بات من الواضح أن غالبية العناصر الأثقل من الهليوم لا توجد في المَجَرّات، حيث يمكن أن تمتزج في كواكب ونجوم المستقبل. وعوضًا عن ذلك.. فإن هذه العناصر ينتهي بها الأمر بعيدًا عن المَجَرّات في جسيمات الغاز المؤين والغبار.
تشكلت جميع العناصر الأساسية للحياة (الكربون، والنتروجين، والأكسجين، والحديد، وغيرها) في النجوم وفي الانفجارات النجمية الميتة التي تُعرف باسم المستعرات الفائقة. لذلك.. يبدو منطقيًّا أن نتوقع العثور عليها حيث توجد المستعرات الفائقة والنجوم في المَجَرّات، إلا أن دراستين قام بهما شول وزملاؤه، وبيك وزملاؤه، تكشفان أن الغالبية العظمى من هذه "المعادن" ـ التسمية التي يطلقها الفلكيون على كل العناصر التي لم تنتج عن الانفجار العظيم ـ تقيم بعيدًا عن المَجَرّات التي ولدت فيها، على شكل غاز مؤين وجزيئات معقدة.
اقترن التحقق في عام 1957 من أن النجوم هي بوتقات لمعظم عناصر الجدول الدوري مع فكرة أن المعادن يمكن استخدامها كآثار لتشكُّل النجوم والتدفق الغازي لداخل وخارج المَجَرّات (الشكل1-)، وهي تشبه بذلك كثيرًا الطريقة التي تميِّز الأوراق النقدية المستخدمة لتتبع أثر التدفق النقدي في الاقتصاد.
تُعَدّ دراسة المعادن في المَجَرّات سهلة نسبيًا: فالنجوم تتألق مشرقةً، والغاز والغبار في المَجَرّات كثيفان بما يكفي لدراستهما من الضوء المنبعث عنهما. مع ذلك، فإن النجوم تهرم وتموت، وتطرد المواد المنتجة حديثًا من المَجَرّات، إلى الوسط الملاصق للمَجَرّات (الغاز المنتشر حوالي 20 مرة أكثر من تمدد المَجَرّة نفسها)، وربما لأبعد من ذلك، إلى الوسط بين المَجَرِّي (الغاز المنتشر لأقصى درجة بين المَجَرّات). هذا الغاز الكائن خارج المَجَرّات أرقّ من أن يتمكن الفلكيون من رصده، إلا من خلال تأثيره على المنابع المضيئة البعيدة التي تعبره (الشكل 1). هذه الأرصاد والتفسيرات اللاحقة ليست سهلة، لأن الضوء المار من خلال الوسط بين المَجَرِّي يتأثر به بقدر ضئيل.
تُعَدّ النجوم والمستعرات الفائقة مواقع لصنع "المعادن"، إلا أن الطاقة من النجوم الميتة قد رمت بهذه العناصر (تدفق خارجي) إلى المنطقة القريبة من المَجَرّات (الوسط الملاصق المَجَرِّي)، ولأبعد من ذلك (إلى الوسط بين المَجَرِّي). وبدراسة كيف يتأثر ضوء مصادر الخلفية المضيئة بانتشار الغاز خارج المَجَرّات، فإن شول وزملاءہ، وبيك وزملاءہ بيَّنوا أن غالبية المعادن توجد بعيدة عن المَجَرّات، في جسيمات الغاز المتأينة، والجسيمات الغبارية الصغيرة.كبر الصورة
يتسم معظم الفراغ بين المَجَرِّي بكثافات ودرجات حرارة تجعل الغاز في شكل أيونات تمتص بشدة الضوء الواقع في مجال الأطوال الموجية للأشعة فوق البنفسجية، لأن الغلاف الجوي للأرض لحسن الحظ يمتص معظم فوتونات الأشعة فوق البنفسجية، وهذا يعني أنه يجب أن نستخدم تليسكوبًا لرؤية هذا الغاز في الكون المعاصر. وباستخدام تجميع مهم من العام الماضي لأرشيف أطياف الأشعة فوق البنفسجية لمنابع الخلفية اللامعة التي تمّ رصدها من خلال تليسكوب الفضاء هابل، رأى شول وزملاؤه أن عناصر الكربون والنتروجين والأكسجين والسليكون كانت واسعة الانتشار في الوسط بين المَجَرِّي. هذه البيانات شديدة الحساسية بالنسبة إلى الكثافات الكونية بين المَجَرِّية للمعادن في بعض الحالات المتأينة (مثلًا: +C2، و+C3 وليس +C4؛ بالإضافة إلى O+5، وليس O+6).
ونظرًا إلى أن الكثافة الحقيقية بين المَجَرِّية لعنصر معيّن هي مجموع كثافاته في مختلف الحالات الأيونية، كان الجزء الصعب من تحليل شول وزملائه هو تصحيح هذه الكثافات الأيونية لهذه الحالات الأيونية غير المرئية، وذلك لتحديد إلى أيّ مدى "لوثت" المعادن الفضاء بين المَجَرِّي. وبمقارنة الكثافات الكونية المقاسة حديثًا مع المقادير المتوقعة للمعادن المنتجة من النجوم المتشكلة خلال التاريخ الكوني بأكمله؛ استنتج شول وزملاؤه أن 10±%5من جميع المعادن المنتجة خلال الزمن الكوني توجد في الوسط بين المَجَرِّي، أما النسبة المتبقية، فهي إما موجودة في المَجَرّات أو قريبة نسبيًّا من الوسط المَجَرِّي الملاصق.
ونظرًا إلى كَوْن نهج شول وزملائه لتحديد الوفرة النسبية للمعادن بين المَجَرِّية باستخدام آثارها على خلفية المنابع المضيئة مماثلًا لاستخدام منارة للكشف عن الضباب الكوني، فإن بيك وزملاءہ نظروا إلى الضباب الدخاني الكوني. استخدم فريق بيك تليسكوب سلون للمسح الرقمي للسماء للقيام بشكل منهجي بقياس الطريق، حيث توجد الجسيمات الغبارية الصغيرة بين المَجَرِّية (مثل الجرافيت والسليكات والسخام- وهي المعادن نفسها التي رصدها شول وزملاؤه، لكن في الحالة الصلبة)، بحيث تكون منابع الخلفية الحمراء قليلة وبمقادير صغيرة للغاية، هذا الأثر يماثل عمل الجسيمات الصغيرة في الغلاف الجوي للأرض التي تجعل من الشمس أكثر احمرارًا من المعتاد عند الغروب. وبدراسة أكثر من 140 ألف خلفية مجرّية مع تلك الألوان المشابهة للحمرة قليلًا التي تعتمد على موقع المَجَرّات الأمامية في السماء؛ استطاع بيك وزملاؤه التغلب على الشكوك الإحصائية المتعلقة بقياس بيانات الغبار الخاصة في المناطق المجاورة للمَجَرّات الأمامية. استخدموا بعد ذلك هذه البيانات الخاصة لحساب الكتلة الكلية للغبار في الوسط المَجَرِّي الملاصق للمَجَرّات الأمامية. وقد خلصت الدراسة بشكل مثير للدهشة إلى أن التواجد الأكبر لجزيئات الكربون والسليكون الغنية ليس في المَجَرّات، وإنما خارجها.
تشير النتائج المشتركة لهاتين الدراستين إلى استنتاج محيّر، مفاده: لا توجد غالبية العناصر التي تشكل الحياة في المَجَرّات، حيث يمكن أن تشترك في تشكيل النجوم والمجموعات الكوكبية؛ وإنما تتوزع غالبًا على بعد الآلاف والملايين من السنين الضوئية من المَجَرّات. ومع أنه كان معروفًا، أو شبه مؤكَّد ـ وعلى مدى عقود ـ أن المَجَرّات لا تحتوي على معظم المعادن التي كانت قد أُنتجت، إلا أنه في السنوات الأخيرة فقط كان علماء الفلك قادرين على تحديدها، وتوصيف هذه المواد بشكل منهجي خارج المَجَرّات.
ومع ذلك.. تسلِّط الدراستان الضوء عن حقيقة أن عددًا قليلاً من علماء الفلك يعلم ـ وبالتالي يبدو أنه يوجد الكثير يُنتظَر اكتشافه ـ عن الظروف الفيزيائية المفصلة، وعليه ما يتعلق بمصير معادن الكون. قدَّم شول وزملاؤه تقديرات للكثافة بين المَجَرِّية من المعادن متعلقة بوقت يتميز فيه الكون بقدر أكبر من النضوج، مقارنةً بالعهود السابقة التي أجريت فيها قياسات مماثلة. ومع ذلك.. فإنها ليست بالمهمة التافهة من أجل الوصول إلى الكشف عن هذه المعادن حديثًا في المَجَرّات الفردية التي وُلدت بها. ومع أنّ الدراسات السابقة8 أشارت إلى وجود مخزون كبير من الغبار بين المَجَرّات، إلا أن تحليل بيك وزملائه يُظْهِر بشكل رائع كيف تعتمد بيئة المَجَرّة الغبارية على المَجَرّة نفسها. وسوف تكون هناك حاجة إلى عمليات مسح كبيرة؛ للحصول على قياسات مشابهة للعهود الكونية السابقة؛ لفك شفرة تبيِّن متى طَرَدَت المَجَرّة هذا الغبار.
من المدهش حقًا، أن غالبية اللَّبِنَات المحتملة للحياة توجد بعيدًا عن أماكن مولدها، والكثير منها يستطيع تحمل الرحلة خارج المَجَرّات كجزيئات معقدة. وكما أن فهمنا للفضاء بين المَجَرِّي في الكون المحلي يتزايد، فإن هذه الرقعة الشاسعة من الغاز المخلخل تخبرنا عن المَجَرّات، وكم أن موقعنا في الكون نادر ونفيس.
Molly S. Peeples
معهد تلسكوب علوم الفضاء، بالتيمور
منقول