إنّ إعداد رحلات إلى ما بين الكواكب سوف يكون بمثابة القفزة العملاقة القادمة للإنسان في الفضاء. ومع ذلك.. يبدو أن توافق الآراء حتى بشأن أصغر الخطوات إلى الأمام، لا يزال بعيد المنال. ففي يونيو الماضي، ألقى تقريرٌ لمجلس البحوث الوطني الأمريكي الضوءَ على عديد من الخيارات، ولكنه لم يقدم أية توصيات تتعلق بالعودة إلى القمر، أو التوجه مباشرة نحو المريخ، أو اقتلاع صخرة من كويكب، وجذبها لمدار قمري، ليتسنَّى لرواد الفضاء العاطلين الذهاب إلى مكان ما، أو القيام بشيء ما. إذًا، لا بد أن تقرِّر «ناسا» أي مسار ستتبعه، قبل إعلان ميزانية الرئيس باراك أوباما في يناير 2015.
هناك خيارات قد تكون أفضل من غيرها، إذ تتطلب تكلفة استكشاف فضائي مأهول برواد فضاء قياس كل عنصر من حيث قيمته، وصولًا إلى الهدف النهائي، ألا وهو المريخ، لكن الأولوية القادمة المعلَنة لـ«ناسا» لن تسهم في ذلك الهدف. إن بعثتها لإعادة توجيه كويكب ’’ إيه آر إم ‘‘ ARM) ) حيلة بملايين الدولارات، لقنص جزء من كويكب، وجلبه قريبًا من الأرض؛ ليتمكن رواد الفضاء من الوصول إليه. سيتطلب ذلك مركبة فضائية ملحقة؛ لتوصيل شيء من اثنين.. إمّا حقيبة التقاط ضخمة، أو أداة مُفرطة في تعقيدها. وأيّ تقنية من التقنيَّتين ليست مفيدة في توصيل الإنسان إلى المريخ.
هناك طريقة أفضل.. إذ تمر الآلاف من الكويكبات ـ بحجم عربات الشحن، وأكبر ـ سنويًّا على مسافة تساوي تقريبًا بُعدنا عن القمر، والعديد منها ـ مثل كويكب سبتمبر الوشيك 2014 RC ـ يقترب أكثر. سنحتاج إلى العثور عليها مبكرًا بوقت كاف، لتتاح فُرَص وفيرة لبعثات ذات أطقم بشرية.
هذه البوابة لاستكشاف الفضاء المأهول تتطلب ثلاثة أشياء: مسحًا شاملًا للكويكبات؛ للعثور على آلاف من الأجسام القريبة المناسبة للزيارة بواسطة رواد الفضاء؛ وزيادة الفترة الزمنية للرحلة وقدرة الوصول إلى نطاقات مستمرة في التزايد نحو المريخ؛ وتطوير مركبات وأدوات آلية أفضل؛ لتمكين رواد الفضاء من استكشاف كويكب، بغض النظر عن حجمه، أو شكله، أو سرعة دورانه. ستوفر دراسة الكويكبات أيضًا تقييما حذرًا طال انتظاره عن مخاطر الارتطام المستقبلية.
المارَّة
تدور الكويكبات حول الشمس، ومعظمها في حزام الكويكبات بين المريخ والمشترى، وتدفع جاذبية المشترى، وقوى أخرى، القليل منها في مسارات تمر على بعد 40 مليون كيلومتر من الأرض. يبلغ عرض أكبر هذه الكويكبات القريبة من الأرض (NEAs) حوالي 30 كيلومترًا، رغم أن معظمها يبلغ أمتارًا. أصغر الأجسام هو الأكثر عددًا، وتصطدم هذه الأجسام بالأرض كثيرًا، وتتساقط أطنان من بقايا الحُبَيبات والحصوات من الفضاء يوميًّا؛ ويرتطم القليل من الأجسام البالغ حجمها مترًا سنويًّا.
أظهر الكويكب البالغ طوله 20 مترًا ـ الذي أضاء السماء وحطَّم النوافذ في تشيليابينسك، في روسيا ـ في عام 2013 الحد الفاصل بين مجرد إلقاء النيازك، وتشكيل خطر كبير. فهناك انفجار هوائي شبيه بانفجار تشيليابينسك يحدث في مكان ما على الأرض كل 50 عامًا في المتوسط، وعادةً فوق المحيطات. إن ارتطام كويكب بعرض 10 كيلومترات ـ كالذي ضرب الأرض في نهاية العصر الطباشيري ـ حدث يتكرر ـ لحسن الحظ ـ مرة كل مئة مليون عام.
إنّ الكويكبات يمكن أن تكون صديقًا، لا عدوًا، حيث تم اعتبار الكويكبات القريبة من الأرض ـ لما يقرب من أربعة عقود4 ـ وجهات لرحلات فضاء بشرية أيسر منالًا من سطح القمر. وبسبب مجالات جاذبيتها الضئيلة، يستلزم لقاء مع كويكبٍ ما مجرد الصعود والتحليق بجانبه، دون الحاجة إلى مركبة هبوط مخصَّصة.
الكويكبات التي تمر مداراتها بين الأرض والمريخ تقدِّم نطاقًا من الوجهات البارزة لاختبار قدرات المسافة والفترة الزمنية لرحلات الفضاء البشرية. قد تستمر البعثات الأولى لأسابيع، ولا تذهب بعيدًا؛ وقد تستمر الرحلات اللاحقة شهورًا، وتغامر إلى مسافات أبعد تدريجيًّا في الفضاء بين الكواكب، مُثْبِتَةً أن المريخ في متناول أيدينا.
اعترف فريق العمل الرئاسي في عام 2009 بالكويكبات القريبة من الأرض كخيار منخفض التكلفة، وقابل للإنجاز على طول هذا «الطريق المرن» إلى المريخ. وقد حدد أوباما المسار بلطف بذِكْر كلمة (كويكب) وعام (2025) في خطاب ألقاه أمام حشد من العاملين بالفضاء في إبريل 2010. وعلى الرغم من كون هذا الخطاب همسًا تقريبًا، مقارنةً بعِظَة الرئيس جون كينيدي في مايو 1961 للذهاب إلى القمر، أخذ مخططو «ناسا» كلمات أوباما بمثابة توجيه.
سرعان ما ثبت الواقع.. فوصول الإنسان إلى أي كويكب معروف بقربه من الأرض في منتصف العقد الثالث من الألفية خارج نطاق وميزانية نظم الرحلات الناشئة. لذا.. تم تدبير مخطط بعثة إعادة توجيه كويكب ’’إيه آر إم‘‘، بدلًا من إرسال الرواد إلى الكويكب. دعونا نجلب قطعة منه إلى النطاق المتوقَّع أن يصله طاقم في عام 2025. سوف تقبض على الغنيمة مركبةُ دَفْعٍ بدون طاقم تعمل بالطاقة الشمسية، وتجرها عائدة إلى مدار قمري، حيث يمكن لرواد الفضاء المنطلِقين بشكل منفصل استكشافها.
هل تم إنجاز المهمة؟ من وجهة نظري، إطلاقًا. فالأجهزة وعمليات التقاط كويكب واحتوائه وإعادة توجيهه هي عناصر طريق مسدود، دون أية قيمة في السفر الفضائي بواسطة طاقم لمدة زمنية طويلة . سيكون توصيل وحدة إمدادات إلى الفضاء القمري وسيلة أكثر منطقية لإثبات قوة دفع الوقود الشمسي، والحفاظ على سلامة رواد الفضاء. البديل المضبوط لإلهاء الناس بحيلة واحدة باهظة التكلفة، هو أن نشرح لهم أن الوصول إلى المريخ يتطلب الصبر والتقدم الدؤوب في القدرات.
إنّ الحجج شديدة الضعف، في رأيي، هي تلك القائلة إن ’’إيه آر إم‘‘ يمكنه تقديم معلومات جديدة مهمة بخصوص مخاطر الارتطام أو موارد الفضاء. سيكون الهدف ’’إيه آر إم‘‘ بالكاد ربع حجم تشيليابينسك، وواحدًا في المئة من كتلته (أي أصغر من أن ينجو من المرور بالغلاف الجوي). وفكرة أننا قد ننتفع قريبًا باستخلاص الماء أو وقود الصواريخ من كويكبٍ هي مجرد فكرة وهمية، بسبب تكلفتها الخيالية وتعقيدها.
بوابة الاستكشاف
تحتاج «ناسا» إلى خطة أكثر واقعية. فإعادة تكريس الجهود للمريخ ـ كهدف طويل المدى ـ ضرورية بشكل واضح (مستقلة عن أي قرار بخصوص العودة إلى القمر). والكويكبات القريبة من الأرض هي الأحجار الأسهل وصولًا بين الكواكب نحو المريخ، فلماذا نجلب كويكبًا، بينما يمكننا انتظار أحدها ليأتي بالقرب منا؟
هناك الكثير لنختار منه (انظر: «متطلبات البعثة»). نحن نعرف حاليًّا أن الأجسام الألف تقريبًا، البالغة عشرات الأمتار وأكبر، التي تمر على مسافة تساوي عدة مرات المسافة إلى القمر، ما هي إلا غيض من فيض (انظر هنا ). تنتظر حوالي عشرة ملايين من تلك الأجسام اكتشافها في مدارات تمر بين الأرض والمريخ؛ حيث يمر واحد أو أكثر داخل مدار القمر أسبوعيًّا. وحتى الآن، كَشَفْنا بالكاد عن %0.1 منها، لأن شبكة استطلاع الكويكبات لدينا ليست على مستوى المهمة.
الكويكبات ذات المواقع المثالية للاستكشاف هي أيضًا من ضمن تلك التي تمثل مخاطر ارتطام محتملة للأرض. «اعثروا عليهم قبل أن يعثروا علينا».. هذا هو شعار علماء الكواكب والتقارير الوطنية منذ عقود. مع ذلك.. لم يموِّل أيٌّ من الكونجرس الأمريكي أو «ناسا» استطلاعًا منظاريًّا مخصصًا كبيرًا. هذا.. وتنفق «ناسا» مجرد نسبة ضئيلة من ميزانيتها ـ 20 مليون دولار أمريكي سنويًّا ـ على البحث باستخدام مصفوفة عشوائية من المرافق الفلكية المُعَاد تكييفها.
الاستطلاعات الحالية أيضًا غير كافية لإنفاذ القانون الأمريكي. فقانون استطلاع الأجسام القريبة من الأرض لجورج إي. براون الابن لعام 2005 يتطلب أن تعثر «ناسا» على %90 من الكويكبات الخطرة البالغة 140 مترًا ـ أو أكبر ـ بحلول عام 2020، وهو هدف لن يتحقق بدون زيادة الاستثمار بشكل كبير. إنه تحدٍّ كبير يتطلب التزامًا كبيرًا من جانب وكالة الفضاء، والرئيس، والكونجرس: 200 مليون دولار سنويًّا. وهذه الميزانية ـ مقارنةً ببرنامج «ناسا» الجديد «حدود جديدة» New Frontiers، الذي أَرسَل مجسّات بدون طاقم إلى كواكب المجموعة الشمسية ـ ستسمح باستكمال الاستطلاع خلال عقد بجزء بسيط من تكلفة «إيه آر إم» المتوقع بلوغها عدة مليارات من الدولارات.
بمجرد أن يتمكن الإنسان من الوصول إلى كويكب واحد في مداره الأصلي، ستنفتح البوابة؛ ليكون الوصول ممكنًا إلى المزيد من المئات (إنْ لم تكن الآلاف)، مما يتيح ظهور برنامج استكشاف مستقر في أواخر العقدين الثالث والرابع من الألفية. ومن الممكن البدء في تقييم التنمية التجارية المتعلقة بموارد الفضاء؛ لاختيار المرشحين، حتى منتصف هذا القرن تقريبًا.
إنّ مركبات التحكم الآلي («روفز» ROVs) ستحتاج إلى التطوير؛ لاستكشاف الكويكبات، كما سيحتاج رواد الفضاء في مدار حول سطح المريخ ـ أو عليه ـ أن يتحكموا في أدوات العمل الآلية. فغالبية الكويكبات غير منتظمة الشكل، ومتناثرة الصخر، وتترنح في مداراتها. وليس لدينا سبب لنتوقع أن يكون لكويكب يمكن الوصول إليه دورانٌ بطيء ومستقر، وسطح آمِن وأملس، يرحِّب ببدلة فضاء. يمكن توجيه مركبات التحكم الآلي ـ مثل تلك المستخدَمة للاستكشاف تحت الماء ـ من وحدة الطاقم الرئيسة لتنفيذ الاستقصاءات في الموقع. ويمكننا استكشاف هذه العوالم بواسطة مجموعة من أذرع أو أجهزة تثبيت، للحصول على موطئ قدم ضروري للعمل تحت الجاذبية الضعيفة والقدرة على العمل لساعات أطول من المتاح في عملية سير في الفضاء.
تحدٍّ كبير
بنهاية هذا الشهر (ديسمبر)، سيتم تشكيل ميزانية أوباما لعام 2015. وتحتاج «ناسا» إلى القيام باختيار واضح بشأن أولوياتها، وعليها ترك مبدأ بعثة «إيه آر إم»، ووضع استطلاع الكويكبات في قمة أولوياتها؛ لتوفر قاعدة للبعثات ذات الطاقم البشري المستقبلية.
لابد لإدارات «ناسا» للاستكشاف البشري، وتكنولوجيا الفضاء، والعلوم، وغيرها، أن تجمع مواردها؛ لمواجهة التحدي الكبير المعلَن عنه للوكالة. ويجب على الكونجرس والبيت الأبيض تمويل سلسلة جديدة من البعثات التي تحتضن النتائج المتضافرة للاستكشاف، والتكنولوجيا، والعلوم؛ من أجل صالح البشرية.
يجب على برنامج «بعثة التحدي الكبير» هذا أن يدعم رحلات الفضاء البشرية، ومستقبل النوع البشري. ويجب التخطيط له على طريقة – وبميزانية – شبيهة ببرنامج «حدود جديدة» لمجسات الكواكب، التي كلف كل منها أقل من 800 مليون دولار، والتي اختيرت من خلال المنافسة. إن التعريف المسبق سوف يفيد في دفع عجلة التنمية في الصناعة والأوساط الأكاديمية، ويقود إلى أفكار أفضل؛ ويعظِّم التخطيط طويل الأجل. إنّ الاختيار التنافسي للمقترحات سوف يضمن العائد الأكثر فاعلية وتأثيرًا للتكلفة بالنسبة إلى المستثمرين من دافعي الضرائب.
يجب استكشاف ثلاثة مبادئ متعلقة بالكويكبات: مَسْح الكويكبات؛ للعثور على سلسلة من الوجهات البشرية على الطريق إلى المريخ، مع استيفاء متطلبات قانون الاستطلاع لعام 2005؛ والمنافسة لاختبار الطرق الآلية لتشتيت كويكب، التي من الممكن أن يَعتمد عليها بقاء الحضارة يومًا ما؛ ومنافَسة أخرى لاختبار الطرق الآلية؛ لاستخلاص الماء، أو استخراج الموارد القيِّمة الأخرى من الكويكبات التي قد تسهم في استمرار رحلات الفضاء البشرية لعقود من الزمن، بدءًا من الآن.
إنّ «ناسا» تحتاج إلى العودة إلى المسار الصحيح؛ لتحقيق القفزة العملاقة القادمة للبشرية في الفضاء
منقول