علاقة آلعقل بآلفكر:
بإختصارٍ بليغٍ؛ (ألعقل وسيلة و آلفكرُ نتاجُ لهُ), فعندما نقول لشخصٍ .. فَكَّرَ؛ فهذا يعني إسْتخدَمَ عقلهُ, و آلعقلُ يَسْبقُ آلتّفكير, بمعنى لولا وجود آلعقل لما كانَ وجوداً للفكرٌ, و هناك كثيرون لهم عقولٌ لكن لا يتفكّرون بها, و آلمُتعقّل هو آلّذي يستخدم ألذّكاء بتفعيلِ ألعقل, و آلتّفكيرألنّقدي أو التّحليلي بصفةٍ مهنيةٍ أو بصفةٍ شخصيّةٍ يشار إليه في كثير من آلأحيان باسم مُفكّر, و يعتقد مهندسوا آلعقل بأنّ آلأنسان على مدى حياتهِ يستخدم %3 فقط من عقله!
و آلسؤآل: هل آلناس أغبياء إذن لعدم إستفادتهم من عقولهم بنسبة أعلى تصل إلى 10% على آلأقل؟
ألجواب: ليس كذلك, لكنّ آلدّماغ و بسبب عدم تحقّق أليقين في قلوبنا و بآلتالي عدم مقدرتنا على إتّباع آلمنهج آلعلميّ – عن طريق هندسة آلتفكير – يُسبّب هذا آلخلل الكبير إشغال و إتلاف مُعظم خلايا آلدّماغ(ألحافظة) بأمورٍ لا تخدم حقيقة حياتنا و فلسفة وجودنا!
و آلأسباب كثيرة, منها: ملئها عن طريق الحواس(العين) بآلعبث و بصورٍ و إدراكات تافهة, و (آللسان) بآلخصام و آلنزاع و آلعنف, و كثيراً ما تكون للشهوة و آلنزعات ألعاطفية دوراً كبيراً في ملئه بأمورٍ نهانا آلشّرع عن أكثرها, فآلصّورة ألواحدة تأخذ حيزاً كبيراً من خلايا آلدّماغ, فكيف آلحال و نحن نملأها يوميّاً بملايين الصور و آلحكايات و القصص التافهة التي تُناقض بعضها بعضاً بجانب إختلاق الكذب و صناعة آلمؤآمرات و آلتي كلّها تَنخر عقولنا و تفكيرنا!
و لو قدرنا إستخدام جزء من آلعقل ألباطن(القلب) – بجانب آلعقل ألظاهر على فرض سلامتها - فأنّنا نُحقّق أعلى و أعمق صور للأبداع و آلكشف (1), فآلفكر: هو تفكيك ألأشياء و تحليلها و وضع ألاحتمالات ألمُتعدّدة لها .. تتبعهُ آلبصيرة لخوض غمار آلأحتمالات لكشف ألأسرار و آلمجاهيل و آلسّبق في خوض غمار ألحياة و آلآفاق و إسرار ألوجود للوصل إلى ما لم يستطع آلغير ألوصول أليه سوى آلبعض من آلأنبياء و آلمرسلين و آلأئمة ألأطهار(ع) و قلّة نادرة من خلق الله أمثال الفلاسفة و آلحكماء.
و آلعقل: (ألعاقل) هو من يُقلّل ألأحتمالات و آلمُجازفات بهدف إختيار ألأهْدَأ و ألأفضل و آلأنسب و آلأسهل من آلمسالك ألمُعبّدة ألتي تَمَّتْ تجربتها من قِبَلِ آلآخرين تحرّزاً من خوض آلمسالك آلمجهولة, و هذا ما يُسبّبُ عادةً لسالكهِ حياةً مُستقرّةً مريحةً نسبيّاً و ربّما مُمّلةً لكونها خالية من آلأبداع و آلتّجديد و مُلوّنة بلونٍ واحدٍ, و من طبيعة آلنّفس ألبشريّة أنّها تكره آلجّمود و آلتّكرار و آلحواجز, فتكون مع تلك آلحالة محدودة آلأبعاد و آلآفاق و آلنّتائج و خالية من آلأبداع و آلكشف, لأنّ صاحبهُ لا يُجرّب و لا يخوض في آلمجاهيل بسبب خوفه و جُبنهِ و لا يُغني نفسهُ بآلتّجارب و لا يُصقلها بألوان آلمُجازفات و آلأعمال ألأستثنائية ألمختلفة, و عادةً مّا تكون حياته على وتيرةٍ واحدة خالية من آلأخطاء و آلأخطار لتجَنُّبهِ خوض آلمُجازفات بسبب إنطباعاته ألعقليّة, لذلك يبقى محدوداً من آلنّاحية ألعلميّة و آلأقتصاديّة و آلسّياسيّة لمحدوديّة تفكيرهِ و إجترار آلتّجارب ألمُجرّبة من قبل آلغير.
و حالهُ .. كحال آلماء ألرّاكد ألآسن بآلضبط, فمن طبيعة آلماء أنّه لو بقيَ راكداً في مكان ما لفترةٍ طويلةٍ فأنّه سَيَتَأسّن و تنبعث منهُ رائحةً كريهةً و يتغيير لونه و طعمهُ و شكلُه و ربما ينقل لنا آلأمراض, بعكس ألماء ألجّاري ألّذي تنبعث منهُ آلحيويّةُ و آلحياةُ و آلعذوبةُ!
يقول كنفسيوش: أمَامَ آلأنسانِ ثلاثُ طرقٍ لخوضِ غمارِ آلحياة؛
ألأوّل: يَمُرُّ عبر آلتّقليد و هو أسهل ألطّرق!
ألثّانيّ: يَمُرُّ عبر آلتّجربة و هو أصعب ألطُرق!
ألثّالث: يَمُرُّ عبر آلفكر و هو أسمى آلطّرق!
هذا آلتّقسيم ألواقعيّ لكنفسيوش ينقلنا إلى وضعٍ أسمى و أرقى في آلمرحلة ألثالثة(ألفكر), بَيْدَ أنّ آلثّانية(ألتّجربة) تُرافقها نوعاً من آلتّفكير أيضاً بلا شكّ, لكنّهُ يكون تفكيراً فطريّاً أوّليّاًّ لا يعتمد آلطّرق ألعلميّة ألأكاديميّة ألبحثيّة و آلفلسفيّة, و ما يُرافقها من أبداعاتٍ ضمنيّة, لذلك يُكَلِّف ألأنسان كثيراً و غالياً.. للوصول إلى آلحقائق, و قد تكون نتائجهُ أحياناً سلبيّةً حتّى على آلمُجرّب نفسهُ!
يَسْتَخدِم (ألمُفكّر) عقلهُ للخير أو آلشّر, و قد تطرّقنا لموضوع آلعقل في آلحلقة ألسّابقة, و سنُركّز هُنا على آلفكر و آلتّفكر.
أعطى الله تعالى أهميّة كبيرة للعقل كما ألفكر ألّذي ينتج ألمعرفة ألأنسانيّة .. و كما بيّنا ديناميكيته في آلحلقةِ ألماضيّةِ, فقد ذكرهُ آلقرآن ألكريم عشرين مرّة في عشرين آية, كما ذكر آلعقل ألذي يُسبّب ألفكر أيضاً 50 مرّةٍ(2), لحثّ آلأنسانِ على آلأبداع و آلأنتاج و آلتّجديد لخدمة آلناس و عدم ألسّكون و آلركود ألّذي يؤديّ إلى آلتّحجر و آلجمود و آلموت, فصاحبهُ يكون عالةً على آلمجتمع كما هو حال أكثر آلعرب خصوصاُ ألسياسيين منهم.
و آلتّفكير من أهمّ خصائص ألأنسان, و سرّ تطوره لنيل ألسّعادة – كهدف مركزي - في آلدّارين, كما يحتلّ مكانة خاصّة في عمليّة ألتربية و آلتّعليم, و قد ظهرت قديماً و حديثاً نظريّاتٍ عديدةٍ في هذا آلمعنى .. لسقراط و أفلاطون و أرسطو و من بعدهم "روسو" و "آبرهام ماسلو" و "جان ديوي" و غيرهم, إذ جعلوا أصول آلتّفكير مِحْوَرَ مباحثهم.
حيث أكدّ "ديوي" في كتابه (ألفكر عاكس أم إنعكاس؟) ألّذي نشرهُ عام 1910م إلى أنّ آلتفكير هو آلأساس ألذي يقوم عليه آلتربية و آلتعليم, و يُمكننا تحديد ثلاث مستوياتٍ للفكر:
أولاً: ألتّفكير ألعاديّ (ألبسيط).
ثانياً: ألتّفكير ألنّقدي (ألمُعقّد).
ثالثاً: ألتّفكير ألأبداعيّ (ألمنتج).
و رغم وجود درجاتٍ بين آلمُستويات آلآنفة في مستوى آلتّفكير على آلظاهر, إلّا أنّ بعضها يتداخل و يتكامل مع آلبعض ألآخر, و يُمكننا تحديد مستويات ألنّاس على أساس ذلك بآلشكل ألتّالي:
- ألتّفكير ألبسيط: هو صفة عموم ألنّاس, و قد يشمل ألكثير من أصحاب ألشّهادات ألجّامعيّة و آلعلميّة .. خصوصاً إذا ما حدّدوا حركتهم ضمن محور ألعمل و آلأنتاج ألرّوتيني فقط.
- ألتّفكير ألنّقديّ: يتعدّى آلأفق ألسّابق, و يتحرّك في مجال ألرّبط بين بعض ألعلوم أو جميعها, و أصحاب هذا آلمستوى مؤهّلين لإدارة جانب أو جوانب .. أو حتّى كلّ آلمجتمع, و منهم ألنّقاد و أصحاب ألكفاآت و آلسّياسيين و حتّى جميع رؤوساء ألدّول ألحاليين, ألّذين لهم قابليّة آلتّحليل و آلتّدقيق في آلآراء لكن في حدودٍ مُعيّنة لا تتجاوز أبعاد مناصبهم و منافعهم!
- ألتّفكير ألمُبدع: يمتاز بآلأصالة و آلتّجديد و آلأنتاج, لتحديد ألمناهج ألكليّة و آلأساسيّة في آلحياة, و يرى (بركينز 1984م) : أنّ آلتّفكير ألأبداعيّ هو آلّذي يقود إلى نتائج مبتكرة, لأنّه يكشف عن أمورٍ لم تكن موجودة من قبل!
و للتّفكير مراحلَ مُختلفة نُلخّصها بآلتّالي:
1- تكوين ألمفهوم
2- طرح ألمبدأ.
3- ألفهم.
4- حلّ ألمسألة.
5- إتّخاذ ألقرار.
6- ألبحث.
7- ألصّياغة.
8- ألمباحثة.
9- ألمُقارنة.
10- ألنّتيجة.
و بنظرةٍ فاحصةٍ نرى أنّ تلك آلعمليّات تضمّ جميع آفاق ألتّفكير ألثّلاثة, للأنتاج ألفكريّ و آلأبداع!
فآلأبداع هو قدرة ألتّعمق في مجالٍ مّا و إعادةِ طرحهِ على أملِ إبرازهِ من جهة أخرى مُختلفة, و عموماً يُمكن دراسة مسألة ما من إحدى آلجّهات أو بأحدِ آلأساليب, للكشف بوعيّ عن آفاق و مجاهيلٍ جديدةٍ, لأستنباط رأي آخر جديد بآلكامل في عمليّة آلبناء و آلتّنمية, و عمليّة آلأبداع تبقى قائمة ما دام آلباحث يدرس و يستقرئ ألمسائل من جهاتٍ مختلفةٍ.
لقد حدّد آلمُفكر علي شريعتي إعتماداً على آراء "ديوي" ألّذي جاء في كتابه ألمعروف عن آلفكر(3)؛ مراحل ألبحث ألعلميّ ألّذي يجري وفق عمليّة ألتّفكير ألعاديّ – ألمُنظّم إجمالاً بآلمراحل ألتالية:
1- تحليل ألظرف أو آلوضع.
2- تحديد ألمشكلة.
3- جمع ألمعلومات.
4- إعداد ألحلول.
5- إنتخاب ألحلّ آلأفضل مع طرح ألمباحث ألضروريّة لمعرفتها و آلتي من آلمُمكن إكمال و إغناء آلموضوع أو آلبحث ألمُقدّم.
و هناكَ تقاربٌ واضحٌ في مسألة ألبحث و إسلوب ألكتابة عند جميع آلمتخصّصين في آلمنهج, و قد أشرنا للموضوع أيضاً في ألقسم ألثّالث من هذا آلبحث.
ألبحث و آلقياس:
ألقياس مرحلةٌ بين (آلعقل) و (آلفكر) و بإستثناء إستنباط ألمسائل ألفقهيّة (الأحكام ألشرعيّة)؛ فإنّ مبدأ ألقياس ألعلميّ هو أحد أدوات ألأستقراء, حيث يُستخدم لأستنتاج ألمُلاحظات ألعامّة ألتي سبقت ألأشارة إليها و تبويبها.
و هناك نوعين من آلقياس:
ألقياسات ألمُعتمدة في تعميم نتائج ألأستقراء؛ و هي آلّتي يُعتمد عليها لترتيب ألنّتائج على مقدّماتها بشكلٍ طبيعيّ, و هو ما يُمارسهُ آلعقل في عمليّة ألتفكير ألمنطقيّ ألعاديّ ألمُنظم و يكون ألأبداع فيه محدوداً جدّاً.
ألقياسات ألأستثنائيّة؛ و هي تلك آلّتي يُعتمدُ في آلتّفكير ألمُتباعد, و هي آلقفزة ألفكريّة ألّتي يصنعها آلتخيل ألمُنتج للمستقبل, و آلّتي لا تفي بها ألمقدمات ألمتوافرة, و تَتَقدّم على آلأولى قليلاً.
ألبحث و آلتّبويب:
إصالة ألبحث ألنّاحج تظهر من خلال ترتيب ألبحث و تبويبه و من ثمّ آلنّتيجة, فَمَنْ يقرأ كلّ بابٍ أو كلّ فصلٍ فيه على حِدَةٍ؛ يُفترض معهُ أنْ يكونَ وضع ألمُطّلع عليه .. كما لو كانتْ موسوعة مُكوّنة من موادٍ مُستقلةٍ, و هذا ما يفعلهُ آلباحثون ذو آلنّزعة ألتربويّة ألمنهجيّة ألهادفة عادةً – فما من باحثٍ في مسألة إلّا و يلجأ إلى آلباب ألمُخصّص لها, كما لو كان دليلاً بيبلوغرافيّاً, و تحقيق آلحالة آلمُثلى في هذا آلأتجاه لا يتمّ إلّا أنْ يكونَ آلمُفكّر مُجتهداً في أكثر من إختصاص, و لعلّ هذا آلأمرّ هو آلسّبب في تخلّف مراجعنا آلفكريّة و ألدّينيّة في آلعراق و آلأمّة عن ما يجري في هذا آلعالم على كلّ صعيدٍ و بسرعةٍ جنونيّةٍ, حيث لم يَعُد أيّ علمٍ منفصلٍ عن آلعلم آلآخر, و تكاد تكون جميع آلعلوم مرتبطةً بعضها ببعض وكأنها تسير بإتّجاه واحد و متكامل في بحور آلوجود!
و آلعلّة في مشكلتنا في آلأساس تكمُنُ في كيفيّة ألتّعامل مع آلعلوم و آلنّصوص بسبب ألمناهج ألخاطئة ألمُتوارثة, ألتي ما زالت مُتخلّفة و ناقصة بل و منحرفة و لا تفي بحاجة ألأنسان ألمُعاصر .. و ما رافقهُ من آلتّطوّر ألفكريّ و آلعلميّ و آلمدنيّ, لذلك ولّدَتْ إحباطاتٌ كثيرةٌ في أمّتنا, بل و نكسات و تخلّف و مظالم و نزاعات و إرهاب و ذبحٍ على آلهويّة!
هناك مؤآخذات كثيرة على منهجنا – عقائدنا - من قبل آلغربيين على تعاملنا مع آلحياة و آلوجود حتّى طريقة آلأيمان بآلغيب و علّاتها, فلم تَعُد(ألعبادات و آلمعاملات) كافية لسدّ آلنّقص ألفكريّ و آلرّوحيّ و آلتشريعيّ و آلقانونيّ لأشباع تطلّعات ألمُسلم ألمُعاصر لفكّ قيود آلتّخلف و آلتّبعية و آلفقر .. كما إنّ آلمرجعيّات – بلا إستثناء - لم تَعُدْ قادرة على جّواب ألأسئلة آلكثيرة من قبل آلكثير من آلمُقلّدين ألّذين بدؤا يبحثون عن قيادةٍ فكريّة أصيلة تُمثل بحقّ ألنّيابة ألعامّة للأمام آلثّاني عشر ألّذي وضعَ شروطاً و مواصفات خاصّة مفقودة في مدعيّ آلمرجعيّة ألدّينيّة ألحاليّة
عزيز الخزرجي