جمع الإمام السيوطي رضِيَ الله عنه وأرضاه (67رواية) للإسراء والمعراج عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، فلماذا تعددت روايات الإسراء والمعراج؟.
لأن القصة لما وقعت لم يكن القوم يستطيعون تحملها، والعقول ليست متشابهة في درجة الذكاء والإدراك، وكذلك القلوب تتفاوت في التسليم والإيمان. ولذا فرسول الله صلى الله عليه وسلَّم عندما رجع من رحلته ، تحدث عن الإسراء فقط في مكة، أما المعراج فلم يروِ منه شيئاً في مكة،
لكن لما ذهب إلي المدينة، وجلس مع المؤمنين في المدينة، كان يحدثهم عن المعراج، فكلما يجالس قوماً يحدثهم على قدرهم، وعلى قدر ما تستوعبه عقولهم، وعلى قدر ما تتحمله قلوبهم، فهذا سمع رواية، وهذا سمع رواية أخرى، وهذا سمع رواية ثالثة، والكل نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وبقى في صدره صلى الله عليه وسلَّم أكثر من هذا، وإليه الإشارة بقول الله: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} 10النجم
إذاً تعدد الروايات كان لتعدد الحظوظ العقلية، وحظوظ السامعين في الفهم والإدراك، وهذه كانت بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلَّم: {أُمِرْنَا أَنْ نْكَلمَ النَّاسَ عَلَى قَدَرِ عُقُولِهِمْ}{1}
فلا يأتي في جلسة عامة ويتكلم عن المشاهد الخاصة في الإسراء والمعراج؛ لأن هذا لا يجوز، ولا يأتي في جلسة خاصة ويتكلم عن نصيب العـوام في الإسراء والمعراج، بل يؤتي كل روح حقها ونصيبها من رحلة الإسراء والمعراج الشاملة للجميع، والتي فيها معاني وأسرار للسابقين واللاحقين.
فالذي دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وبين الأنبياء والمرسلين، ذكر عنه صلى الله عليه وسلَّم لمحات قليلة جداً، والذي دار بينه وبين أهل كل سماء في الروايات هو: {من؟. جبريل، ومن معك؟ محمد، مرحباً به فلنعم المجئ جاء}، وكل أهل سماء كانوا مستعدين لهذا اللقاء، وهذا اللقاء كان فيه أسئلة واستفسارات، وفيه علوم وفيه حقائق، أين هي؟، لم يذعها رسول الله، وكان يحفظها كل أهل سماء لأنهم مؤمنين، وأمروا أن يتَّبعوا سيَّد الأولين و الآخرين.
وكان الهدف الأسمى من الرحلة أن يعطى صلى الله عليه وسلَّم لكل طائفة نصيبها، وقد قال في ذلك الإمام أبو العزائم رضِيَ الله عنه:
وحكمة إسراء الحبيب إغاثة لعالمه الأعلى ورحمة حنّان
ولم يك رب العرش فوق سمائه تنزّة عن كيف وعن برهان
ولكن لإظهار الجمال لأهله من العالم الأعلى ونيل أمان
فكانت الرحلة لكي يعطى لكل طائفة نصيبها من رحمة الله عزَّ وجلَّ؛ لأنه رحمة الله للخلائق أجمعين، وما نصيب هؤلاء؟، لم يبح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلَّم لمن حوله، لأنهم لا يستطيعون تحمله، ماذا دار بين رسول الله صلى الله عليه وسلَّم وبين ملائكة الجنَّة حين زارهم؟، لم يذكره لأننا لا نستطيع تحمله.
فكل روحَاني - من عوالم الله عزَّ وجلَّ - كان له نصيب في تلك الليلة من رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وكل زمان له نصيب، فالذين كانوا مع الرسول في زمانه لا يعرفون إلا بيت المقدس، فلا يعرفون السماء؟ ولا النجوم؟ ولا الكواكب؟. ولذلك فقد حدَّث الذين في مكة عن بيت المقدس: فطلبوا الدليل عليه، بأن يذكر لهم الأبواب والنوافذ؟
فذكرها ووصفها وبيَّنها لهم صلى الله عليه وسلَّم، فطلبوا دليلاً مادياً على سيره من مكة إلي بيت المقدس؟، فأخبرهم عن قافلتهم التي تاه منها جمل فدلَّهم عليه، وقد عرفوه بصوته، وأخبرهم عن القافلة الأخرى التي نزل عليها، وكشف سقاءها وشرب من مائها، وهذا دليل مادي للذين يقولون أن الإسراء بالروح، وهل الروح تشرب؟، فأعطاهم دليلاً مادياً.
{1} الديلمى عن ابن عباس، وفى رواية أبى نعيم فى مسند الأحاديث والمراسيل: {لاَ تُحَدثُوا أُمَّتِي مِنْ أَحَادِيثِي إلاَّ من بِمَا تَحْمِلُهُ عُقُولُهُمْ} عن ابنِ عبَّاسٍ. وفى رواية أخرى لإتمام بيان المعنى المراد: عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: {قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا نَسْمَعُ مِنْكَ نُحَدثُ بِهِ كُلهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، إِلاَّ أَنْ تُحَدثَ قَوْماً حَدِيثاً لاَ تَضْبِطُهُ عُقُولُهُمْ فَيَكُونَ عَل?ى بَعْضِهِمْ فِتْنَةً ، فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يُكِنُّ أَشْيَاءَ يُفْشِيهَا إِلى قَوْمٍ}.