقع في المكان نفسه, على الصخرة نفسها, وتنهض أجسادنا مثخنةٍ بخدوشٍ تنكأُ جراح ارتطامنا بالحب الأول. فلا تهدر وقتك في نصح العشاق, للحبّ أخطاء أبدية واجبة التكرار!
    أأكون ما شفيت منها؟ لكأنها امرأة داخلة في خياشيم ذاكرتي, مخترقة مسام قدري. أتعثّر بعطرها أينما حللت.
    ما كانت " حياة".. إنها الحياة.

    كم حلمت بطائات تأخذني إليها, بمدن جديدة نزورها معاً, بغرف فنادق ينغلق فيها الباب علينا, بصباحات آخذ فيها حمامي فتناولني شفتيها منشفة, بأماسٍ نتحدث فيها طويلاً عن الحب والموت, عن الله, عن العسكر, عن الأحلام المغدور بها.. وعن الأوطان الخادعة.
    حلمت برقمها يظهر على شاشة هاتفي, بصوتها يتناول معي قهوتي, يرافقني إلى مكتبي, يجتاز معي الشوارع, يركب معي الطائرات, يضمّني حزام أمان في كل مقعد, يطاردني بخوف الأمهات, يطمئنني, يطمئن عليّ, صوت يأخذ بيدي.
    لكن, دوماً كانت لي مع هذه المرأة متع مهددة. ليس ثمة غير هذه الجثث التي بيننا. إحداها تسافر معي, تسترق السمع إليّ, وتضحك ملء موتها منيّ.
    في حب كذاك لا تتعثر بجثة. أنت تتعثّر بمقبرة.

    كنت منشغلاً بذكراها , عندما فاجأني صوت المضيفة" الرجاء أن تقوّموا ظهور مقاعدكم..أن تبقوا أحزمتكم مربوطة.. وأن تكفّوا عن التدخين".
    بدأت العجوز على يميني تطالبني بالاهتمام بها. ساعدتها على ربط حزامها, وأنزلت الستارة الصغيرة للنافذة, حتى لا تزداد رعباً إنْ هي نظرت إلى قسنطينة من فوق.
    - ما تشوفيش لتحت يامّا.
    كنت أريد أن تطلق سبيلي قليلاً. أن أنظر أنا أيضاً جواري, على يساري, كي أنسى العالم السفلي. أن أسرق اللحظات الأخيرة من هذا الموعد الشاهق في غرائبيته, لأقول شيئاً لعطرٍ جاء حضوره متأخراً , ومخيفاً, كلحظة هبوط طائرة.
    لكن الطائرة حطت على الأرض بتلك السرعة الارتطامية القصوى التي تنزل بها الطائرات. كان أزير محركاتها يعلو وهي تسرع بنا على مدرج المطار, ولم يعد بإمكان أحد تبادل أيّ حديث.

    ذهب تفكيري عنده, إلى نعشه الذي يرتجّ اللحظة مرتطماً بتراب قسنطينة.
    هنا نفترق أنا وهو. هنا ينتهي مهرجان السفر. ولا أملك إلاأن أأتمنها عليه. إنه الليل, والوقت غير مناسب لللإرتماء في حضنها.
    باكراً تذهب إلى النوم قسنطينة, ولا أحد يجرؤ على إيقاظ حارس الموتى الذي ارتدى منامة الغفلة خوفاً من القتلة.
    عليك أن تعرف أنك منذ الآن في حماية الديدان, التي في غيبتك عششت وتناسلت فوق التراب وتحته.
    أن تتفهم جشع الديدان البشرية, التي جمعت ثروتاه من موائد تعففك وترفعك حياً عما كان وليمتها. وستحرّض عليك اليوم أخرى, لتقتات بما بقي من جسد سبق أن أطعمت بعضه للثورة.
    نفاخر بمآثر الديدان وإكراماً لنهمها لمزيد من الشهداء, نقدم لها بهاء أجسادنا قرابين ولاء.
    فعمرك المسفوح بين ثورتك وثروتهم, منذور يا صديقي كجسدك لديدان الوطن, التي يتولّى مزارعو تخصيب الموت تربيتها وتهيأة التربة الأفضل لها, كما تربي بلاد أخرى في أحواضها اللؤلؤ والمرجان.

    مستسلم هو للنعاس الأخير, ومنهك الأحلام أنا. لا أدري من منا الأعظم خوفاً. سيدتي قسنطينة التي لا تستيقظ إلا لجدولة موتنا, تعفّفي عن إيذاء حلمه, تظاهري بالإكتراث به, أحضنيه كذباً وعودي إلى النوم. لا تدققي في أوراقه كثيراً. لا تسأليه عن إسمه, حيثما حلّ كان اسمه القسنطيني, والآن وقد حلّ فيك امنحي إسمه لصخرة أو شجرة عند أقدام جسر, ما دامت كل الشوارع والأزقة محجوزة أسماؤها لقدامى الشهداء والخسارات القادمة.

    كان أزير الطائرة يغطّي على صخب صمت تقاسمته طوال الرحلة معه.
    ماذا أستطيع ضدّ قدر حجز لي في سفريات الحياة مقعداً فوق رائحة.. وجوار عطر, يستقلان الطائرة نفسها.
    وحدها العجوز المتشبثة بذراعي تشبّثها بالحياة كانت تصلني دعواتها وابتهالاتها المذعورة.
    كان صوت المضيفة يعلن:" الحرارة في الخارج ست درجات. الساعة الآن تشير إلى الحادية عشرة والنصف ليلاً. الرجاء إبقاء أحزمتكم مربوطة. لقد حطّت بنا الطائرة في مطار محمد بوضياف.. قسنطينة".
    إنتهت في 10 يوليو 2002 م الساعة العاشرة والنصف.. صباحاً

    احلام مستغاني

    اتمنى ان تكونوا استمتعتم بقراءتها

  3. #13
    صديق نشيط
    تاريخ التسجيل: November-2014
    الدولة: الجزائر
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 240 المواضيع: 7
    صوتيات: 1 سوالف عراقية: 0
    التقييم: 64
    مزاجي: مبتسم
    أكلتي المفضلة: كسكــوس
    موبايلي: samsung galaxy
    آخر نشاط: 21/June/2016
    الاتصال: إرسال رسالة عبر MSN إلى zakaria213

    مارومذ ياسمين الشام

    لا أعرف ماذا واقول ؟ ولم اجد في جعبتي من كلمات شكرا على مجهودك
    الاكثر من رائع وعلى هدا النقل المميز وإن دل يدل على ذوقك الجميل والراقي

    رواية عابر سبيل هي رواية أكثر من رائعة وأكثر من حميلة وكانت الكاتبة القديرة أحلام رهيبة في الوصف لدرجة انها تبحر بك الى عالمها الخاص
    رواية عابر سبيل هي رواية مكملة الى رواية الاسود يليق بك وفوضى الحواس

    كل الشكر لك يا بنت الشام
    حقيقة اسعدني موضوعك ومجهودك

    دمتي بخير وسعادة سيدتي
    لك التقدير والاحترام دوما

  4. #14
    من أهل الدار
    انثى استثنائية
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة zakaria213 مشاهدة المشاركة

    مارومذ ياسمين الشام

    لا أعرف ماذا واقول ؟ ولم اجد في جعبتي من كلمات شكرا على مجهودك
    الاكثر من رائع وعلى هدا النقل المميز وإن دل يدل على ذوقك الجميل والراقي

    رواية عابر سبيل هي رواية أكثر من رائعة وأكثر من حميلة وكانت الكاتبة القديرة أحلام رهيبة في الوصف لدرجة انها تبحر بك الى عالمها الخاص
    رواية عابر سبيل هي رواية مكملة الى رواية الاسود يليق بك وفوضى الحواس

    كل الشكر لك يا بنت الشام
    حقيقة اسعدني موضوعك ومجهودك

    دمتي بخير وسعادة سيدتي
    لك التقدير والاحترام دوما

    اهلا بك سرني بانه راق لك واعجبك
    مع العلم الكثييرين انا متيقته بأنهم لم يقرؤا ما كتبت
    فحبهم للمواضيع المختصرة اكثر

    اشكرك مرة ثانية

    مودتي واحترامي
    كلماتك وسام اضعه اشكر متابعتك

  5. #15
    صديق نشيط

  6. #16
    صديق نشيط

  7. #17
    المشرفين القدامى
    إعلامي مشاكس
    تاريخ التسجيل: February-2015
    الدولة: Iraq, Baghdad
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 29,554 المواضيع: 8,839
    صوتيات: 9 سوالف عراقية: 6
    التقييم: 22063
    مزاجي: volatile
    المهنة: Media in the Ministry of Interior
    أكلتي المفضلة: Pamia
    موبايلي: على كد الحال
    آخر نشاط: 5/October/2024
    مقالات المدونة: 62
    لا عدمنا التميز و روعة الاختيار

    دمت لنا ودام تالقك الدائم




  8. #18
    من أهل الدار
    انثى استثنائية
    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حيدر (البغدادي) مشاهدة المشاركة
    لا عدمنا التميز و روعة الاختيار

    دمت لنا ودام تالقك الدائم






    اسعدني حضورك
    لك مني باقة ورد

  9. #19
    صديق نشيط
    نا الذي لم يحدث ان التفت الى الخلف ولا عدت الى سلة المهملات بحثا عن شيء سبق ان القيته فيه

  10. #20
    صديق نشيط
    في مجرة الحب من يدير سير الكواكب من يبعدها ويقربها ومن يدبر تلاقيها وتصادمها ومن يطفء احدها ويضيء اخر في سماء حياتن

صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 1 23 الأخيرةالأخيرة
تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال