ما هي الأسباب التي دفعت بهارون الرشيد إلى اعتقال الإمام (عليه السلام)؟
1ـ احتجاج الإمام (عليه السلام)
من الأسباب التي حفّزت هارون الرشيد لاعتقال الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) وزجّه في غياهب السجون، احتجاجه عليه بأنه أولى بالنبي (صلّى الله عليه وآله) من جميع المسلمين، فهو أحد أسباطه ووريثه، وأنه أحق بالخلافة من غيره، وقد جرى احتجاجه معه عند قبر النبي (صلّى الله عليه وآله) وذلك عندما زاره هارون وقد احتفّ به الأشراف والوجوه وقادة الجيش وكبار الموظفين في الدولة، فقد أقبل بوجهه على الضريح المقدّس وسلّم على النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً:
(السلام عليك ابن العم).
وبذلك بدا الاعتزاز والافتخار لهارون على غيره برحمه الماسة من النبي (صلّى الله عليه وآله) وإنه نال الخلافة لهذا السبب، قربه من الرسول (صلّى الله عليه وآله).
أما الإمام الكاظم (عليه السلام) فتقدم أمام الجمهور وسلّم على النبي (صلّى الله عليه وآله) قائلاً: (السلام عليك يا أبتِ).
عندها استولت على الرشيد موجات من الاستياء وكاد يفقد صوابه لأن الإمام (عليه السلام) قد سبقه إلى ذلك المجد، فاندفع قائلاً بصوت مشحون بالغضب: (ثم قلت إنك أقرب إلى الرسول (صلّى الله عليه وآله) منّا؟!).
فأجابه الإمام (عليه السلام) بهدوء كعادته وبجواب مفحم لم يتمكن الرشيد من الرد عليه. (لو بعث رسول الله حيّاً وخطب منك كريمتك هل كنت تجيبه إلى ذلك؟ فقال هارون:
سبحان الله!! وكنت أفتخر بذلك على العرب والعجم.
فانبرى الإمام وبيّن له الوجه الصحيح في قربه من النبي (صلّى الله عليه وآله) دونه قائلاً:
(لكنه لا يخطب منّي ولا أزوجه، لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم) وتابع (عليه السلام) مدعماً رأيه ببرهان آخر فقال لهارون:
(هل كان يجوز له أن يدخل على حرمك وهنّ مكشفات؟؟)
فقال هارون: لا.
فقال الإمام (عليه السلام): لكن له أن يدخل على حرمي، ويجوز له ذلك، وهذا يعني أننا اقرب إليه منكم. وبذلك يكون الإمام قد سدّ أمامه كل منافذ الدفاع بحججه الدامغة بعد أن ألبسه ثوب الفشل، وبيّن بطلان ما ذهب إليه، فهو أحق منه بالخلافة لأنه سبطه ووارثه.
عندها اندفع هارون حانقاً وأمر باعتقال الإمام (عليه السلام) وزجّه في السجن (1) ثم سأله الرشيد قبل دخوله السجن:
لمَ فضلتم علينا ونحن وأنتم من شجرة واحدة بنو عبد المطلب، ونحن وأنتم واحد، إنا بنو العباس، وأنتم ولد أبي طالب وهما عمّا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقرابتهما منه سواء؟
فقال (عليه السلام): نحن أقرب إليه منكم، قال هارون: وكيف ذلك؟
فقال (عليه السلام): لأن عبد الله وأبا طالب لأب وأم، وأبوكم العباس ليس هو من أم عبد الله، ولا من أم أبي طالب.
قال هارون: فلم ادعيتم أنكم ورثتم النبي (صلّى الله عليه وآله) والعم يحجب ابن العم، وقبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وقد توفى أبو طالب قبله. والعباس عمه حيّ؟
فقال (عليه السلام): إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني عن هذه المسألة يسألني عن كل باب سواه يريد.
قال: لا، أو تجيب. فقال (عليه السلام): فآمنّي. قال: آمنتك قبل الكلام.
فقال (عليه السلام): إن في قول علي بن أبي طالب (عليه السلام): إنه ليس مع ولد الصلب ذكراً كان أو أنثى لأحد سهم إلا الأبوين، والزوج والزوجة، ولم يثبت للعم مع ولد الصلب ميراث، ولم ينطق به الكتاب العزيز والسنّة، إلا إن تيماً وعدياً وبني أمية قالوا: العم والد، رأياً منهم بلا حقيقة ولا أثر عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، ومن قال بقول علي من العلماء قضاياهم خلاف قضايا هؤلاء، هذا نوح بن دارج يقول في هذه المسألة بقول علي، وقد حكم به، وقد ولاّه أمير المؤمنين المصرين:
الكوفة والبصرة، وقضى به.
فأمر هارون الظالم بإحضار من يقول خلاف قوله. منهم: سفيان الثوري وإبراهيم المازني، والفضيل بن عياض، فشهدوا جميعهم أنه قول علي (عليه السلام) في هذه المسألة.
فقال لهم: لما لا تفتون وقد قضى نوح بن دارج؟ فقالوا:
جسر وجبنا، وقد أمضى أمير المؤمنين قضيته بقول قدماء العامة عن علي أقضانا، وهو اسم جامع، لأن جميع ما مدح به النبي (صلّى الله عليه وآله) أصحابه من القرابة، والفرائض، والعلم، داخل في القضاء.
قال هارون: زدني يا موسى.
فقال (عليه السلام): المجالس بالأمانات وخاصة مجلسك.
فقال هارون: لا بأس.
فقال (عليه السلام): النبي (صلّى الله عليه وآله) لم يورث من لم يهاجر ولا اثبت له ولاية حتى يهاجر. وعمّي العباس لم يهاجر (2).
2ـ تعيينه لفدك (3)
وسبب آخر أغاظ نفس هارون على الإمام (عليه السلام) ودعاه إلى اعتقاله، حتى والتخلص منه، تعيينه لفدك بأنها تشمل أكثر المناطق الإسلامية وذلك حينما سأله هارون عنها ليرجعها إليه فلم يرضَ (عليه السلام) إلا أن يأخذها بحدودها، فقال الرشيد:
ـ ما هذه الحدود؟ فقال (عليه السلام): إن حددتها لم تردها لنا.
فأصرّ الرشيد عليه أن يبينها له قائلاً: بحق جدك إلا فعلت.
عند ذلك لم يجد الإمام بداً من إجابته، فقال له:
(أما الحد الأول): فعدن. فلما سمع الرشيد ذلك تغيّر وجهه.
وأما الحدّ الثاني: (سمرقند). فأربد وجه الحاكم الظالم واستولت عليه موجة من الغضب، لكن الإمام (عليه السلام) بقي مستمراً دون أن يأبه له.
والحد الثالث: (إفريقيا). فاسودّ وجه الرشيد وقال بصوت يقطر غيظاً (هيه) ثم عيّن الإمام (عليه السلام) الحد الرابع والأخير قائلاً:
والحد الرابع: (سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينية).
فثار الرشيد ولم يملك أعصابه دون أن قال:
ـ لم يبق لنا شيء!!
ـ فقال الإمام (عليه السلام): (قد علمت أنك لا تردّها).
وتركه الإمام (عليه السلام) والكمد يحزّ في نفسه، فأضمر له الشر منتظراً الوقت المناسب للتنكيل به (4).
لقد بيّن الإمام (عليه السلام) للرشيد أن العالم الإسلامي بجميع أقاليمه من عدن إلى سيف البحر ترجع سلطته له، وإن الرشيد من سبقه من الخلفاء قبله قد استأثروا وغصبوا الخلافة من أهل البيت (عليهم السلام).
3ـ حرص الرشيد على الملك
كان هارون الرشيد يحصر حرصاً شديداً على ملكه، يضحّي في سبيل السلطة جميع المثل والقيم والمقدسات. وقد عبّر عن مدى تفانيه في حب السلطة بكلمته الحقيرة التي تناقلتها الأجيال وهي:
(لو نازعني رسول الله (صلّى الله عليه وآله) على السلطة لأخذت الذي فيه عيناه).
أجل لو نازعه الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) لأخذ الذي فيه عيناه، فكيف لو نازعه الإمام (عليه السلام)؟! فهل يمكن أن يخلّي عن سراحه؟ هذا والذي يحزّ في نفسه إجماع الناس على حب الإمام (عليه السلام) وتقديرهم له.
لذلك كان يخرج متنكراً بغير زيّه ليسمع أحاديث العامة،ويقف على رغبتهم واتجاههم، فلا يسمع إلا الذكر العاطر، والحبّ الجامع والثناء على الإمام (عليه السلام).
كل الناس يحبونه، كل الناس يرغبون في أن يتولّى شؤونهم، فلذلك أقدم على ارتكاب فعلته الشنعاء والموبقة حتى انتهى به الأمر إلى قتل الإمام (عليه السلام).
4ـ بغضه للعلويين
ورث هارون الرشيد بغضه للعلويين عن آبائه الذين نكّلوا بهم، وصبّوا عليهم ألواناً من العذاب والاضطهاد والقتل والتشريد. فمنهم من ساقوهم إلى السجون، ومنهم إلى القبور. طاردوهم في كل ناحية حتى هربوا هائمين على وجوههم يلاحقهم الخوف والفزع والرعب.
أما هارون قد أترعت نفسه ببغض العلويين فزاد على أسلافه جوراً وظلماً وإرهاباً حتى أشاع الحزن والثكل والحداد في كل بيت من بيوتهم. استعمل جميع إمكانياته للبطش بهم، ففرض عليهم الإقامة الجبرية في بغداد، وجعلهم تحت المراقبة الدقيقة، ولم يسمح للاتصال بهم، وحرمهم من جميع حقوقهم الاجتماعية. حتى أنه دفن البعض منهم أحياء.
وطبيعي أنه لا يترك عميد العلويين الإمام الكاظم (عليه السلام) في دعة واطمئنان، ولم يرق له محبة الجماهير للإمام، فنكّل به ودفعه لؤمه وعداؤه الموروث إلى سجنه وحرمان الأمة الإسلامية من الاستفادة بعلومه، ومن سموّ نصائحه وصواب توجيهاته.
لقد استقبل إمامته التي استمرت خمسة وثلاثين عاماً في هذا الجور المشحون بالحقد والكراهية لأهل البيت بصورة عامة، فلزم جانب الحذر واعتصم بالكتمان إلا عن خاصته. حتى أن رواته قلّما كانوا يروون عنه باسمه الصريح. لكن كل ذلك لم ينجيه من سجن الطاغية هارون.
5ـ الوشاية بالإمام (عليه السلام)
ضمائر رخيصة انعدمت من نفوسهم الإنسانية، فعمد فريق منهم فباعوا دينهم بثمن رخيص، فوشوا بالإمام (عليه السلام) عند الطاغية هارون ليتزلّفوا إليه بذلك وينالوا في دنياهم الفانية بعض جوائزه.
وقد بلي بهم الإسلام والمسلمون فاستعان الظالمون بهؤلاء الأوغاد في جميع مراحل التاريخ على تنفيذ خططهم الإرهابية الرامية إلى إشاعة الظلم والجور والفساد في الأرض. وقد نرى بعضاً منهم في هذه الأيام. كانت وشاية هؤلاء المجرمين بالإمام (عليه السلام) ذات طوابع متعددة.
أ) طلبه للخلافة
سعى فريق من باعة الضمير بالوشاية على الإمام (عليه السلام) عند هارون فأوغروا صدره، وأثاروا كوامن الحقد عليه، فقالوا: إنه يطالب بالخلافة، ويكتب إلى سائر الأقطار والأمصار الإسلامية يدعوهم إلى نفسه، ويحفّزهم إلى الثورة ضد الحكومة. وكان في طليعة هؤلاء يحيى البرمكي.
قال ليحيى بن أبي مريم: ألا تدلّني على رجل من آل أبي طالب له رغبة في الدنيا فأوسع له منها؟
فقال له: نعم، ذاك علي بن إسماعيل بن جعفر، فأرسل خلفه يحيى وكان آنذاك في الحج، فلما اجتمع به قال له يحيى: أخبرني عن عمّك موسى، وعن شيعته وعن المال الذي يحمل إليه.
فقال: عندي الخبر وحدثه بما يريد، فطلب منه أن يرحل معه إلى بغداد ليجمع بينه وبين هارون، فأجابه إلى ذلك. فلما سمع الإمام الكاظم (عليه السلام) بسفره مع يحيى بعث خلفه فقال له: بلغني انك تريد السفر؟
ـ قال: نعم. فقال له الإمام: إلى أين؟ فقال: إلى بغداد. فقال له الإمام: ما تصنع؟ فقال: عليّ دين وأنا مملق.
ـ أنا أقضي دينك، وأكفيك أمورك.
فلم يلتفت إلى الإمام لأن الشيطان قد وسوس له فأجاب داعي الهوى، وترك الإمام وقام من عنده، فقال (عليه السلام) له:
لا تؤتم أولادي، ثم أمر (عليه السلام) له بثلاثمائة دينار وأربعة آلاف درهم، وقال (عليه السلام): والله ليسعى في دمي ويؤتم أولادي فقال له أصحابه.
جعلنا الله فداك فأنت تعلم هذا من حاله، وتعطيه؟!!
فقال (عليه السلام): حدثني أبي عن آبائه عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه قال:
إن الرحم إذا قطعت فوصلت قطعها الله.
وخرج علي يطوي البيداء حتى انتهى إلى بغداد، فدخل على الرشيد فقال له بعد السلام عليه: ما ظننت أن في الأرض خليفتين حتى رأيت عمي موسى بن جعفر يسلّم عليه بالخلافة.
وقيل أنه قال له: إن الأموال تحمل إليه من كل النواحي، وإن له بيوت أموال، وإنه اشترى ضيعة بثلاثين ألف دينار، وسماها (اليسيريّة) فلما سمع هارون هذا الكلام أحرقه الغيظ وفقد صوابه، وأمر لعلي بمائتي ألف درهم على أن يستحصلها من بعض نواحي المشرق فمضت الرسل لجباية المال إليه، فدخل العميل الذي باع آخرته بدنياه بيت الخلاء فزحر فيه وسقط أمعاؤه. فأخرج منه وهو يعاني آلام الموت فقيل له: إن الأموال قد وصلتك فقال:
ما أصنع بها والموت قد وصلني معها؛ وقيل أنه رجع إلى داره فهلك فيها في تلك الليلة التي اجتمع بها (5) مع الطاغية هارون. فقد ذهب المال منه وبقي عليه الخزي والعذاب الأليم.
ب) جباية الأموال
وسبب آخر أثار كوامن الغيظ والحقد في نفس هارون، وهو جباية الأموال، عمد بعض الأشرار بإخباره أن الإمام قد اشترى ضيعة تسمى (اليسيريّة) جمعها (عليه السلام) من الأموال التي تجبى إليه عن طريق الخُمس من كل صعيد فكمن للإمام الشرّ ليوقع به.
وكانت سياسته المكشوفة تجاه العلويين تقضي بفقرهم ووضع الحصار الاقتصادي عليهم، فإن فقرهم أجدى له وأنفع من غناهم ـ كما أوصى ولده المأمون ـ لأن المال كان ولم يزل عنصراً هاماً في سياسة الأشخاص وسياسة الدول، فهو سلاح ذو حدين يستعمل للمصالح الخيرية كما يستعمل للشر عن طريق الجماعة الباغية.
وقد ذهب ابن الصباغ إلى أن هذه الوشاية من جملة الأسباب التي دعت إلى سجن الإمام (عليه السلام) (6).
6ـ سموّ شخصية الإمام (عليه السلام)
كان الإمام (عليه السلام) كما هو معروف من قبل علماء عصره، من ألمع الشخصيات الإسلامية، فهو إمام معصوم ابن إمام معصوم، وأحد أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله) على أمته. وقد أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على إكبار الإمام وتقديره. فكلهم نهلوا من علومه وأخلاقه، وكلهم تمثلوا بتقواه وورعه وكلهم أحبوه لسخائه وكرمه. حتى أن أعداءه كانوا يحترمونه ويبجلونه، وهارون الرشيد نفسه يبجّله ويعتقد ضميرياً بأن الإمام (عليه السلام) أولى بالخلافة الإسلامية منه، كما حدّث بذلك لابنه المأمون.
فقد قال لندمائه: أتدرون من علّمني التشيّع؟
فانبروا جميعاً قائلين: لا والله ما نعلم.. فقال: علّمني ذلك الرشيد.
فقالوا: كيف ذلك؟ والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟!
قال: كان يقتلهم على المُلك لأن المُلك عقيم، ثم أخذ يحدّثهم عن ذلك قائلاً: لقد حججت معه سنة فلما انتهى إلى المدينة قال: لا يدخل عليّ رجل من أهلها أو من المكيّين سواء كانوا من أبناء المهاجرين والأنصار أو من بني هاشم حتى يعرّفني بنسبه وأسرته، فأقبلت إليه الوفود تترى وهي تعرّف الحاجب بأنسابها، فيأذن لها، وكان يمنحها العطاء حسب مكانتها ومنزلتها، وفي ذات يوم أقبل الفضل بن الربيع حاجبه يقول له: رجل على الباب، زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).
فلما سمع هارون بهذا الاسم الشريف أمر جلساءه بالوقار والهدوء، ثم قال لرئيس تشريفاته: إئذن له، ولا ينزل إلا على بساطي.
وأقبل الإمام (عليه السلام) وقد وصفه المأمون فقال: إنه شيخ أنهكته العبادة، والسجود يكلم وجهه. أما هارون فقام ولم يقبل إلا أن ينزل الإمام عن دابته على بساطه، ونظر إليه بكل إجلال وإعظام فقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيّره في صدر مجلسه والحجّاب وكبار القوم محدقون به. ثم أقبل يسأله عن أحواله ويحدّثه. ثم قال له:
ـ يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟ قال الإمام: يزيدون على الخمسمائة.
ـ أولاد كلهم؟ قال الإمام (عليه السلام): لا، أكثرهم مواليّ وحشمي فأما الأولاد فلي نيّف وثلاثون. ثم بيّن له عدد الذكور والإناث.
ـ لِمَ لا تزوّج النسوة من بني عمومتهن؟ قال الإمام: اليد تقصر عن ذلك.
ـ فما حال الضيعة؟ قال الإمام: تعطي في وقت وتمنع في آخر.
ـ فهل عليك دين؟ قال الإمام (عليه السلام): نعم.
ـ كم؟ قال الإمام (عليه السلام): نحو من عشرة آلاف دينار.
ـ يا ابن العم، أنا أعطيك من المال، ما تزوّج به أولادك، وتعمر به الضياع.
ـ قال الإمام (عليه السلام): وصلتك رحم يابن العم، وشكر الله لك هذه النية الجميلة، والرحم ماسة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبي (صلّى الله عليه وآله) وصنو أبيه، وعم علي بن أبي طالب وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك، وأعلى محتدك.
ـ أفعل ذلك يا أبا الحسن، وكرامة.
فقال له الإمام (عليه السلام): إن الله عزّ وجلّ قد فرض على ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الأمة، ويقضوا على الغارمين، ويؤدوا عن المثقل ويكسوا العاري، وأنت أولى من يفعل ذلك.
ـ افعل ذلك يا أبا الحسن.
فانصرف الإمام (عليه السلام) وقام هارون فودّعه وقبّل وجهه وعينيه، ثم التفت إلى أولاده فقال لهم: قوموا بين يدي عمكم وسيدكم، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه، وشيّعوه إلى منزل، فانطلقوا مع الإمام بخدمته وأسرّ الإمام (عليه السلام) إلى المأمون فبشّره بالخلافة وأوصاه بالإحسان إلى والده، ولما انتهوا من خدمة الإمام (عليه السلام) وإيصاله إلى داره. قال المأمون كنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت له:
(يا أمير المؤمنين، مَن هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له)؟
قال هارون: هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده.
قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟
قال هارون: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام الحق، والله يا بني: إنه لأحق بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني أنت هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فإن المُلك عقيم.
فيا سبحان الله عرف الحق ونطق به، ثم انحرف عنه حباً بالتملك والسلطان.
اهتم هارون بدنياه ونسي أو تناسى اليوم الآخر، يوم لا ينفع لا مال ولا ولد ولا سلطان!!
بقي هارون في يثرب عدة أيام، ولما أزمع على الرحيل منها أمر للإمام بصلة ضئيلة جداً قدرها مائتا دينار، وأوصى الفضل بن الربيع أن يعتذر له عند الإمام. فانبرى إليه ولده المأمون مستغرباً من قلّة صلته مع كثرة تعظيمه وتقديره الزائد له قائلاً:
(يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار، وسائر قريش وبني هاشم، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار، وتعطي الإمام موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار وهي أخس عطية أعطيتها أحداً من الناس)؟ فغضب هارون وصاح على ابنه قائلاً: (اسكت، لا أم لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم) (7).
يتوضح من خلال هذه الرواية وغيرها اعتقاد هارون بإمامة موسى (عليه السلام) وأنه خليفة الله في أرضه، وحجّته على عباده، وأن الخلافة الإسلامية من حقوقه الخاصة، وهو أولى بها منه، لكن الذي حدث عكس ذلك لأن حب الدنيا وزهوة السلطان هو الذي سلبها منه ومن آبائه من قبله. فالمُلك عقيم، كما كشف هارون عن نفسه في حديثه مع ابنه المأمون، السبب الأساسي في حرمانه الإمام الكاظم (عليه السلام) من عطائه حسب منزلته. عقدة الخوف تطارده دائماً، وهي انتفاضة الإمام وخروجه عليه إن تحسنت أحواله الاقتصادية.
وهذا هو الحرب الذي تستعمله الدول المستعمرة مع خصومها اليوم من أجل إنهاكها وإضعافها. لكن الليل سوف يزول مهما تأخر طلوع الصباح.
كان الرشيد يعلم بمكانة الإمام الاجتماعية، وكفاءته العلمية، ومحبّة الناس له، وتقديرهم لمواهبه، وهو نفسه يعتقد أن الإمام وارث علوم الأنبياء، وخليفة الله الحق على عباده، فكان يسأله دائماً عما يجري من الأحداث، والإمام (عليه السلام) لم يبخل عليه بأي جواب.
وقد سأله عن الأمين والمأمون، فأخبره بما يقع بينهما، فحزّ ذلك في نفسه، وتألّم كثيراً.
روى الأصمعي قال: دخلت على الرشيد، وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولاً، فسلّمت عليه بالخلافة، فأومأ لي بالجلوس قريباً منه فجلست، ثم نهضت، فأومأ لي ثانية أن أجلس فجلست حتّى خفّ الناس، ثم قال لي: (يا أصمعي ألا تحب أن ترى محمداً وعبد الله ابنيّ؟).
قلت: (بلى يا أمير المؤمنين، إني لأحب ذلك، وما أردت القصد إلا إليهما لأسلّم عليهما).
أمر الرشيد بإحضارهما، فأقبلا حتى وقفا على أبيهما، وسلّما عليه بالخلافة، فأومأ لهما بالجلوس، فجلس محمد عن يمينه، وعبد الله عن يساره ثم أمرني بمطارحتهما الأدب، فكنت لا ألقي عليهما شيئا في فنون الأدب إلا أجابا فيه، وأصابا، فقال الرشيد: كيف ترى أدبهما؟
ـ يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما، وجودة فهمهما، أطال الله بقاءهما ورزق الله الأمة من رأفتهما وعطفهما.
فأخذهما الرشيد وضمّهما إلى صدره، وسبقته عبرته فبكى حتى انحدرت دموعه على لحيته، ثم إذن لهما في القيام فنهضا، وقال:
(يا أصمعي كيف فهما إذا ظهر تعاديهما، وبدا تباغضهما، ووقع بأسهما بينهما، حتى تسفك الدماء، ويود كثير من الأحياء أنهما كانا موتى) فبهر الأصمعي من ذلك وقال له:
(يا أمير المؤمنين هذا شيء قضى به المنجّمون عند مولدهما، أو شيء أثرته العلماء في أمرهما!!).
فقال الرشيد بلهجة الواثق بما يقول:
(لا، بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما..).
قال المأمون: كان الرشيد قد سمع جميع ما يجري بيننا من موسى بن جعفر (8).
إن علم الرشيد بسموّ منزلة الإمام، وبما تذهب إليه جموع المسلمين من القول بإمامته هو الذي أثار غضبه، وزاد في أحقاده عليه، ممّا دعاه إلى زجّه في السجن أعواماً طويلة.
كان الحقد على العلويين عامة والإمام موسى (عليه السلام) خاصة من مقومات ذات الرشيد، ومن أبرز صفاته النفسية، وكان يحمل حقداً لكل شخصية مرموقة لها المكانة العليا في مجتمعه، ولم يرق له بأي حال أن يسمع الناس يتحدّثون عن أي شخص يتمتع بمكانة عليا، محاولاً احتكار الذكر الحسن لنفسه ولذاته؛ لكن الليل لا يستطيع منع الفجر من الطلوع، فالفجر يطلع والشمس تسطع بنورها الكاشف، والجمهور يميّز بين الظلام والنور.
7ـ صلابة موقف الإمام (عليه السلام)
كان صلحاء الأمة يقاومون الظلم في كل عهوده وفي كل ألوانه، لأن ذلك واجب شرعي أوصى عليه الله عزّ وجلّ في كتابه، وأوصى عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في أحاديثه الشريفة، وقاومه الأئمة (عليهم السلام) كل واحد منهم حسب الظرف المناسب له. قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (9).
والإمام موسى الكاظم ابن أبيه وأجداده (عليهم السلام) كان موقفه مع هارون الرشيد الطاغية الظالم موقفاً سلبياً، تمثلت فيه صلابة الحق وصرامة العدل.
فقد حرّم على شيعته التعاون مع السلطة الحاكمة بأي وجه من الوجوه.
من ذلك ما قاله لصاحبه صفوان وكان صاحب جمال يكريها لهارون أيام حج بيت الله الحرام، افهمه أن التعامل مع الظالمين حرام، فاضطرّ صفوان لبيع جماله، فعرف هارون، ممّا دفعه إلى الحقد على صفوان وهمّ بقتله.
وكذلك منع الإمام (عليه السلام) زياد بن أبي سلمة من وظيفته في بلاد هارون عملاً بقول الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، عن أبيه الصادق عن أبيه، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله) (10).
لقد شاعت في الأوساط الإسلامية فتوى الإمام الكاظم بحرمة الولاية من قبل هارون الطاغية وأضرابه من الحكام الظالمين، فأوغر ذلك قلب هارون وساءه إلى أبعد الحدود، فترقّب له ساعة الوقوع به.
ونوجز القول: إن موقف الإمام مع هارون كان موقفاً صريحاً واضحاً، لم يصانع ولم يتسامح معه على الإطلاق.
فقد دخل عليه في بعض قصوره الأنيقة والفريدة في جمالها في بغداد، فانبرى إليه هارون وقد أسكرته نشوة الحكم قائلاً:
ما هذه الدار؟ فأجابه الإمام (عليه السلام) غير مكترث بسلطانه وجبروته قائلاً: (هذه دار الفاسقين) قال الله تعالى في كتابه العزيز:
(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ) (11).
لما سمع هارون هذا الكلام سرت الرعدة في جسمه، وامتلأ قلبه غيظاً فقال للإمام: دار من هي؟
ـ هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة.
ذلك أن المؤمن كل ما يملك هو وكيل عليه يملكه فترة ويتركه لغيره هو زاهد في الدنيا، والشيعة هم كذلك وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي لقب بـ(أبي تراب) وخاطب الدنيا قائلاً: (فقد طلّقتك ثلاثاً فلا رجعة لك عندي).
ـ ثم سأله هارون: ما بال صاحب الدار لا يأخذها؟
ـ أجابه الإمام: أخذت منه عامرة، ولا يأخذها إلا معمورة.
ـ أين شيعتك؟
ـ فتلا الإمام قول الله عزّ وجلّ: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (12).
فثار هارون ثورة عارمة وقال بصوت يقطر غضباً:
ـ أنحن كفار؟
ـ لا، ولكن كما قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ) (13).
فغضب هارون وأغلظ على الإمام (عليه السلام) في كلامه (14).
من الواضح والمعروف مسبقاً أن موقف الإمام (عليه السلام) مع هارون موقف واضح وصريح لا يقبل الرد ولا يقبل المهادنة، لأنّ هارون مغتصب لمنصب الخلافة التي هي من حق علي بن أبي طالب والأئمة المعصومين من بعده. فالعباسيون اختلسوا السلطة، وخانوا الأمانة والعهد لقد استلموا السلطة باسم العلويين، وتبنّوا شعارهم، ولما جلسوا على كرسي الحكم خانوا العهد، واشتروا به وبأيمانهم ثمناً قليلاً.
قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (15).
هذه هي أهم الأسباب التي دعت هارون الرشيد إلى اعتقال الإمام (عليه السلام).
وأيضا: قال الفضل بن الربيع: حج هارون الرشيد وابتدأ بالطواف، ومنعت العامة من ذلك لينفرد وحده، فبينما هو في ذلك إذ ابتدر أعرابي وجعل يطوف معه.
فقال الحاجب: تنح يا هذا عن وجه الخليفة: فانتهره الأعرابي وقال: إن الله يساوي بين الناس في هذا الموضع فقال: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) (16).
فأمر الحاجب بالكف عنه.
ولما فرغ الأعرابي من صلاته استدعاه الحاجب وقال له: أجب أمير المؤمنين.
فقال الأعرابي: ما لي إليه حاجة فأقوم إليه، بل إن كانت الحاجة له فهو بالقيام إليّ أولى. قال: صدق.
فمشى إليه هارون وسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال هارون: اجلس يا أعرابي؟ فقال الأعرابي:
ما الموضع لي فتستأذني فيه بالجلوس، وإنما هو بيت الله نصبه لعباده، فإن أحببت فاجلس، وإن أحببت أن تنصرف فانصرف.
فجلس هارون وقال: ويحك يا أعرابي مثلك من يزاحم الملوك؟!
قال: نعم، وفي مستمع. قال هارون: فإني سائلك، فإن عجزت آذيتك.
قال الأعرابي: سؤالك هذا سؤال متعلم، أو سؤال متعنّت؟
قال هارون: بل سؤال متعلّم.
قال الأعرابي: اجلس مكان السائل من المسؤول وسل، وأنت مسؤول.
فقال هارون: ما فرضك؟
قال الأعرابي: إن الفرض رحمك الله واحد، وخمس، وسبع عشرة، وأربع وثلاثون، وأربع وتسعون، ومائة ثلاث وخمسون على سبع عشرة، ومن إثنى عشر واحد، ومن أربعين واحد، ومن مائتين خمس، ومن الدهر كله واحد، وواحد بواحد.
فضحك الرشيد وقال: ويحك أسألك عن فرضك وأنت تعد علي الحساب؟!
قال الأعرابي: أما علمت أن الدين كله حساب، ولو لم يكن الدين كله حساب لما اتخذ الله الخلائق حسابا، ثم قرأ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) (17).
قال هارون: فبين لي ما قلت وإلا أمرت بقتلك بين الصفا والمروة؟ فقال الحاجب: تهبه لله ولهذا المقام.
فضحك الأعرابي من قوله. فقال هارون: ممّا تضحك يا أعرابي؟
قال: تعجّباً منكما، إذ لا أدري من الأجهل منكما، الذي يستوهب أجلاً قد حضر، أو الذي استعجل أجلاً لم يحضر؟
فقال هارون: فسر لنا ما قلت.
قال الأعرابي: أما قولي الفرض واحد فدين الإسلام كله واحد، وعليه خمس صلوات، وهي سبعة عشر ركعة، وأربع وثلاثون سجدة، وأربع وتسعون تكبيرة، ومائة وثلاث وخمسون تسبيحة، وأما قولي من اثني عشر واحد: فشهر رمضان من إثني عشر شهر، وأما قولي من الأربعين واحد: فمن ملك أربعين ديناراً أوجب الله عليه ديناراً، وأما قولي من مائتي خمسة: فمن ملك مائتي درهم أوجب الله عليه خمسة دراهم.
وأما قولي فمن الدهر كله واحد: فحجة الإسلام، وأما قولي واحد بواحد: فمن أهرق دماً من غير حق، وجب إهراق دمه، قال الله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ...) (18).
فقال الرشيد: لله درك، وأعطاه بدرة.
فقال الأعرابي: فبم استوجبت منك هذه البدرة يا هارون، بالكلام أم بالمسألة؟
قال هارون: بالكلام.
قال الأعرابي: فإني أسألك عن مسألة، فإن أتيت بها كانت البدرة لك، تصدّ ق بها في هذا الموضع الشريف، وإن لم تجبني عنها أضفت إلى البدرة بدرة أخرى لأتصدق بها على فقراء الحي من قومي.
فأمر هارون بإيراد أخرى وقال: سل عما بدا لك.
فقال الأعرابي: أخبرني عن الخنفساء تزق أم ترضع ولدها؟
فغضب هارون وقال: ويحك من يسأل عن هذه المسألة؟!
فقال الأعرابي: سمعت ممن سمع من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول:
من ولي أقواماً وهب له من العقل كعقولهم، وأنت إمام هذه الأمة يجب أن لا تسأل عن شيء من أمر دينك ومن الفرائض، إلا أجبت عنها، فهل عندك جواب؟
قال هارون: رحمك الله لا، فبين لي ما قلته وخذ البدرتين.
فقال الأعرابي: إن الله تعالى لما خلق الأرض خلق ديابات الأرض التي من غير فرث ولا دم، خلقها من التراب، وجعل رزقها وعيشها منه، فإذا فارق الجنين أمه لم تزقه ولم ترضعه وكان عيشها من التراب. فقال هارون: والله ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة، وأخذ الأعرابي البدرتين وخرج، فتبعه الناس وسألوا عن اسمه، فإذا هو موسى بن جعفر (عليه السلام)، فأخبر هارون بذلك فقال:
والله لقد كان ينبغي أن تكون هذه الورقة من تلك الشجرة.
ولكن هل سمح لهذه الشجرة أن تنمو وتعطي وتثمر ثمراً طيباً يتغذى منه جميع الناس؟!
لم يكتف الحكام العباسيون بتقمصهم الخلافة، مستأثرين بها على أهل البيت (عليهم السلام)، حتى أخذوا يتبعونهم سجناً وقتلاً وتشريداً. أهل العلم والحكمة والأخلاق باتوا قابعين في بيوتهم ليس لهم الأمر ولا نهي! رحمك الله يا أبا فراس حيث تقول:
بــــــنو عــــلي رعـــايا فــــي ديـارهم والأمـــــر تــــــملكه الـنسوان والخدم!
لم يعبأ الأئمة (عليهم السلام) بهذه الشدة والظلامة التي قوبلوا بها، بل استمروا على تبليغ رسالتهم في إعلاء كلمة الله، ونشر المفاهيم الإسلامية، ومحاربة التيارات الفكرية الفاسدة والملحدة، فقد نوّروا الدنيا بعلومهم ومعارفهم من أجل رفع راية الإسلام في العالم. ولا عجب إن كانوا كذلك، فهم أحق من غيرهم، لا بل هم المكلفون بعد الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بالمحافظة على السنن والشرائع المحمدية ونشر الإسلام إسلام المحبة والعدالة والحرية والأخلاق.