( يومٌ ليسَ كمثلهِ يوم )
كانَ يوماً بائساً ليسَ كمثلهِ يوم مرَّ على مدينة الموصلِ وَجمانة التركمانيّة ، غيرَ يوم حلَّ بكربلاء . حينَ تلَطّخَّ بآثام البشريّة منذ ان خلقَ الله الأرض ومن عليها . يومٌ نُحِرَت فيِهِ الطفولة على محراب العُهرِ وَ الفجور. وانتُهكت فيهِ البراءة على منصّات الخسّةِ وَ النذالة . وَ دُنِّسَتْ فيهِ المخادع حتّى أريقَ دم العذريّةِ على منابر الاِنحطاط وَ الرذيلة . هوَ يومٌ اِشتَكَت فيهِ الجماجمِ لله وَ رسولهِ بعدَ أن تناثرَ قطافها عندَ كلِّ منحدر ..وَعلى سفوحِ الأوديةِ وَطافياً فوقَ مياه الأنهار ، وأشلاءً مرميّةً على الطرقاتِ مزّقتها آلةِ السَفح وَ الطفحِ ، يومٌ قد وَقفت فيهِ نواعق الدم على رؤوسِ العباد بعدَ أن اوغلت فيها سفكاً ، حتّى اِنسَلَّ بخارها يَسمَق نحوَ أبواب السماء .. كسحابةٍ اِمتَزَجَتْ فيها الدماء ، فصارَت دماً واحداً لايعتنق غير مذهب الشهادةِ ديناً . وَحتّى صارَ الدم القاني قمحيٍّاً كأرضِ العراق ، هوَ يومٌ ساخطٌ اِحتَجّتْ فيهِ ملائكة السماء حينَ هُدِّمَت فيهِ قبور الأنبياءِ وَ الأولياءِ وَ الجوامعِ وَ الكنائسِ وَأُحرِقَت فيهِ المصاحف ، هوَ يومٌ بكى فيهِ العالم ببكاء الآشوريين حينَ سقطَ الثور المجنّح هاوياً على الأرضِ ، هوَ يومٌ قاطِبٌ لايُحسَدُ عَليهِ أحد من أهل المدينةِ القانطينَ تحتَ سطوة العتوِّ وَ الفسوق ، فَمنهم من قضى نَحبه وَمنهم من ينتظر ،غير جمانة التي لَم تَشأ لَها الأقدار أن تنتظر طويلاً بينَ مكامن الهوايةِ وَ الغواية ، بعدَ أن فَقدت جميع أهلها في مدينةِ تلّعفر ، فَعندما سقطَت صواريخ البغي على المنازلِ هوى منزلها على من كانَ فيه , بينما كانت هيَ تسكنُ في بيتٍ لجدّتها ، لاأحدَ وجدَ سعدهُ في مثلِ هذا اليوم المَهول ، فالكلّ باتَ مغبوناً بمن فيهم جمانة ، رغمَ اِنّها استطاعت أن تنجو بِعفافها بعدَ أنَ فرّت معَ من بقيَ ممّن كُتِبَ لهم النجاة في سبيلِ حياة ملؤها الألم وَمرارة الفراق ، اِتّجهوا قاصدينَ مدينة الحسينِ (ع) ، لا يومٌ كمثل هذا اليوم غير يوم في الطفوف ، المشهدُ وَ عيناها يحكيان قساوة ذلك اليوم قبلَ أن تبلغَ أطراف المدينة ، وَمن خلال رحلةٍ مُضنيةٍ اِستمرّتْ لأيّامٍ ، اِعتَنَقت فيها الصبرغاية بعدَ ان غادرت مدينة الطفولة وَ الذكريات ، حينَ كانت تنظرُ اِلى أخيها عبّاس قبلَ أن يسافرَ الى بلاد المهجرِ منذ التسعينيات ، وَهوَ يحيي مأتماً حسينيّاً في يوم عاشوراء ، وَحينما كانَت هيَ تأنّ باكيةً كلّما تَذكَرت زينب (ع) ، لاشك اِنّها سَمِعَت عنها الكثير , وَحفِظَتْ عنها ماأوردتهُ الروايات وَهيَ تنعى أخيها أبو الفضل (ع) ، ياترى أينَ أنتَ وما جرى من بعدكَ ياعبّاس ؟ قَد أنَّ بهِ كَبِدها طويلاً وَهيَ بأمسّ الحاجة اِلى من يربتُ على كتفيها أو يَمسَح على رأسها مواسياً ، َفي ظرفٍ دامِغٍ مبالَغٌ فيه فاقَ جميع التَصوّرات ، انعكسَ المشهد على هيئتها الواهنة , وَ بدا غافياً على بريق عينيها الدامعتينِ وَهيَ تَنظر قبالة الحرمينِ الشريفينِ عندَ وصولها كربلاء ، كربلاء التي كانت تّقف على قَدمٍ وَساق لاِستقبال النازحين اِليها من كلِّ صوبٍ وَ حدب ، حينَ اجتمعت مآسي العالم بأجمعها في قلبٍ واحد ، هوَ ذاتَ القلب .. قلب مدينة الحسين (ع) ، جالت بعينيها المكان ، وارتفعت بهما صوبَ قبّة أبي الفضل (ع) . تلسعها نار الحيرة ، مابين قلبٍ خافقٍ مُستَعرٍ عَلى مصابها من جهةٍ , وَعلى أخيها من جهةٍ أخرى ، لَم تيأس حتّى تتصل بعبّاس وَتخبِرَهُ بما حصلَ لها وأهلها ، وَتخبرهُ عن ماحلَّ بمدينتها المغتصبة المخضّبة بالويلِ وَ الثبور ، وما اِن سَمِعَ هوَ بالخبرِ حتّى عادَ من فورهِ اِلى أرض الوطن ، بعدَ غيابٍ دامَ خمسة عشر عاماً كانَ بصحبتهِ زوجتهِ وَ أطفالهِ قاصدينَ كربلاء المقدّسة ، عبّاس ..رَجلٌ طالما كانت جمانة فخورةٌ بهِ منذ طفولتها ، عندما كانت تُكنّيهِ بأبو الغيرة ، فَقد تعلّمت منهُ الكثير من المواعظ وَ العبر ، في الصبرِ وَ الكبرياء وَ العفّة ، فَطالما كانت تَذكُر طيبته تجاهها وَحينَما كانَ يقِف لَها مواسياً في أحلَكِ المواقف التّي مرّت بها ، لَم يَخِب من أسماه عبّاس ، عبارة كانَت تتردّد على مسامعها حينَما كانَتْ أمّها ترنو باِسمهِ باكيةً كلّما تَذكّرته على حين اِشتياق ، لَقد كانَ عبّاس بارّاً بوالديهِ حتى بعدَ أن أجبَرَتهُ ظروف القهرِ والحرمانِ في عهدِ نظام القمع والاستبداد ليغادر العراق اِلى بلاد المهجر ، وَأخيراً قَد عادَ للوطن الذي عَشقهُ وَناضل لأجلهِ عمراً ، فيما اكتحلَتْ عين جمانة المسكينة برؤية أخيها من جديد ، وَ بقيَت عينها الأخرى دامعةً لاتهدأ لها سكينة مالَم تَنتقم لأحِبّتها الذينَ تواروا عن أنظارها منذ وقتٍ قريب ، وَما ان أحاطَ بِها عبّاس وَ عائِلتهُ حتى بدا جَسدُها غافياً على صدرهِ العارِم دونَ شعورٍ منها ، غيرَ شعورِ وحيد بقيَ يراود مخيّلتها طويلاً ، حاكتهُ لَها يد القدرِ المشؤوم ، نَمَّ عنه نحيبٌ طويل ، وَ عتابٌ أطول منه ، قد نالَ من أحقاب الدهر كلّه ، بعدَ أن كانت تنعم بأيّام السكينة في ظلِّ دفء الأسرة وَ سقف ذلكَ المنزل الذي ترعرعت بهِ . وَتلكَ المدينة الغافية على متن التأريخ منذ آلاف السنين ، ضلَّ عبّاس طوال الوقت يصغي لكلِّ حرفٍ تقولهُ جمانة ، فيما كانَ قلبه ينبض سريعاً حتّى جحظت عيناه من هولِ ماسَمع منها ، فَما بَرِحَت قصّة سيّد الشهداء عالقةً بأذهانهِ منذ صباه ، لايومٌ كيومكَ ياحسين ، قالها ليَربطَ بها جأشه حتّى يرى مايفعل في سالف الأيّام ، أخي عبّاس .. أأطلب منكَ شيئاً ؟ سؤالٌ طرحته جمانة بِمرارة وَ حرقة ، وَ ما اِن سَمعَ عبّاس ندائها حتّى اتّسعَ صدره العارم بعدَ أن ملأ الأوكسجين رئتيه وَقال .. كلّي آذانٌ صاغية أخيّتي ، قالت لاأخبِركَ بما أكتُم في داخلي حتّى نذهبَ سويّةً اِلى مرقدِ أبي الفضل (ع) ، قال .. هَلّمَ اِذن فأنا مشتاقٌ لزيارتهِ منذ زمن.. وَما اِن وصلا اِلى الصحنِ الشريف وكانَ برفقتهم زوجته وأطفاله حتى تنهّدَت جمانة قبلَ أن َ تؤدّيَ مراسم الزيارة في كنفِ أبي الفضل (ع) ، ووَقفت قبالة المرقد الشريف مخاطبةً أخيها .. أقسم عليكَ بهذا وَكانت تشير نحوَ مرقدِ أبي الفضل (ع) ، أن تأخذَ بثأري وَ ثأر أهلي وَ أخوتي وَ مدينتي من هؤلاء السفّاكونَ المَردة الفَسَقة الذينَ عاثوا في الأرضِ فساداً بغيرِ حقِّ ، أقسمُ عليك ، قالتها مجهشة بنحيبٍ كادت منه السماء أن تنطبق على الأرض حتى غرغرت عينا عبّاس قبل أن يخاطبها قائلاً .. لَقد حَملتُ هذا القسم بين عينيَّ ياأختاه حتّى يَتحقّق ماصبَوتي اِليهِ باِذن الله ، وَكلّ ماعليكِ هوَ رعاية هؤلاء لحين عودتي اِليكم سالماً ، وَكانَ يشير اِلى عائلتهِ وهيَ تقف بالجوار منهم ، لَم يَغب ذلكَ المشهد عن ذاكرة جمانة أبداً وَهوَ يعني لَها الكثير حينَ قَبِلَته بفخرٍ متأسيّة بموقف السيّدة زينب (ع) حينَ رَمَت على عاتقها رعاية نسوة وأطفال أخوتها الذينَ استشهدوا دفاعاً عن الشرفِ والكرامة .. لَبيك ياحسين .. هيَ آخر ماتَمتَمَ بها عبّاس في كنفِ أبي الفضل (ع) قبلَ أن يلتحقَ بكوكبةٍ من جموع الحشد الشعبي نحوَ معارك الشرف وَ الفضيلة ، فَلَم يكن يخشى مصيراً آخر غيرَ أن يفي بذلكَ القسمِ وَذلكَ العهد الذي قَطعَهُ أمام جمانة داخلَ مرقد أبي الفضل (ع) ، وَلَم يترك مكاناً لم يذهب اليهِ قد استوطنه الغزاة البغاة ، بعدَ أن قاتلَ عبّاس بشراسة في جرفِ النصر وَ الزيدان وصدر اليوسفيّة وَ سامراء وَ تكريت بعدَ أن قتلَ منهم مقتلاً . وما زالَ يقاتل ببسالة تحفّه بركة الزهراء (ع) باِنتظار معركة تحرير الموصل الكبرى التّي ستقرّ بها عين جمانة وهيَ تنتظر عبّاس َ ليعيدَ المياه لسواقيها وَ البسمة لأطفالها ..