قالوا قديما بأن السحر قد ينقلب على الساحر .. والعلم أيضا قد ينقلب على العالم .. كما حدث مع ذلك الشاب العبقري الذي لم يتخيل أبدا بأن المسخ المشوه الذي أنشئه وسواه سينقلب ويتمرد عليه فيحيل حياته إلى جحيم، وبأن الموت سيكمن في جسد ذلك الوحش المرعب ليستل روح أحب الناس إليه بلا رحمة. ولأن الخلق هو من شأن الخالق وحده، لذلك حين نحاول نحن البشر التشبه بخالقنا فأننا قد نقع في مطبات لا تحمد عقباها. فاليوم يحلم الكثير من العلماء بصناعة حواسيب وروبوتات لديها القدرة على التفكير واتخاذ القرار، وربما سيأتي زمان تصبح فيه هذه الأجهزة واقعا متحكما بكل شيء في حياتنا .. فما الذي يضمن عدم انقلابها وتمردها علينا ؟! أم أن هذا يحدث في القصص فقط .. كما في قصتنا لهذا اليوم.
من منا لم يشاهد شخصية فرانكنشتاين (Frankenstein ) في السينما أو على شاشة التلفاز، ذلك المسخ الضخم ذو السحنة الشاحبة والملامح الجامدة الذي تملئ الغرز والقطب وجهه وجسده كأنه دمية جمعت أجزاءها على عجل. مشيته وحركاته مميزة كأنه إنسان آلي، وهو شديد الخجل من شكله وهيئته، لذلك يفضل التواري في الأماكن المظلمة والمهجورة بعيدا عن أعين الناس الفضولية والمتطفلة.. أنه مسخ مخيف ومسكين في آن واحد، اخترعه شاب عبقري يدعى "فيكتور فرانكنشتاين" بعد أن لملم وجمع أجزاءه من جثث الموتى وبث فيه الحياة باستخدام الصواعق. لكن حين دبت الحياة أخيرا في المسخ، ندم فيكتور بشدة لما صنعت يداه، فقد شاهد فيه عملاقا بشعا ترتعد منه الفرائص فتركه وحيدا وهجره، ولهذا طغت على نفس ذلك المخلوق المنبوذ مشاعر ملئوها الكراهية والسخط والغضب من "خالقه" القاسي، ولم تلبث أن تحولت تلك المشاعر إلى انتقام فظيع سيودى في النهاية بحياة الاثنين .. المسخ وصانعه.
شخصية فرانكنشتاين نالت قسطا وافرا من الشهرة منذ ظهورها لأول مرة في رواية حملت نفس العنوان نشرت في لندن عام 1818 وهي من تأليف شابة مغمورة في الثامنة عشر من عمرها تدعى ماري شيلي (Mary Shelley ) حالفها الحظ وساعدها وشجعها زوجها الشاعر فحققت روايتها نجاحا وقبولا منقطع النظير وسرعان ما تلقفتها المسارح الأوربية وجسدتها لاحقا عشرات الأفلام السينمائية ومسلسلات التلفزيون. ولأن الناس تعلقوا بشخصية المسخ أكثر من أي شيء أخر في الرواية، لذلك أطلقوا عليه خطأ تسمية فرانكنشتاين، في حين أن هذا الاسم يعود في الحقيقة للمخترع الشاب الذي صنع المسخ. أما المسخ نفسه فلم تعطه ماري شيلي أسما معينا خلال روايتها وإنما أشارت إليه بصفات متعددة كـ "الوحش" و "المسخ" و "العفريت".
حياة ماري شيلي نفسها لم تختلف كثيرا في بؤسها عن حياة المسخ الذي قدمته للعالم، إذ ماتت أمها الكاتبة والمدافعة عن الحريات النسائية "ماري ولستونكرافت" وهي لم تزل رضيعة بعمر 11 يوم فقط. ونشأت في كنف والدها الكاتب والفيلسوف ذو الآراء الحرة "وليم غودون" الذي تزوج لاحقا بجارته الأرملة التي على ما يبدو لم تكن على وفاق مع ماري وكانت تفضل عليها أطفالها من زوجها الراحل. الناحية الجيدة الوحيدة في طفولة ماري تجسدت في حرص والدها الشديد على تعليم وتثقيف أبنته على أحسن وجه.
ماري شيلي مؤلفة الرواية
في سن المراهقة عشقت ماري شابا متزوجا هو الشاعر الرومانسي "بيرسي شيلي"، علاقة الاثنان كانت مرفوضة من قبل المجتمع الانجليزي المحافظ آنذاك، إلا أن ذلك لم يفت في عضد الحبيبين اللذان سافرا سرا إلى فرنسا واستمرا في علاقتهما حتى تكللت بالزواج أخيرا بعد انتحار زوجة بيرسي الأولى.
الزوجان رزقا بأربعة أطفال لم يعش منهم سوى صبي واحد، وقد ترك موت الأطفال أثرا لا يمحى في نفس ماري. ثم حلت الطامة الكبرى عام 1822 بموت الزوج بيرسي غرقا أثناء رحلة بالقوارب.
السنوات اللاحقة من حياة ماري كانت عبارة عن صراع مستمر مع الفقر والفاقة، والمؤلم حقا هو أنه برغم كونها كاتبة من الطراز الأول، ورغم شهرة روايتها التي طبقت الآفاق، ناهيك عن شهرة زوجها الراحل، إلا أن ماري لم تستطع أبدا أن تجد لنفسها مكانا محترما بين أفراد المجتمع المخملي الانجليزي، فقد نبذها ذلك الوسط البراق .. أو ربما هي لم تستطع مجاراة متطلباته بسبب فقرها المزمن فأنزوت وحيدة تشكو الزمن آهاتها.
ماري لم تتزوج ثانية وظلت وفية لزوجها الراحل الذي قضت معظم ما تبقى من عمرها تجمع وتحقق قصائده وتهتم بنشرها، عاشت أيامها الأخيرة بسعادة مع أبنها الوحيد وزوجته، ووافتها المنية بسبب المرض عام 1851 عن ثلاث وخمسون عاما.
فرانكنشتاين الحقيقي
لسنوات طويلة تسأل الناس عن المصدر الذي استوحت ماري شيلي روايتها منه، البعض رأى في القصة بعدا دينيا وفلسفيا، فباعتقاد هؤلاء، يشير المسخ في واقع الأمر إلى الشيطان أو إبليس الذي تمرد على ربه وخالقه.
شاهدت في الكابوس شابا منكبا على صنع المسخ
أما ماري شيلي فقد زعمت بأنها استوحت شخصيات حكايتها من حلم شاهدته أثناء نومها. الأمر كله بدأ في يوم ماطر وبارد من أيام عام 1816، ماري شيلي كانت برفقة زوجها في عطلة بسويسرا وكانا في ذلك اليوم في ضيافة صديقهم النبيل والشاعر الانجليزي اللورد بايرون، كان مقررا أن يقضوا نهارهم في أحضان الطبيعة السويسرية الخلابة، لكن الطقس السيئ أجبرهم على البقاء حبيسي جدران قصر اللورد، ولتمضية الوقت وقتل الملل جلسوا جميعا قرب الموقد وراحوا يسلون أنفسهم بقراءة قصص الأشباح، وبوحي من تلك القصص أقترح اللورد بايرن أن يكتب كل منهم قصة رعب يؤلفها بأسلوبه الخاص.
في بادئ الأمر لم تجد ماري شيلي ما تكتبه، لكن في تلك الليلة جاءها الإلهام أثناء نومها على شكل كابوس مرعب شاهدت خلاله شابا شاحب الوجه منكبا على طاولة ضخمة يجمع شتات ما بدا كأنه مسخ بشري غاية في البشاعة، ماري لاحظت بأن الحياة بدأت تدب شيئا فشيئا في جسد ذلك المسخ بواسطة مصدر طاقة ذو قوة خارقة .. كان مشهدا مخيفا أوحى لماري بفكرة روايتها الخالدة.
لكن بعيدا عن قصة الكابوس المزعوم، يعتقد العديد من الباحثين اليوم بأن للقصة جذور حقيقية أبعد بكثير من كونها مجرد حلم أو طيف داعب خيال المؤلفة الشابة. فأسم فرانكنشتاين هو في الحقيقة لقب عائلة ألمانية نبيلة عريقة اشتهرت بقلعتها القديمة التي انتصبت أبراجها العالية لقرون طويلة بالقرب من مدينة دارمشتات الألمانية، ويرجح بعض الباحثين بأن السيدة شيلي وزوجها مروا بتلك القلعة القديمة وربما باتوا ليلتهم فيها أثناء رحلتهم إلى سويسرا.
هناك داخل القلعة ربما سمعت ماري شيلي لأول مرة بحكاية العالم الغريب الأطوار يوهان كونراد ديبيل (Johann Konrad Dippel ) واطلعت على الحكايات العجيبة التي تداولها الناس حول تجاربه. كان شخصية مثيرة للجدل بكل معنى الكلمة، فقد ولد في قلعة فرانكنشتاين عام 1673 ودرس في شبابه علم اللاهوت والفلسفة والكيمياء .. وادعى النبوة لفترة من الزمن !.
كان يذيل بحوثه وكتاباته بأسم يوهان كونراد دي فرانكنشتاين، وكان دائم الوقوع في المشاكل بسبب تصرفاته وآراءه العلمية والدينية الغريبة ، حبس مرة بتهمة التشبه بملك السويد! وأخرى بتهمة الهرطقة.
قلعة فرانكنشتاين الحقيقية - المانيا -
يوهان ديبل كان مولعا بالكيمياء، ذلك العلم الذي أعتبره القدماء بحرا يزخر بالرموز والطلاسم الغامضة، وقد غاص يوهان في لجة ذلك البحر العاتي وخرج للعالم بإكسير زعم بأن له نفس الخواص السحرية لـ "أكسير الحياة"، أي أنه يطيل العمر ويجدد الشباب. وكانت طريقة صناعة ذلك السائل الخارق لا تقل غرابة عن خواصه العجيبة، فهو يتألف من أمور قد لا يتخيلها العقل .. دماء .. أمعاء .. عظام وأجزاء من جيف الحيوانات الميتة مزجت بعناية داخل وعاء معدني كبير أشبه بذلك الذي كانت ساحرات العصور الوسطى تستخدمه في تحضير وصفاتهن، ثم أضيف إلى ذلك المزيج الغريب مقادير معينة من المواد الكيميائية.
المثير للدهشة حقا هو نجاح يوهان في تسويق سائله الخارق ذاك، إذ باع بعضا منه إلى نبيل ألماني عجوز بعد أن وعده وأغراه بعمر مديد يصل إلى 135 عام. لكن العجوز في الحقيقة لم يعش سوى لسنوات قليلة رغم مثابرته على شرب ذلك الترياق السحري كل صباح!.
إضافة إلى إكسيره العجيب، هناك قصص عن أمور رهيبة أقترفها يوهان أثناء مكوثه في قلعة فرانكنشتاين، فالرجل على ما يبدو كان عالما مخبولا كأولئك العلماء منفوشي الشعر الذين نشاهدهم أحيانا في الأفلام. كان اهتمامه منصبا على الكيمياء وعلم التشريح. وقد تحدث السكان القرويين القاطنين بالقرب من القلعة عن قيامه بتجارب يشيب لها الولدان .. تجارب أستخدم فيها الجثث والجيف البشرية، وحاول في إحداها نقل الروح من جثة إلى أخرى! كما حاول إعادة الحياة لبعض الموتى عن طريق تمرير التيار الكهربائي في أجسادهم. ولأن مصادر الكهرباء المعروفة اليوم لم تكن متاحة في ذلك الزمن الغابر، لذلك قام يوهان بتشييد برج ضخم شاهق لاقتناص شحنات الصواعق الكهربائية .. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ ذلك العالم المجنون يرقص طربا وسط جثث الموتى تحيط به قواريره الملونة الغريبة وقدوره التي تغلي بمواد لا يعلم كنهها سوى الله .. ولك أن تتخيله وهو يضحك ملئ شدقيه مبتهجا بقدوم العواصف الرعدية الهائجة التي ستمنحه صواعقها الطاقة اللازمة لأجراء تجاربه المجنونة .. لكن هل كانت تجاربه مجنونة حقا ؟! أم كان الرجل نابغة عبقري سبق عصره بقرون! .. قد لا يعلم ذلك سوى الله .. فالرجل انتهى به الأمر ميتا في ظروف غامضة، ويقال بأنه نجح قبل موته في صناعة كف بشرية بإمكانها التحرك من تلقاء نفسها!.
على العموم، تجارب يوهان لم يكتب لها الاستمرار طويلا، فالناس القرويون البسطاء هالهم ما سمعوه عن تجاربه في القلعة، ارتعدوا خوفا وتملكهم الغضب من الشرور الشيطانية التي كانت تقترف بالقرب من أكواخهم الخشبية، وفي نهاية الأمر تحول غضبهم إلى ثورة عارمة أجبرت العالم الغريب الأطوار على مغادرة مختبره الذي بدا للثوار أقرب إلى مسلخ بشري منه إلى مختبر علمي .. يوهان كونراد ديبل عثر عليه ميتا .. مسموما على الأرجح .. في قلعة ويتنغستاين في يوم ما من عام 1734.
الكهرباء وإحياء الموتى!
جالفاني أجرى تجاربه على الضفادع الميتة
الباحثين هذه الأيام يجدون صعوبة كبيرة في فصل الخرافة عن الحقيقة بشأن تجارب العلماء القدماء، ومنهم يوهان كونراد ديبل، فالكهرباء في زمانه كانت لاتزال اكتشافا حديثا يحوطه الكثير من الغموض، وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر شاعت بين العامة الكثير من الخرافات بشأن هذه الطاقة الجديدة بسبب الجهل والتخلف الذي كان متفشيا كالوباء آنذاك. فعلى سبيل المثال، أعتقد الكثيرون في ذلك العصر بأن الكهرباء تستطيع إعادة الحياة إلى الموتى!. وقد لعب الفهم الخاطئ لسلوك المواد والأجسام التي يمر خلالها التيار الكهربائي دورا كبير في تعزيز هذه الخرافات، ففي عام 1780 قام العالم الايطالي "ليوجي جالفاني" بتجارب مرر خلالها تيارا كهربائيا داخل جسد ضفدعة ميتة ولاحظ حدوث حركة وارتجاف في أطرافها عند صعقها بالكهرباء. ثم قام أبن أخته ويدعى جيوفاني إلديني بتجارب من نفس النوع على موتى البشر. إحدى تلك التجارب المثيرة للجدل نفذها في ساحة عامة من ساحات لندن عام 1791 وجعل جمهور المشاهدين خلالها يصابون بالذهول والحيرة. جيوفاني قام بربط أسلاكه الكهربائية إلى جسد جثة بشرية تعود لمجرم تم إعدامه شنقا في صبيحة ذلك اليوم، ثم مرر تيارا كهربائيا مقداره 120 فولت إلى ذلك الجسد الميت، ما حدث بعد ذلك جعل صرخات الرعب والتعجب ترتفع من كل حدب وصوب حتى أنه أغشي على بعض النساء، فالجثة الهامدة أنقبضت ملامحها كما لو أنها كانت تتألم، ويقال بأنها فتحت عينها وراحت تحدق إلى جيوفاني كأنما أرادت معرفة شخص معذبها، وحين زاد جيوفاني من شدة التيار الكهربائي أخذت الجثة ترتعش وتتخبط حتى ظن الجمهور بأنها ستقوم عائدة إلى الحياة.
طبعا تجربة جيوفاني لم يكن فيها ما يثير العجب، لكن كما أسلفنا، جهل عامة الناس .. بل وحتى العلماء آنذاك .. بسلوك الأجسام الموصلة التي يمر خلالها التيار الكهربائي هو الذي جعلهم يتصورون بأن للكهرباء قدرات خارقة، بل آمن العديد منهم بأن شحنة كهربائية فائقة بإمكانها حقا إعادة الحياة إلى الموتى!.
تجربة جيوفاني جرت قبل سنوات قليلة فقط من ولادة ماري شيلي، ولاشك في أن قصة تلك التجربة المثيرة وما رافقها من إشاعات حول قدرات الكهرباء الخرافية كان صداها لازال يتردد في الأوساط اللندنية أثناء طفولة ومراهقة ماري، وعليه فمن المرجح جدا بأن تكون المؤلفة الشابة قد استوحت أحداث روايتها من تلك الاعتقادات الخرافية التي كانت رائجة في عصرها ثم مزجتها بإبداع مع حكاية العالم الألماني غريب الأطوار لتخرج إلى العالم برواية خلبت لباب القراء والمشاهدين لعدة أجيال.