القصة والاقصوصة:
إذا كان الشعر تعبيرا عن اللحظات الخاصة في الحياة, فالقصة هي التعبير عن الحياة. الحياة بتفصيلاتها وجزئيتها كما تمر في الزمن, ممثلة في الحوادث والمشاعر الداخلية. بفارق واحد :هو ان الحياة لا تبدا من نقطة معينة, ولا تنتهي الى نقطة معينة, ولا يمكن فرز لحظة منها تبتدئ فيها حادثة ما بكل ملابساتها عن اللحظة التي قبلها ولا تقف هي عند لحظة ما لتضع خاتمة لهذه الحادثة بكل ملابساتها. أما القصة فتبدا وتنتهي في حدود زمنية معينة و تتناول حادثة أو طائفة من الحوادث بيم دفتي هذه الحدود.
والحياة تتداخل فيها الاسباب والمسببات, وتتوالى فيها الحوادث والاحداث منذ الازل الى الابد لغاية غير معلومة للانسان غاية بعيدة في مجاهيل الابد. وكل حادثة هي جزء من حادثة اخرى اكبر منها وكل غاية هي وسيلة الى غاية اشمل. فتتبع سياقه-ا كما هي – لا ينتهي الى غاية معينة نبصرها في جيل او عدة اجيال. ولكن القصة اختيار وتنسيق اختيار الحادثة او عدة حوادث تبدا وتنتهي في زمن محدود وتصور غاية معينة وتساق جزئيتها سياقة معينة لتؤدي الى تصوير هذه الغاية. فليست مجرد تسجيل لخط سير الزمن والحوادث بلا بدء ولا انتهاء ولا لتسجيل خواطر وانفعالات بلا ترتيب ولا تنسيق.
هي أشبه شئ بالصور الشمسية تلتقط لحظة خاصة من سلسلة اللحظات الزمنية والحسية والشعورية للانسان او للاشياء وتفرزها عن سائر اللحظات الدائبة السير والتحول. كذلك تصنع القصة وهي تصور فترة من الحياة بأحداثها ووقائعها ذات بدء ونهاية, ثم تزيد فتنسق جزيئات هذه الفترة بحيث تكون لها خاتمة كأنما تقف الحياة عنده لحظة – وهي لا تقف ابدا- قبل ان تتابع السير الى اجلها المرسوم. وهذا التنسيق هو عملها الفني فيها, وهو الذي يختلف فيه قصاص عن قصاص , وتتعدد فيه النماذج.
وإنه ليستوي ان يتناول في هذا التنسيق فترة واقعة بالفعل , وحوادث تمت على هذه الارض , واشخاصا عاشوا هذه الحياة , او ان يتناول فترة ولدت في الخيال , وحوادث تمت في النفس واشخاصا عاشوا في الضمير. فالمهم هو طريقة التنسيق : بالحذف هنا والاضافة هناك , وبالتقديم والتاخير في الجزيئات , وبقيادة سير الحوادث والخوالج , لتؤدي الى تصوير خاص لهذه الفترة , يفرزها من شريط الزمن الذي لا يقف , ويضع لها طابعا موسوما بنظره صاحبها الى الحياة .
والحرية التي تتمتع بها القصة في ان تطول كما تشاء وتتسع جوانبها وأطرافها كما تشاء , تهيئ لها ان تتناول موضوعها ممن اول نقطة , وان تلم بجميع ملابساته وجزئياته , والا تقتصر على عدد معين من الشخصيات والاحداث والا تقف عند حادثه خارجية واو خالجة داخلية.. وهذا مايؤهل القصة لان تتولى التعبير الكامل عن التجربة الشعورية التي تختارها أيا كانت طبيعتها ولونها ومجالها في الزمن او في الشعور.
هذه الحرية ليست متاحة للأقصوصة مثلا . فهي مقيدة بأن تتبع خط سير واحد حول حادثة بارزة ,او حالة شعورية معينة , او شخصية خاصة, ولا تتوسع لتتناول جميع ملابساتها وجزئياتها , ومايتصل بها من حالات وأسباب في محيط الحياة العام . وليست متاحة للتمثيلية وهي مقيدة بزمن التمثيل وقيود المسرح وطاقة الممثلين. وليست متاحة للملحمة وهي مقيدة بتصوير الشخصيات والاحداث الخارقة لانها شعر والشعر – كما قلنا- لا تتم جودته الا في جو خاص ولانها بطبيعتها لا تصلح للحياة العادية التي تتبع خط الزمن المنساب.
وبين الشعر الجيد والقصة الجيدة تشابه في تتبع جزئيات التجربة الشعورية وتصوير الخواطر والانفعالات المصاحبة لها خطوة خطوة, ليشارك الاخرون صاحبها انفعالاته وجوه الشعوري العام . ولكن مجال القصة في هذا افسح واشمل لانها تملك جميع اللحظات واالحالات في حين يقتصر الشعر على الحالات الخاصة والمشاعر الفائقة ولا يهمه تتبع الاسباب والملابسات وليس من طبيعته التشعب والاستطراد.
لهذا تملك القصة ان تنوب عن الشعر في بعض المواقف – الى حد ما – فترتفع الى مستوى يقرب من مستواه. ولكن بقدر ما تؤدي واجب اللحظة المعينة الصغيرة في السياق فالحالات التي تقتضي الشعر نوبات عبارة لا تدوم فإذا تجاوزها سياق القصة وجب ان تعود الى طبيعة الحياة العادية وبالايقاع العادي المناسب لسياق الحياة المعتادة.
والقصة ليست هي مجرد الحوادث والشخصيات إنما هي –قبل ذلك – الاسلوب الفني او طريقة العرض التي ترتب الحوادث في مواضعها. وتحرك الشخصيات في مجالها بحيث يشعر القارئ بان هذه حيات حقيقة تجري وحوادث حقيقة تقع وشخصيات حقيقة تعيش. وهذا يتضمن :
اولا : ترتيب الحوادث بحيث تجري كما لو كانت تجري في الحياة بلا تعمل او افتعال. وهذا وهم بطبيعة الحال , فالحوادث في الحياة لا تقف عند حد لتؤدي الى غاية محدودة بينما هي في القصة تساق على وضع خاص لابراز غاية معينه في زمن معين .ولكن براعة القصاص هي التي تجري الحوادث في هذا السياق المعين بلا تعمل ولا افتعال , وكأنما الحياة سارت بطبيعتها فيه سيرها الطبيعي المعتاد. ولكل قصاص طريقته واسلوبه الذاتيان . ولكن هذا هو الشرط العام.
ثانيا: صحة رسم الشخصيات بحيث تتضح سماتها وملامحها , وكلما وضحت السمات والملامح كاملة من الخارج والداخل كان ذلك اكمل . ولكل قصاص طريقته في رسم الشخصيات . فبعضهم يستعين على رسمها بوصف الملامح الداخلية او الخارجية او هما معا. وبعضهم يدع الحركات او الحوادث ترسمها. وبعضهم يستخدم هذه الطريقة وتلك . وبين ذلك كله طرائق شتى تتبع مزاج كل قصاص و ميوله وثقافته.
وليس المهم هو نوع الحادثة وضخامتها , ولا لون الشخصية وعظمتها, فالحياة تجري بالجميع . إنما المهم هو الطريقة : طريقة تناول الموضوع والسير فيه بحيث تؤدي الى رسم صورة معينة للحياة , وكأنها تجري في طريقها الطبيعي. وطريقة رسم الشخصيات وتلوينها, بحيث تكشف لنا عن اكبر قدر من خصائصها , وتعيش في أوسع مجال تظهر طاقاتها. ثم التعبير عن ذلك بعبارات والفاظ تتناسق مع الجو والسياق والشخصيات.
ويستوي ان يتخذ القصاص مادة قصته من الحوادث الضخمة ذات البريق والضجيج والشخصيات العظيمة ذات السمت والبروز. أو يتخذها من الحوادث الصغيرة العادية . والشخصيات المكرورة المغمورة او يتخذها من هذه وتلك ومن هؤلاء وهؤلاء. مادام يجري الحياة في مجراها الطبيعي ويحرك شخوصه وحوادثه كما يتحرك أمثالهم في الحياة , ولا يشعرنا أنه واقف خلف ستار ((خيال الظل )) يحرك دمى صغيرة أو كبيرة كما يشاء هو لا كما تشاء طبائع الاشياء ! ولقد نرى شخصيات أسطورية تعيش فنراها طبيعية حية ونرى شخصيات ((واقعية )) فنحس بالتزوير في وجودها . وهذا وذلك راجع الى طريقة العرض وصدق التصوير او زيفه للحياة والاحياء.
وهناك طرق شتى للعرض . فبعض القصاصين , يوقظنا بعنف منذ اللحظة الاولى لأنه يبدا قصته بانفعال حار, او حركة عنيفة , أو مشهد صاخب . وبعضهم يبدا حديثه هونا باشياء عادية جدا ولا يكاد يشعرنا بان هناك شيئا ذا بال وقع او سيقع . وشيئا فشيئا يزحم احساسنا بالمشاعر ويملا خيالنا بالصور ويطبع في حسنا الموقف كله كأننا عشناه
كما ان بعض القصاص يضع للحوادث والشخصيات إطارا من مناظر الطبيعة والمشاهد المصنوعة كاننا في مسرح ويصل بعضهم في هذا الى حد ان يجعلنا نشعر بان هذه المناظر والمشاهد هي بعض الشخصيات العاملة في جو القصة لانها لا تنفصل عن شخصياتها وحوادثها ومجراها . وهذا هو الابداع الفني . وبعضهم يجعلها مجرد إطار وكثيرا مايخفق هؤلاء في إشعارنا بأهمية هذه المناظر والمشاهد فيبقى وصفها حشوا لا يتسق مع القصة ولا يعبر عن شي فيها.
وهناك من يجرد الجو من المناظر والمشاهد ويلتفت الى الحادثة او الشخصية وحدهما كما لو كانا يقعان في محيط مجرد من الزمان والمكان والاشياء ويحتاج هؤلاء الى قوة بارعة لغمر القارئ في جو القصة , و إغراقه في لجتها, فلا ينتبه الى المحيط الخارجي , ولا يخرج من سحر الشخصية او أسر السياق.
بقى عنصر اخر له وزن في القصة هو القيمة الشعورية. فقد كان حديثنا الى هذا اللحظة عن القيمة التعبيرية : عن الاسلوب الفني في العرض وعن طريقة التعبير. وقد حرصنا على ان نبين ان الموضوع ذاته لا يؤثر في الوزن الفني للقصة. فكل موضوع صالح, إنما طريقة عرضه هي التي تعين قيمته الفنية.
ولكن هناك الافاق الشعورية التي يرتفع اليها الموضوع , والتي تصور في ظلها الحوادث والشخصيات . هناك نوع الاحساس بالحياة : حوادثها وأشخاصها, مصائرها وغايتها. هناك الزاوية التي يطل منها القصاص على هذا العالم, والاشعة التي يراه على ضوئها. هناك المدى الذي يتعمقه القصاص في النفس الانسانية وفي الحياة من حولها, وفي الكون وما فيه ومن فيه .. ومن هنا تختلف الافاق التي يبلغها القصاص.
ولا شك ان للقيم التعبيرية – طريقة العرض وطريقة التعبير- قيمتها في تحديد قيمة القصة , ولكنها وحدها لا تستقل بالتقويم , ولابد من النظر الى هذه الافاق الشعورية ومدى مطابقة القيم التعبيرية لها.
بعض القصاص يصور لنا الحوادث والشخصيات بغاية الدقة والبراعة من الناحية القصصية ولكنه لا يتجاوز بنا محيط هذه الحوادث والشخصيات المحدودة, ولا محيط الفترة الزمنية التي تجري فيها الحوادث . من هؤلاء أندريه جيد في ((الباب الضيق والسمفونية الريفية)) – على الرغم ما فيهما من شذى روحي – و اوسكار ويلد في (( صورة دوريان جراى وشبح كنترفيل)) وبرنارد شو في ((جان دارك وتابع الشيطان )) . وبعضهم يقفنا – بعد الحوادث – وجها لوجه أمام الحياة كلها : سننها الخالدة , واوضاعها الكونية , واقدارها الشاملة . وهذا البعض لا يحدثنا عن هذه الشئون حديثا مباشرا إنما يدعنا نتسرب من خلال الشخصيات المعينة الى الانسانية الخالدة – كما ترتسم في بصيرته – فتلك الحادثة جزء وكل وهذه الشخصية فرد ونموذج . ويبلغ بعضهم في الابداع الى الحد الذي تصبح نماذجه البشرية ابقى واحيى من المخلوقات الانسانية , وتصبح أحداثه ووقائعه سمة على الكون والدهر أوضح من الحوادث التاريخية . ومن هؤلاء تولستوى في (( البعث )) وتوماس هاردي في (( تس )) و ((جود المغامر )) و دستويفسكي في ((المقامر)) وارز يباشيف في (( ابن الطبيعة )) ...إلخ هذا المستوى ارفع واضخم من المستوى الاول بلا جدال.
وهذا البيان يفيدنا في تحديد ما نعنيه بأن القصة هي الحياة . فليس الواقع المحدود الصغير هو مجال القصة وحده . إنما هو الواقع الابدي كما يبدو من خلال الواقع الوقتي وهو النماذج الانسانية كما تبدو من خلال الشخصيات الفردية وهذه آفاق القصاص الكبير كما هي آفاق الشاعر الكبير سواء بسواء والقصاص في هذا الوضع شاعر والقصة لون من الشعر من ناحية القيم الشعورية.
تقرأ ((البعث)) أو ((تس)) أو ((جود المغامر)) أو ((المقامر)) او ((ابن الطبيعة )) فتجد نفسك أمام شخصيات أحداث . حتى إذا انتهيت وجدت نفسك أمام ناس واقدار فتنسى الاشخاص والحوادث في النهاية لتذكر الضعف الانساني إزاء القوى الكونية والغرائز والشهوات والنزعات دون ان يقول لك القصاص شيئا من هذا أو يصوغه صياغة فلسفية ولكنها الحوادث والوقائع تقسرك قسرا على هذا الاتجاه الكوني العام وذلك افسح من آفاق القصة المحدودة بحدود الزمان والمكان.
ومن هذا النوع في القصة العربية الحديثة – مع فارق المستوى والمحيط- نجد ((خان الخليلي)) لنجيب محفوظ الشاب وإنه ليسرني ان المح هذا الشبه العام في اتجاه الافاق ايا كانت المسافة بين طبيعة وآماد الآفاق! فهذه السمة سمة كبار القصاص والقصة وليدة في الادب العربي. فحسبها ان تبلغ الان ما بلغته في فن هذا الشاب.
ويغلو بعض كتاب القصة في هذه الايام في اتجاهين : اتجاه الى الصراع الاجتماعي والاتجاه الى التحليل النفسي وليس لنا من اعتراض على أي اتجاه مادام لا يؤثر في سمة العمل الانسانية ولا يطغى على حقائقه الفنية ومن واجب الفنون ان تحيا في محيطها ولكن الغلو في الاتجاه الاجتماعي كاد يحيل القصة الى توجيهات اجتماعية مباشرة او نبوءات اجتماعية موجهه على نحو ما يصنع ويلز في معظم قصصه لا عملا فنيا يخاطب الحاسة الفنية ويجري في تاريخ الحياة الطبيعي المرسوم والغلو في التحليل النفسي كاد يحيل القصة تسجيلا لمشاهدات معملية او محضرا لجلسة تحليل نفسي
وهذا وذاك ليس فنا واو اخذ الشكل الظاهري للفنون!
وكذلك حاول بعضهم في وقت ما ان ينشئ قصة رمزية فانتهينا الى معمعيات لا ترسم الحياة ولا اتصور نفوسا ولست احسب القصة ميدانا للاتجاه الرمزي إذا صح أن الشعر يقبل هذا لاتجاه.
فالقصة عمل الوعي ونصيب اللاوعي فيها محدود واثره لا يبدو على كل حال في التصميم الفني للقصة ولا في التعبير عنها الا بمقدار فقد يكون له اثر في تلوين الشخصيات وتصوراتها وافعالها ولكن اثره ضعيف في التعبير عن هذه التصورات والافعال لان التعبير في القصة يتم في حالة وعي كامل لا كما يتم في الشعر في بعض الاحيان تحت تاثير تيارات لاشعورية تغمر الوعي وتغرقه لحظات.
فيجوز أن يعبر الشاعر عن حالة غامضة في شعوره وعن إحساس مبهم له تعبيرا رمزيا ولكن القصاص الذي يجب ان يصور لنا الحوادث كأنها تقع والشخصيات كأنها تعيش والحياة كأنها تجري ولو كان يصور حياة أبطال الاساطير. هذا القصاص كيف يختار طريقة الرمز فيدعنا في غموض وإيهام ؟ ويدع الحياة ملفعة بالضباب والغيوم؟ إلا ان يكون ذلك افتعالا وتحكما.
إن لحظات الغموض والابهام ليست دائمة في نفس الشاعر. ونادرون جدا اولئك الشعراء الذين يعيشون حياتهم الشعورية كلها في ضباب .فإذا عبر الشاعر في بعض الاحيان تعبيرا رمزيا عن شعوره لا يتبينه في نفسه واضحا كان ذلك مقبولا. أما أن يجئ قصاص فيصور حياة طويلة لشخصيات وحوادث في فترات مختلفة تصويرا رمزيا فذلك هو الافتعال فضلا على ما فيه من مخالفة طبيعة القصة ومجالها الطبيعي.
ويجوز أن توجد أقصوصة رمزية لان الاقصوصة قد تكون لحالة نفسية مفردة كالقصيدة. والحالات النفسية المفردة تحتمل الرمزية فاما تصوير عدد من الاحداث وعدد الاشخاص وفترة كاملة من الحياة في جو رمزي فنحسبه مخالفة لطبيعة الاشياء ومسالة تراد ارادة ويعدل بها عن طريقها الطبيعي. وأشد ما يفسد العمل الفني الا تكون طبيعته هي التي توحي باتجاهه وان يستمد هذا الاتجاه من مذهب مقرر سابق يحدد القوالب والاشكال. وهذا هو عيب المدارس الفنية على وجه الاجمال.
بقيت كلمة اخيرة في لغة القصة وقوام كل عمل ادبي هو مطابقة قيمه التعبيرية لقيمة الشعورية ومناسبة استخدام الاداة لطبيعة العمل الذي تستخدم فيه واتجاهه. والقصة كما قلنا تهدف الى تصوير الحياة في محيطها الطبيعي وفي هذا المحيط تختلف الاجواء والحالات الشعورية. ومن هذا الاعتبارات كلها يلخص لنا ان لغة القصة ينبغي ان تكون لغة نثرية لا شعرية – الا في اللحظات الخاصة التي يفيض فيها الشعور ويرتفع ويتوهج او يراد وضع اطار من وصف الطبيعة او سواها تعيش في داخله لحظات حالمة مشرقة او كئيبة آسية في سياق القصة- وكلما عبر كل شخص فيها بلغته حسب مستواه فيها ووضعه كان ذلك أكمل لانه يساعد على نسياننا للمؤلف وشعورنا بأن الحياة تجري طبيعية أمامنا دون أن يعترضها تنسيقه المفتعل. وقد يجد المؤلفون في اللغة العربية بعض الصعوبة لتطويعها لجميع المستويات الفكرية والشعورية لانها بطبيعتها لغة الخواص ولكن هذا التطويع ممكن حسب المواقف بدون خروج على حساب طبيعة اللغة وأساليبها . وخير ما يضرب به المثل على هذا التطويع أسلوب المازني في ((ابراهيم الكاتب)) و(( ابراهيم الثاني)) بل في سائر م اكتب من الاقاصيص والصور والامر الذي يمكن مرة يمكن مرة اخرى إذا صحت النية وانتفى الكسل والمحال .
أما الاقصوصة فهي شىء آخر غير القصة فليست الاقصوصة ((قصة قصيرة )) وتسميتها هكذا short story قد توجد شيئا من اللبس . ولعله أولى ان نصطلح في اللغة العربية على تسمية القصة ((رواية )) لنبعد ما بين اللفظين من الاشتباه.
ليست الاقصوصة قصة قصيرة وحجم الاقصوصة ليس هو السمة التي تعين طبيعتها فالاختلاف بينها وبين القصة لا يقف عند حجمها إنما يتعداه الى طبيعتها ومجالها.
تعالج القصة فترة من الحياة بكل ملابساتها وجزئياتها واستطراداتها وتشابكها وتصور شخصية واحدة او عدة شخصيات في محيط واسع في الحياة. ويجوز ان تصف مولد هذه الشخصية وكل ما احاط به وتتدرج معها فتصف كل ماوقع لها وتستطرد الى الشخصيات والاحداث التي اعترضت طريقها فتصفها وتحللها وتدخل في السياق- المرة بعد المرة – شخصيات جديدة ومعالم طبيعية وحوادث تعترض مجرى القصة الاولى وتتفرع الى جداول ومنعرجات تؤثر في اتجاها وتشمل على وجه العموم كل شخص او حادث او مناسبة او منظر له علاقة بمجرى الرواية من قريب او بعيد ما دام اشتمالها عليه ليس متكلفا ولا مفتعلا.
اما الاقصوصة فتدور على محور واحد في خط سير واحد ولا تشمل من حياة أشخاصها إلا فترة محدودة او حادثة خاصة او حالة شعورية معينة ولا تقبل التشعب والاستطراد الى ملابسات كل حادث وظروف كل شخصية إذا كان ذلك يوجه النظر بعيدا عن الشخصية الاساسية او الحالة الاساسية .
ولابد في القصة من بدء ونهاية للحوادث لتصل الى غاية مرسومة- كما قلنا- اما الاقصوصة فلا يشترط لها بدء ولا نهاية من هذا الطراز فقد تصف حالة نفسية اعترت شخصا ما في لحظة ما فاذا صورتها صورة مؤثرة موحية فقد انتهت مهمتها ولقد تعالج الاقصوصة حادثة ذات أثر معين في حياة معينة فيكون لها بدء ونهاية ولكن هذا ليس شرطا فيها ولا يخل عدم وجوده بوجودها والحادثة على العموم في الاقصوصة هي آخر مقوماتها وأقل قيمها.
ولان الاقصوصة تعتمد على قوة الايحاء والتصوير قبل ان تعتمد على الحادثة ولا على الشخصية كان من الضروري ان تتبع طريقة أداء قوية موحية منذ اللحظات الاولى وان تعتمد على تعبير لفظي حافل بالصور والظلال والايقاع. كالشعر لان الفرصة التي أمامها للإيحاء محدودة وحبكة الحوادث التي قد تغني في القصة ليست ميسرة لها ومجالها المحدود يحتم عليها التركيز والاندفاع.
لذلك تسقط الاقصوصة البطيئة الحركة الباردة العبارة لان الاقصوصة كلها تتركز في الحركة السريعة والعبارة المشعة وليس هذا هو الافتعال في السياق ليكون حار وفي العبارة لتكون رنانة ولكن معناه البدء بنقطة حية والتعبير بعبارة فيها لون شعري على قدر الامكان لا كما قد تبدا القصة بحادثة تافهة وعبارة ساذجة ثم تأخذ في الحرارة بعدها والاندفاع لان الفرصة هنا محدودة والشوط كذلك قريب.
وقد تبلغ الاقصوصة في الايحاء والتأثير السريعين القويين ماتبلغه القصيده وتصل بالنفس في نهايتها الى شعور مطلق مبهم تنسى فيه احداثها الجزئية ومعانيها التفصيلية كما تصنع المقطوعة الجيدة من الشعر او الموسيقى .
ومازلت استعيد حالات شعورية من هذا القبيل كلما تذكرت أقصوصة ((رجل للبحر)) للقصاص (( مانهود )) في مجموعة (( من الادب الفرنسي للزيات)) او اقصوصة (( دفن روجر مالفن)) للقصاص ((ناثاينيل هوثورن)) في مجموعة (( مختارات من الادب الانجليزي للمازني)) او اقصوصة ((الصمت)) للقصاص (( اندريف)) في مجموعة (( الوان من الحب لعبدالرحمن صدقي)) او اقصوصة ((حارس المنارة)) للقصاص ((سينكوكز)) في مجموعة (( الخطايا السبع لعلى ادهم)) او اقصوصة (( الاحمر)) للقصاص ((سومرست مو)) في مجموعة (( أمطار للسيدة أمينة السعيد )) او اقصوصة (( رسالة من امرأه مجهولة)) للقصاص (( زفابج)) في مجموعة (( سخريات صغيرة لمحمد قطب )) أو أقصوصة ((ليرضي أمراته )) لتوماس هاردي في نفس المجموعة. ومن هذا الاتجاه في اللغة العربية ((قنديل ام هاشم )) ليحيى حقي و ((وسوسة الشيطان)) لعبدالحميد جودة السحار .
وهي حالات شعورية ترتفع الى مستوى ارفع الحالات التي خالجتني وانا اقرا لكبار الشعراء.
ولعل هذا يصور لكتاب الاقصوصة عندنا ما في طاقة الفن الذي يزاولونه ان يبلغه لو رزقوا الموهبة. ولعله يصور كذلك للقراء الغالبية مما يقرءون من اقاصيص عما تستطيع الاقصوصة بطبيعتها ان ترقى إليه من آفاق.
ولقد نستطيع- وهذا مجرد اقتراح- ان نسمي: أقصوصة وقصة ورواية. فتكون الاقصوصة وتكون الرواية بالوصف الذي اسلفنا. اما القصة فتكون وسطا بينها –لا في الحجم فالحجم يعني شيئا – ولكن في المحيط الذي تشمله. يكون لها بدء ونهاية في الزمن حتما كالرواية ولكنها لا تتسع اتساعها ولا تشمل مساحة واسعة من الحياة والشخصيات ومن الاحداث كما تشمل الرواية انما تقوم على محور ضيق ومحيط محدود من الشخصيات
واضرب المثل بالباب الضيق لاندريه جيد والمقامر لدستويفسكي لان حجمهما متقارب مع اختلاف المحيط والحوادث والشخصيات فالباب الضيق تصلح مثلا طيبا للقصة ذات الاتجاه الواحد اذ هي صورة حب خاص في نفس خاصة بينما المقامر على صغرها تشمل حشدا من الشخصيات والاحداث بجانب شخصية البطل وعلى كل فهذا مجرد اقتراح