بقلم/ خالد القشطيني
كان الجانب الشمالي من بغداد،وهو ما يعرف بصوب الرصافة ، منطقة محتشدة بشتى الطوائف
الدينية،عقد النصارى و عقد اليهود و كمب الارمن و نحوها,وكذلك بشتى الاحيان و الازقة الاثنية ذات
القوميات امختلفة ، دربونة العجم و تبة الكرد و جامع الازبكي و هكذا. و لكن محلة واحدة منها تميزت
بعدديتها و تنوعها بصورة خاصة.
محلة صبابيغ الآل من المحلات التقليدية القديمة في جانب الرصافة من بغداد. تميزت عن بقية المحلات القديمة
الأخرى بخليطها السكاني .عاش فيها مسلمون من شتى الطوائف ، سنة وشيعة، و مسيحيون كلدان و
سريان و كاثوليك، و يهود من شتى الأصناف و الطبقات.
فيها عرب و ارمن و كرد و عجم. عاشوا جميعا في انسجام تام. أعطاني صديقي موسى علاوي صورة ظريفة لهذا
التعايش الذي عرفته صبابيغ الآل في أيام الخير، ايام العهد الملكي.
كان بيتهم القديم يجوار اسرة مسيحية، بيت القدسي. تجاوروا لسنين طويلة و نشأت بين العائلتين علاقات ودية عميقة،
بما فيها التبادل التجاري،
اقصد به تبادل الطعام على عادة العوائل العراقية. انحدرت اسرة القدسي من الموصل فتفننت ام جوزفين، سيدة الأسرة
في صنع كبة البرغل الموصلية، في حين اتقنت ام موسى الطرشي المدبس البغدادي و مرقة السبسي و التمن.
دأبت العائلتان على تبادل الطعام . و لكنهم وجدوا في الأخير مشقة في في الخروج كل يوم بماعون كبة او باجلا او
دولمة و المرور به امام الناس، وطرق الباب، و انتظار من يفتحها و هكذا. ربما يثير ذلك كثيرا من القيل و القال. قرروا
في الأخير تفادي كل ذلك بأن ثقبوا الجدار المشترك بين البيتين بحيث يستطيعون تمرير الأكل بسهولة عبر هذا الثقب
دون الخروج للشارع.
تضرب ام موسى على الحائط ، طب !طب! طب! فتسمعها ام جوزفين "عيني ام جوزفين . هذي مرقة سبسي ،
يمكن ابو جوزفين يحبها.والله تنغصت بيها عليكم"
في اليوم التالي تعيد ام جوزفين الكرة بماعون كشري أو كبة برغل. وهكذا.
كانت ام موسى قليلة الحظ بالأولاد. فقدت اولادها الثلاثة في طفولتهم ، واحدا بعد الآخر. و عندما رزقها الله بصديقي
موسى ، حرصت على سلامته و بقائه. كانت تصلي كل يوم وتدعوالى الله بحرقة أن يبقيه لها سالما.
انتشر مرض الجدري في ذلك الوقت في العراق و قررت السلطات البريطانية تطعيم كل الأطفال ضده. سمعت ام موسى
بذلك و لكنها رأت ان ذلك سيقضي على ابنها لا محالة. فقررت عدم تطعيمه ضد الوباء مهما حصل.
" طب! طب! طب! " سمعت ضربا عصبيا على الجدار. اسرعت الى ثقب الحائط ، و لكن لم يكن هناك أي طعام. كان
هناك فقط وجه الممرضة جوزفين. " ام موسى ،ام موسى! كنتو بالمستشفى المجيدية . سامعين هونيك انه
انتو امتنعتوا عن تطعيم ابنكم موسى وقرروا يبعثون بالشرطة ، شرطة انكليزية، وممرضة لتطعيمه
جبرا.
كاد يغمى على المرأة . و لكن جوزفين طمأنتها. تشاورت العائلتان في الأمر ثم قرروا تمرير الطفل من ثقب الجدار بحيث
لا تستطيع الشرطة العثور عليه عندما يأتون و يفتشون البيت. و تقوم ام جوزفين خلال ذلك بترضيعه وغسله وتنظيفه
كما يقتضي في بيتها . ثم تعيده عبر ثقب الجدار مساء ليقضي الليل مع امه و ابيه.
و هذا ما حصل. فشلت الشرطة في العثور على الطفل."عيني ما عندنا أي طفل هنا. منو قال لكم هذا الكلام؟
فوتوا دوروا البيت كله.هذي كلها اخبارية كاذبة . الله يلعنهم."
و دوروت الشرطة كل غرف البيت و لم يعثروا عليه. كان موسى اثناء ذلك في بيت الجيران النصارى في حضن ام جوزفين ترضعه.
لعشرة ايام ظلت الأسرتان تتبادلان الطفل، صديقي موسى عبر ثقب الجدار . تسهر عليه المرأة النصرانية طوال النهار
كما لو كان ابنها ثم تمرره ثانية الى اهله مساء. و كانت بذلك تخاطر بتعريض نفسها للعقوبة على عصيان الأوامر
حرصا على سلامة هذا الطفل المسلم الصغير.
روى لي صديقي موسى كل ذلك و اضاف فقال، تعرف ابو نايل، لو تفكر بالقصة ، تشوف اني في الحقيقة مدين بحياتي
لهذه المرأة النصرانية و ابنتها الممرضة جوزفين و كل ما أعطوني من عناية و سهر و تعب. عشرة ايام كاملة يمر
خلالها عبر ثقب الجدار صباح كل يوم ومساء كل ليلة. ولكنها كانت عشرة ايام من أيام الخير، يوم لم
يكن الناس في العراق يميزون بين المسلم و المسيحي و اليهودي، او السني و الشيعي.
(ئي) نعم....ايام خير و فاتت