هذا هو حاصل الرواية المأثورة عن الإمام الرضا (ع) عن أبيه عن الإمام الصادق (ع) وقد ورد في نصها أنه: "وكان بعد نوح (ع) قد كثر السحرة والمموهون فبعث الله عز وجل ملكين إلى نبي ذلك الزمان


ما هي حقيقة ما يُذكر حول هاروت وماروت المذكورين في القرآن الكريم, وهل يصح ما ينسبونه إليهما من السجود للصنم وقتل النفس المحرمة وشرب الخمر وإرادة الزنا وتعليم السحر؟!

الجواب:
المستظهر من القرآن الكريم والعديد من الروايات الورادة عن الرسول (ص) وأهل بيته(ع) أنَّهما ملكان من الملائكة قال تعالى: ﴿وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾([1]1)، فالقرآن وصفهما في هذه الآية بالملكين، وأما ما ادعاه البعض من أنَّ القراءة الصحيحة هي بكسر اللام لا بفتحها فيكون هاروت وماروت من الملوك وليسا من الملائكة فإن هذه الدعوى مضافاً إلى استنادها إلى قراءةٍ شاذة جداً ومنافية لما عليه جمهور القراء والمفسرين فإنها منافية أيضاً لما أفادته الروايات – سواءً المعتبرة منها أو الضعيفة - من أن هاروت وماروت كانا من الملائكة.

وأما أنهما كانا يعلمان الناس السحر فيمكن استظهاره من قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا.. ﴾([2]2)

فإن المستظهر من الآية أن هاروت وماروت كانا قد علًما بعض الناس السحر إلا تعلمهما لهؤلاء الناس كان بعد التحذير من الإفتتان والكفر وهذا معناه التحذير من العمل بالسحر.

وأما منشأ تصديهما لتعليم هؤلاء الناس السحر فهو -كما أفادت بعض الروايات الورادة عن أهل البيت (ع)- أنه في زمنٍ من الأزمنة الغابرة كثر بين الناس السحرة والمموهون وكانوا يستغلون جهل الناس بحقيقة السحر، وكان من كيدهم أنهم يدعون القدرة على ما يأتي به الأنبياء من معجزات فيصرفون –بما يُظهرونه من غرائب- الناسَ عن النبي المبعوث لهم، وكانت لهم مع الناس أفعال تضر بحالهم وعلائقهم فأنزل الله الملكين هاروت وماروت على نبي ذلك الزمان ليعِرفانه سرِّ ما يظهره السحرة من غرائب، ويعرفانه الكيفية التي بها يبطل أثر سحرهم وتمويهاتهم، فكلَّف النبي (ع) الملكين هاروت وماروت بأن يتصدى كلٌّ منهما لتعريف الناس بذلك فظهرا للناس بإذن الله تعالى في صورة بشرين وعرفاهم سرَّ ما يظهره السحرة من غرائب وكيفية الوقاية من أثر سحرهم والوسيلة لإبطال سحرهم. فكان ذلك مقتضياً لتعليم هؤلاء الناس أصول السحر، إذ لا سبيل للوقاية منه وإبطاله إلا بالوقوف على أصوله إلا أنهما كانا يُحذِّران كلَّ من يتعلم منهما السحر من الإفتتان، إذ أن المعرفة بالسحر قد تُغري العارف به وتدفعه إلى أن يُسخره فيما يضرُّ بعباد الله، وهو على حدِّ الكفر كما هو مفاد قوله تعالى على لسان الملكين: ﴿إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾ فكان المتعلمون يدركون عاقبة الزيغ والانحراف عن الهدف من تعليم الملكين لهم، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ﴾([3]3).

فتعليم السحر من قبل هاروت وماروت لهؤلاء الناس لم يكن مستقبحاً بعد أن كانت هذه هي غايته التي قدر الله تعالى أن يكون ذلك هو علاجها وبعد أن كانا يحذِّران من يتعلم منهما مغبة الإنحراف والزيع.

فكما أن تعليم الناس العناصر التي يتكون منها السم وتعليمهم كيفية تحضيره من أجل الوقاية منه ولغرض الوقوف علي وسيلة الإبطال لمفعوله وأثره، فكما أن تعليم ذلك للعقلاء وتحذيرهم في ذات الوقت ليس قبيحاً فكذلك هو تعليم الملكين للسحر في الظرف المذكور لم يكن قبيحاً.

هذا هو حاصل الرواية المأثورة عن الإمام الرضا (ع) عن أبيه عن الإمام الصادق (ع) وقد ورد في نصها أنه: "وكان بعد نوح (ع) قد كثر السحرة والمموهون فبعث الله عز وجل ملكين إلى نبي ذلك الزمان بذكر ما تسحر به السحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويرد به كيدهم فتلقاه النبي (ع) عن الملكين وأداه إلى عباد الله بأمر الله عز وجل فأمرهم ان يقفوا به على السحر وان يبطلوه ونهاهم ان يسحروا به الناس وهذا كما يدل على السم ما هو وعلى يدفع به غائلة السم ثم قال عز وجل ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ﴾ يعنى ان ذلك النبي (ع) أمر الملكين ان يظهرا للناس بصوره بشرين ويعلماهم ما علمهما الله من ذلك فقال الله عز وجل: ﴿وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ﴾ ذلك السحر وابطاله ﴿حَتَّى يَقُولاَ﴾ للمتعلم: ﴿إنما نحن فتنه﴾ وامتحان للعباد ليطيعوا الله عز وجل فيما يتعلمون من هذا ويبطلوا به كيد السحرة ولا يسحروهم ﴿فلا تكفر﴾ باستعمال هذا السحر وطلب الاضرار به ودعا الناس إلى أن يعتقدوا انك به تحيي وتميت وتفعل ما لا يقدر عليه الا الله عز وجل فإنَّ ذلك كفر.."([4]4)

والمتحصل مما ورد في الرواية الشريفة أن تعليم الملكين هاروت وماروت السحر كان لغرض إيقاف الناس على حقيفة ما يفعله السحرة من إيهام وتمويه حتى يتقوا أثره، وحتى لا يغتروا بدعواهم القدرة على ما لا يقدر عليه إلا الله عزوجل كإحياء الموتى الذي قد يصدر عن بعض الأنبياء ولكن بإذن الله تعالى وإقداره.

فتلك هي الغاية من تعليم الملكين الناس للسحر إلا أن المفتونين ممن تعلموا السحر من الملكين سَخروه لغير الغاية التي من أجلها بعث الملكان، ويبدوا أن أصول ما تعلمه هؤلاء المفتونون قد تم تدوينه فاستغلَّه آخرون من أهل الضلال جاؤا بعدهم.

وأما ما نسب إلى الملكين هاروت وماروت من الله تعالى أراد امتحانهما فأهبطهما إلى الأرض وطبَّعهم بغرائز الإنسان فأفتتنا بإمرأة حسناء فراوداها عن نفسها فأبت عليهما إلا أن يسجدا لصنمها ويشربا من الخمر ففعلا ذلك وحين علم رجل بإمرهما قتلاه، فغضب الله عليها فهما في عذابه إلى أن تقوم الساعة. فكل ذلك مكذوب على هذين الملكين الكريمين لمنافاته مع ظاهر القرآن الكريم وما هو متسالم عليه من عصمة الملائكة، وقد روي عن الإمام العسكري (ع) أنه قيل له: "فإن قوما عندنا يزعمون أن هاروت وماروت ملكان اختارهما الله لما كثر عصيان بني آدم وانزلهما مع ثالث لهما إلى دار الدنيا وانهما افتتنا بالزهرة وارادا الزنا بها وشربا الخمر وقتلا النفس المحرمة وان الله عز وجل يعذبهما ببابل، وان السحرة منهما يتعلمون السحر، وان الله تعالى مسخ تلك المراة هذا الكوكب الذي هو الزهرة، فقال الإمام (ع): معاذ الله من ذلك! إن ملائكة الله معصومون محفوظون من الكفر

والقبائح بألطاف الله تعالى قال الله عز وجل فيهم: ﴿لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾([5]5) وقال الله عز وجل: ﴿وَلَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِندَهُ﴾([6]6) يعنى الملائكة ﴿لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ/يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾([7]7) وقال عز وجل في الملائكة أيضا: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ/لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ/يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ﴾([8]8)"([9]9)

فالقرآن الكريم ظاهر في تكذيب ما نُسب إلى الملكين هاروت وما روت، وعليه فكل ما روي من نسبة المعاصي المذكورة إلى هذين الملكين الكريميين فهو ساقط عن الإعتبار، على أن أكثر ما روي في ذلك لم يرد من طرقنا، وما ورد في طرقنا فهو ضعيف السند.





[1]- سورة البقرة/102.
[2]- سورة البقرة/102.
[3]- سورة البقرة/102.
[4]- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 242.
[5]- سورة التحريم/6.
[6]- سورة الأنبياء/19.
[7]- سورة الأنبياء/19-20.
[8]- سورة الأنبياء/26-28.
[9]- عيون أخبار الرضا (ع) -الشيخ الصدوق- ج 2 ص 244