عندما انتهينا من قراءة فاتحة على روحه, ابتعدنا ثلاثتنا نحو ركن قصيّ من الصالة. اغتنمت الفرصة لأمدها بكيس فيه دفاتر صغيرة سجّل عليها زيان أفكاراً مبعثرة على مدى سنوات, وأوراق أخرى كان يحتفظ بها في ظرف, أظنها كانت لزياد, نظراً لصيغتها الشعرية المتقنة, ولاختلاف خطّها عن خطّ زيان.
وضعت أيضاً في الكيس كتابيها, بدون إهداء, كما احتفظ بهما زيان لسنوات, واضعاً سطوراً على بعض الجمل. ولم أنس طبعاً كتاب " توأما نجمة" كما أهدته إياه قبل أيّام في آخر زيارة لها.
هكذا أكون قسَّمت تركة خالد بين امرأتين, واثقاً بأن واحدة ستسارع بإلقاء معظمها في الزبالة, ولن تحتفظ سوى باللوحات لقيمتها الماديّة, وأخرى وقد فقدت اللوحات.. ستصنع من خسارتها كتاباً.
لم أحتفظ لنفسي سوى بساعته, غير واعٍ أنني سأقع في فخّ تلك الساعة في ما بعد , فكيف يمكن مقاربة الحياة انطلاقاً من الموت, لكأنّ عقارب الوقت التي وهبت سمّها لعقارب ساعتك, تدور ضدّك, وفي كلّ دورة تستعجلك الفناء.
قلت كما لأبرر لناصر مدِّي أخته بذلك الكيس:
- إنها بعض أوراق وكتابات تركها زيان, قد تستفيد منها السيدة حياة إن شاءت أن تكتب شيئاً عنه.
- لا تهتم ستتكفَّل الصحافة بعد الآن بتكفينه بورق الجرائد.
لم تفتح الكيس, ولا حاولت أن تلقي نظرة على محتوياته. حتماً لم تتوقّع موقفاً عجيباً كهذا, لكنّها توجهت إليَّ لأول مرة وسألتني:
- بالنسبة للوحاته, ماذا فعلتم بها؟
قلت:
-أظنها بيعت في معظمها.
قال ناصر:
- عندما أخبرتني بموته, أول فكرة خطرت ببالي بعد المكالمة, تلك اللوحة التي حكيت لي أنا ومراد كيف أقنعته أن يبيعك إياها. في البدء ظننتك مجنوناً لأنك دفعت فيها كل ما تملك, ثم بعد ذلك فكرت أن ثمة أشياء لا تعوّض ويجب على المرء أن لا يفكّر في الثمن عندما تعرض عليه.
سألت بفضول:
- عن أية لوحة تتحدثان؟
وقبل أن أرد أجاب ناصر:
- عن لوحة رسمها سي زيان في بداياته وكانت تعزّ عليه كثيراً.
إنها تمثّل جسر سيدي مسيد.
قالت بتهذيب يضع بيننا مسافة للبراءة الكاذبة:
- أتمنى أن أراها. أيمكنك أن تترك لي هاتفاً أو عنواناً أكاتبك عليه إن احتجت شيئاً في ما يخص أعمال زيان؟
كانت هذه آخر حيلة عثرت عليها لتطلب عنواني في حضرة أخيها , فهي تعرف عاداتي في الاختفاء المفاجئ من حياتها.
أجبتها بطريقة تفهم منها أنني لم أتغيَّر:
- آسف , فليس لي عنوان ثابت بعد- مضيفاً بعد شيء من الصمت- ثم إنني... بعت تلك اللوحة!
صرخ الاثنان بتعجب:
- بعتها؟ وعلاش؟
" وعلاش؟"
لم يكن المكان مناسباً لأشرح لهما " لماذا" بعتها. فقد يكون زيان يسترق السمع إلينا, وفاجعة واحدة تكفيه. ذلك أن السؤال سيتوالد ويصبح " كيفاش؟" و " بقداش؟" و " لشكون؟"
وبكم ليست شيئاً قياساً بلمن, فعندها سأصبح خائناً باع الجزائر والأمة العربية جميعها للغرب, وبسببي سقطت غرناطة وضاعت القدس, فحتماً ثمة مؤامرة حيكت ضد الأمة العربية, دبرها الرواق بالاشتراك مع المستشفى, خاصة أن معظم الأطباء هم من اليهود. وهل ما يحدث لنا منذ قرون خارج المؤامرة؟
كانا مازالا مذهولين ينتظران مني جواباً, ولم أجد شيئاً لأجيب به عن سؤالهما " وعلاش؟". فأحياناً يلزمك كتابة كتاب من هذا الحجم لتجيب عن سؤال من كلمة واحدة :" لماذا؟"
هل صدمها حقاً فقدان تلك اللوحة.. فأفقدتها الفاجعة صوتها!
أظنها كانت ستقول شيئاً, عندما علا صوت المضيفة على الميكروفون يطالب المسافرين إلى قسنطينة على متن الخطوط الجزائرية, الرحلة رقم 701, بالالتحاق بالبوابة رقم 43.
بدت كأنها وجدت في ذلك النداء ذريعةً للتأهب لمغادرة المكان, فما عاد ثمة ما يقال.
حضرني قول مالك حداد: " في محطات السفر والمطارات, مكبرات الصوت تقول" على السادة المسافرين التوجه إلى..." ذلك أن السيدات لا يغادرن أبداً".
فعلى أيامه كانت النساء ممنوعات من السفر, قابعات في البيوت. أما اليوم, فلا وقت لهن لمرافقة حبيبٍ يسافر في تابوت.
ضمّني ناصر إلى صدره وقال:
- ربي يعظّم أجرك, ويحميك. لو كنت نقدر ندخل للجزائر والله نروح معالك.. لكن هاك على بالك.
ثم وقف أمام الجثمان لحظات متمتماً بكلمات كأنها دعاء. لمحته يمسح دموعاً دون أن يرفع يده اليمنى عن النعش.
هل أيقظ دعاء ناصر شيئاً فيها؟ هل ذكَّرها نداء الميكروفون أنني أنا وهذا المسجّى مسافران معاً, وأنها فقدتنا نحن الاثنين؟
مدت يدها نحوي موّدعة. رأيتها لأول مرة أمام جثمانه مجهشةً بالبكاء.
كنت أحتقر تعاسة الذين لا يجرؤون على الاقتراب من السعادة الشاهقة, الباهظة, التي لا تملك للسطو عليها إلا لحظة, فالحبّ الكبير يختبر في لحظة ضياعه القصوى.
تلك اللحظة التي تصنع مفخرة كبار العشّاق الذين يأتون عندما نيأس من مجيئهم, ويخطفون سائق سيارة ليلحقوا بطائرة ويشتروا آخر مكان في رحلة, ليحجزوا للمصادفة مقعداً جوار مَن يحبّون.
الرائعون الذين يخطفون قدرك بالسرعة التي سطوا بها ذات يوم على قطار عمرك.
كنت أريد حباً يأتي دقائق قبل إقلاع الطائرة فيغِّير مسار رحلتي, أو يحجز له مكاناً جواري. لكنها تركتني معه.. ومضت.
لم تقل شيئاً. فقط بكت. وخالد ظلَّ يكفنه البرد بيننا. استطعت أن أؤمن له ثمن تذكرة, وما استطعت أن أتدبَّر له معطفاً.
كان الميكروفون يكرر النداء. إنه وعي الفراق, ولا مناديل للوداعات الكبيرة.
وحدي كنت معه, عندما جاؤوا لنقله. حملوه ليقبع هناك شخصاً بين الأمتعة. أمّا أنا فولجت الطائرة متاعاً بين الركاب.
افترقنا هناك, برغم أننا كنا نأخذ الطائرة نفسها أنا وهو.
ذهب آخر رفاق الريح, وبقيت مرتعداً, لا أدري كيف أوصد الباب خلف رجل عاش كما مات في مهب التاريخ, واقفاً فوق جسر. في كل غربة, كأسماك الصومون, تبحث عن مجرى مائي يعيدك من حيث جئت, سالكاً جسراً للوصول. لكن, ليس بسبب النهر وُجد الجسر, إنه كالمواطنة, لم تبتدع إلا بسبب خديعة اسمها الوطن.
فنم نومة لوحة, ما عاد جسرك جسراً يا صاحبي.
***
استعادت المطارات دورها المعتاد.
في كل مطار ينتصر الفراق, وتنفرط مسبحة العشاق.
مطارات تنادي عليك في استرسال محموم, مرددة رقم رحلتك, تلك التي تكفّل القدر بنفسه بحجزها لك, في مكتب السفريات الذي اختصاصه رحلتك الأخيرة.
ما جدوى كل هذه النداءات الملحاحة إذن لتذكيرك بوجهتك, وكل هذه الإشارات المضيئة لتوجيهك نحو بوابتك, أيها المسافر وحيداً, في صندوق محكم الإغلاق, لا تذكرة في جيبك, وكل الممرات توصل حيث أنت ذاهب.
يا رجل الضفّتين, مسافة جسر وتصل. إنها ساعتان ونصف فقط, وتستقر في حفرتك, على مرمى قدر, لك قبر في ضيق وطن.
تجلس على مقعدك, وتدري أن تحتك ينام الرجل الذي كان توأمك, محتمٍ بصمته من إهانة الحقائب والصناديق التي ألقي بينها.
ما عاد الرجل الذي كان, ولا الرسام الذي كان. إنه صندوق في حمولة طائرة.
ليس الصندوق الذي يفرِّق بينكما, إنما كونه أصبح يقيم منذ الآن في العالم السفلي, بينما ما زلت أنت تجلس وتمشي وتروح وتجيء فوقه. لك ذلك الحضور المتعالي للحياة.
لو يحدث أن عرفت موقفاً غريباً كهذا. السفر مع جثمان ميت, حجزت له بنفسي تذكرة معي, أو بالأحرى حجزت لنفسي تذكرة معه.
أستعيد كتاب " توأما نجمة" وصاحبه الذي يروي كيف وجد نفسه لمصادفة غريبة, المرافق لجثمانيْ كاتب ياسين ومصطفى كاتب من مرسيليا إلى الجزائر. وأجد عزائي في احتمال أن يكون قد عرف ألماً مضاعفاً لألمي ما دام سافر مع جثمانين.
ثم تقودني الأفكار إلى تلك الأخبار التي نقلتها الصحف في الثمانينات عن طائرات بلد عربي مخصصة لنقل البضائع, حوّلتها الضرورة إلى طائرات للنعوش, وراحت لأسابيع تنقل في رحلات مكّوكيّة أحلام آلاف المصريين الذين قصدوا ذلك البلد للعمل بنوايا وحدوية, وعادوا منه مشوّهين في صناديق محكمة الإقفال, أغلقت على أحلامهم المتواضعة التي تم التنكيل بها, عندما أعلن رسمياً في ليلة ظلماء وفي خضم الإحتفالات بعودة الجنود الأبطال من حربهم ضد الجيران, فتح موسم إصطياد الغرباء الذين اتّهموا بإنتهاك شرف النساء.. أثناء انشغال أبناء الوطن بالدفاع عن الأمة العربية.
إنه الموت العربي بالجملة وبالتجزئة. الموت مفرداً ومثنى وجمعاً, الذي لا تدري أمامه هل أكثر ألماً أن تسافر في طائرة لا يدري ركابها, وهم يطاردون المضيفة بصغائر الطلبات, أن تحتهم رجلاً ميتاً, أم أن تكون قائد طائرة عربية لا مضيفات فيها ولا خدمات, لأن جميع ركابها أموات؟!
يذكرني الموقف بصديق ينتمي إلى إحدى " الممالك" العربية, سأله أحدهم مرة:" من أين أنت؟" أجاب ساخراً :" من المهلكة", فردَّ عليه الثاني مزايداً:" وأنا من أمّ المهالك", وضحك الاثنان على النكتة. فقد تعرَّف كلاهما على بلد الآخر, دون أن يتّفقا على أيّ منهما كان أكثر هلاكاً من الآخر!
هالك يا ولدي.. مهلوك. وفي هذا المطار بإمكانك أن تختبر حجم الأذى الذي ألحقه القتلة بجوازك الأخضر.
ذهب عنفوانك. مثير للريبة حيث حللت, تفضحك هيئتك, وسمرتك, وطابور المتدافعين, والكلاب المتدربة على شمشمة أمثالك.
مذ قام الإرهابيون باختطاف طائرة فرنسية وقتل بعض ركابها, والجزائريون يخضعون لحجر أمنيّ في المطار, كما لو أن بهم وباء, وعليك أن تقف أعزل أمام جبروت الأجهزة الكاشفة لكل شيء, والكاميرات الفاضحة لنواياك, والنظرات الثاقبة لأحاسيسك, والإهانات المهذبة التي تطرح عليك في شكل أسئلة.
تستااااااااهل ما الذي جاء بك؟
من ردهة إلى ممر إلى معبر, لست سوى رقم في طوابير الذلّ. فكيف وقد اعتدت المذلة أن تطالب باحترام أكثر على متن " طائرتك"؟
لا رقم لمقعدك, وعليك أن تدخل في سباق الفوز بكرسيّ, أن تكون لك جسارة تجّار الحقائب في التدافع.
فالكرسيّ, أيّ كرسيّ, لا بدّ من الاقتتال للفوز به. ثمة من أرسلوا أناساً باالآلاف إلى المقابر للجلوس عليه, والانفراد به, وأنت تريد كرسيّاً من دون عناء!
وتريد مكاناً تضع فيه حقيبة يدك, ولكنهم سبقوك واحتلوا كل شيء. الكل محمَّل بالحقائب البائسة المكتظة بالعمر الغالي, والجميع حريص على ما في يده, أكثر من حرصه على نفسه, لا يدري أنْ لا شيء سوى الإنسان سريع العطب.
أتساءل, أين كنت إذن سأضع تلك اللوحة لو كنت أحضرتها معي. فحتى إن قضيت نصف الرحلة في إقناع المضيفة بأهميتها, ماذا كانت تستطيع أن تفعل أكثر مما فعل غيرها في موقف كهذا؟ فأنا لم أنسَ تلك الكاتبة المقيمة في المهجر, التي شاهدتها على التلفزيون الجزائري تحكي, كيف أنها عندما عادت لزيارة الجزائر, ومعها حقيبة صغيرة لا تفارقها, فيها كتاباتها ومخطوط روايتها الجديدة, ما وجدوا في تلك الطائرة الواصلة من سوريا والمليئة برهط غريب من تجّار الأرصفة الذين لا يحتاجون إلى تأشيرة لدخول الشام, أيّ مكان يضعون فيه الحقيبة, فتطَّوع مضيف للتكفّل بها عندما أبلغه بعض من تعرَّف عليها من الركاب, أنها حقيبة كاتبة لم تعد لوطنها منذ سبع سنوات.
في منتصف الرحلة جاء من يخبرها أن حقيبتها كرّمت بوضعها في " مرحاض الطائرة". المضيف قال إنه كان شخصياً يقوم بإخراجها وإعادتها إلى مكانها في الحمام, بعد مرور كل راكب, لأنهم أوصوه خيراً بها, ولولا معزّتها واحترامه للأدب لما وضعها في " بيت الأدب", ولأصر على إنزالها مع بقية الحقائب إلى جوف الطائرة.. وارتاح!
ماذا تقول لوطن يهينك بنية صادقة في الاحتفاء بك؟
إحدى الصور التي تمنيت لو التقطتها, هي صورة حقيبة الكاتب, مرمية أرضاً في مرحاض الطائرة بعد أربع ساعات من الطيران, بينما تسافر بضائع المهربين الصغار مصونة محفوظة في الخزائن الموجودة فوق رؤوس أصحابها.
لو نشرت صورة كتلك, لجاء من يقول إنني أهين وطني أمام الغرباء, وأعطاني درساً في الوطنية, ذلك أن الوطن وحده يملك حق إهانتك, وحق إسكاتك, وحق قتلك, وحق حبّك على طريقته بكل تشوهاته العاطفية.
كيف حدث هذا؟ وكيف وصلنا إلى شيء على هذا القدر من الغرابة؟
لا تنتظر أن يجيبك أحد هنا. فالجواب ليس في طائرة, إنما في مكان آخر حيث كان إقلاعها الأول.
عليك بعد الآن وإلى آخر عمرك أن تجيب: لماذا حصلت على تلك الجائزة دون غيرك؟ لماذا أخذت تلك الصورة لذلك الطفل وذلك الكلب دون سواهما؟ لماذا بعت تلك اللوحة لذلك الشخص دون سواه؟
أنت مطالب بالإجابة على أسئلة يحتكر غيرك الردّ عليها, من أنت حتى تغيّر مجرى التاريخ أو مجرى نهر لست فيه سوى قشة يجرفها التيار إلى حتمية المصب؟
أنت لا تعرف حتى ماذا تفعل هنا, وكيف أصبحت الوصيّ على هذا الجثمان وأنت مثقل بالوصايا, متعب بنوايا يحرسها القتلة.
تتمنى لو كنت محمد بوضياف عائداً إلى الوطن في طائرة فرحتك لإنقاذ الجزائر, لو أن لا حقائب لك, لو أن يديك ممدودتان لتحية المستقبلين ملوّحتان بتوعد القتلة واللصوص الكبار المهيبين. لكن هو نفسه عاد مرتدياً كفنه, وما فتح ملفّاً إلا وفتح معه قبره.
فاربط حزام الأمان يا رجل, وتابع شروح المضيفة حول أقنعة الأوكسجين, وصدريّة النجاة.
***
اخترت بنفسي العجوز التي ستجلس جواري, أما الفتاة التي جلست على شمالي, فهي التي اختارتني. قد تكون استلطفتني مقارنة بالخيارات الرجالية الأخرى.
فمهمّ في رحلة طويلة كهذه ألا تجد نفسك مربوطاً جوار من سيزيدونك هماً وغماً, فينتابك إحساس من توقف به المصعد, ووجد نفسه محجوزاً مع أناس لا يستلطفهم, وعليه أن يتقاسم معهم حدوده الإقليمية وأجواءه الحميمية المستباحة بحكم المكان.
وكنت بعد عبورنا نقطة التفتيش, قمت بمساعدة تلك العجوز على حمل الكيس الكبير الذي لا أدري كيف حمَّلوها إياه, أو كيف أصرَّت هي على حمله وراحت تتوقف كل حين لتستريح قليلاً من عبئه.
أحبّ عجائزنا, ولا أقاوم رائحة عرق عباءاتهن, لا أقاوم دعواتهن وبركاتهن. لا أقاوم لغتهن المحملة بكمّ من الأمومة, تعطيك في بضع كلمات زادك من الحنان لعمر.. وبعض عمر.
- يعيشك يا وليدي.. ربي يسترك ويهزّ عنك هم الدنيا.. ربي يزيِّن سعدك.
كلمات وأقع في ورطة عاطفية مع عجوز, وإذ بي حمّال وعتّال ومرافق لها, ومسؤول عن إيصالها حتى قسنطينة.
أهي عقدة يتمي؟ دوماً خطفتني العجائز وغيَّرن وجهتي.
فما صادفت واحدة تنوء كهولتها بقفّةٍ, إلا ووجدتني أحمل وزرها عنها مدّعياً أنّ وجهتها تصادف وجهتي. مرة تسبب لي الأمر في صفعة تأديبية من أبي, الذي لم يصدِّق عذر تأخري في العودة من المدرسة.
كانت العجوز ذاهبة صوب رحبة الصوف لبيع أرغفة أعدّتها في البيت, وقضيت ساعة أمشي جوارها حاملاً محفظة المدرسة بيد, وقفّتها بيدي الأخرى.
كانت تلك الصفعة الوحيدة التي تلقّيتها في حياتي من أبي.
كانت العجوز الجالسة جواري تسافر لأول مرّة بمفردها, وجاءت إلى باريس لزيارة ابنتها التي وضعت مولودها الأول. وقبل أن تقلع الطائرة كنت عرفت تقريباً كل شيء عن حياتها.
لا سرّ للعجائز, كلّ الذي ينقصهن هو رجل مشدود الوثاق إلى كرسيّ, له صبر الاستماع إلى خيبات كهولتهن.
كانت مرعوبة من الطائرة, وتريد أن تفهم كل شروحات المضيفة فيما يخصّ صدرية النجاة وقناع الأوكسجين وحزام الأمان ومخارج الطوارئ. ثم تعود من رعبها وتستسلم للمكتوب وتقول إن الأعمار بيد الله, وتواصل ثرثرتها عن صهرها الذي اشترى محلّ قصابة في فرنسا, وابنها الذي يسعى إلى الحصول على أوراق للإقامة في باريس, بعد أن كره العيش في قسنطينة التي كانت ملاذ الفقير فأصبحت مدينة الفقراء. كان المحتاج يقصدها لعلمه بثراء أهلها وكرمهم, وأصبح الآن يقيم فيها مع آلاف الفقراء الذين جاؤوها من كل صوب وأفقروا أهلها.
- منين جاوْ يا ولدي " جوج وماجوج" هاذُو اللي كلاوْ الدنيا.. وهججونا من البلاد.. يا حسرة راحوا دار شكون وشكون. بقاوْ غير الرعيان. على بالك أنا بنت شكون؟
ولم أكن على استعداد لأعرف هذه العجوز ابنة مَن, ومن أية شجرة تنحدر. فأنا لم أكن هناك لأخطبها, ولكن لا يمكن أن تمنع عجوزاً من التباهي بأصلها, وهو كل ما بقي لها في زمن الذلّ.
كانت من العائلات العريقة في قسنطينة. اشتهر عمها بإنشاء أول شركة لإنتاج التبغ في الجزائر. كان ممن يُضرب بهم المثل وجاهة وغنىً, وأفهم ألا تتقبل فكرة أن تنتهي ابنتها زوجة لرجل اغتنى في الغربة, ولم يغتنِ عن إرث أباً عن جدّ, ولا فكرة أن تتقاسم الطائرة مع " الرعيان" و "بني عريان".. ولكن:
- هذي الدنيا يا امّا واش نديرو..
في غمرة اندهاشهم بها, أطلق القدامى على قسنطينة اسم " المدينة السعيدة", وهذه العجوز الأميّة كم وفَّرت عليها أمّيّتها من ألم, فهي لن تقرأ يوماً ما قيل في قسنطينة. هي فقط ترى ماآلت إليه. قسنطينة المكابرة لا تدري ماذا تفعل بثراء ماضٍ تمشي في شوارعه حافية.
قسنطينة الفاضلة التي تحرسها الآثام ويحكمها الضجر المتفاقم, وهذيان الأزقة المحمومة المثقلة بالغرائز المعتّقة تحت الملايات.
لم تتغيَّر. ما زال يرعب نساءها الجميلات التعيسات, الشهيّات الشهوانيات, الخوف المزمن من نميمة أناسها الطيِّبين الخبثاء. ولذا, هي تجلس صامتة على يساري, وأنا قدري حيث أذهب أن أقع بين فكيّ حبّها.
عندما, بعد ذلك, مرَّت المضيفة تعرض علينا الجرائد, سمعت الفتاة لأول مرة تنطق لتطلب جريدتي "الوطن" و "الحرية". لم يبق من نصيبي سوى " الشعب" و "المجاهد". تقاسمنا بالتساوي أكاذيب العناوين.
يحضرني دائماً في مثل هذه المواقف, قول ساخر لبرنارد شو معلّقاً على تمثال الحرية في أمريكا " إن الأمم تصنع تماثيل كبيرة للأشياء التي تفقدها أكثر" وهو ما يفسّر وجود أكبر قوس عربي للنصر في البلد الذي مُني بأكبر الخسائر والدمار.
إمعاناً منّا في تضخيم خسارات ندّعي اكتسابها, نذهب حتى إضافة ما نفتقده إلى أسماء أوطاننا. ولأن الجزائر خرجت إلى الوجود "جمهورية ديمقراطية شعبية", فقد حسمنا منذ الاستقلال مشاكل الشعب وقضية الديمقراطية, وتفوقنا منذ البدء في ما يخصُّ الحريات على أية دولة أوربية تحمل اسماً من كلمة واحدة!
أمة تحتفي بخساراتها, وتتوارث منذ الأندلس فن تجميل الهزائم والجرائم بالتعايش اللغوي الفاخر معها.
عندما نغتال رئيساً نسمِّي مطاراً باسمه, وعندما نفقد مدينة نسمِّمي باسمها شارعاً, وعندما نخسر وطناً نطلق اسمه على فندق,وعندما نخنق في الشعب صوته, ونسرق من جيبه قوته, نسمّي باسمه جريدة.