بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك

وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته



«يا أبا ذر! احفظ ما أُوصيك به تكن سعيداً في الدنيا والآخرة.
يا أبا ذر! نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ.
يا أبا ذر! اغتنم خمساً قبل خمسٍ: شبابك قبل هرمك، وصحّتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك...».
يأمر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في هذا القسم من وصيّته أبا ذر رضوان الله تعالى عليه أن يعمل بوصاياه، ليحظى بسعادة الدنيا والآخرة.
إنّ الراحة وطمأنينة النفس الإنسانية أفضل مقياس لتحقّق السعادة، لأنّ جميع مصاديق السعادة الأخرى تعود في نهاية المطاف إلى راحة النفس واستقرارها واطمئنانها؛ فإنّ الثروة والشباب، وتناول الطعام اللذيذ والتمتع بكل اللذائذ الأخرى، تتحوّل جميعها إلى مرارة وتفاهة، ما لم تكن مقترنة براحة الروح وطمأنينة النفس.
فلو أنّ شخصاً ما قُدّم له في بيته ألذّ الطعام، ولكنه في الوقت ذاته كان مديناً بمبلغ كبير من المال يُثقل كاهله، وكان يتوقّع أن يطرق الدائن بابه في أيّ لحظة، فهو يحذر ويخاف من أن يذهب بماء وجهه، فيا ترى هل يشعر بلذّة حين يتناول ذلك الطعام؟
بينما إذا أُخبر في تلك الأثناء أنّ شخصاً ما قد سدّد عنه دينه، وأن لا مبرر للقلق والخوف، ثم إنّه بعد ذلك انشغل بتناول مجرد الخبز اليابس والماء، ثم سئل عن نوعي الطعام؛ أيّهما ألذ: الطعام الأوّل مع القلق، أم الخبز اليابس مع راحة البال؟!
إنّ من المؤكّد أنّ اللذّة التي يستشعرها أثناء تناول الخبز اليابس أعلى بكثير من أيّ طعام لذيذ آخر، إذ لا لذّة تُستشعر مع الخوف والقلق والاضطراب.
إنّ النبيّ الأكرم صلوات الله وسلامه عليه وآله يحدّد للمؤمنين كافّةً ـ وبوضوح بالغ ـ نوع الدواء الناجع ليحقّقوا السعادة في الدنيا والآخرة، أي ليعيشوا دائماً في راحة واطمئنان، ذلك لأنّ هذه الخصوصيّة ستؤثّر على جميع مظاهر ومصاديق السعادة.
ويجدر بالفرد المتديّن أن يهتمّ كل الاهتمام بهذه الوصيّة ويعمل وفقها.


فمعنى التديّن: أن تراعَى جميع جوانب الدين، دون الالتزام الجزئيّ به. فالدين الذي ينتهي إلى منتصف الطريق لا يُسمّى ديناً، ولا يعالج أمراً، ومن ثم فإنّ ثمرة الدين وفائدته ونتائجه الإيجابيّة إنّما تتّضح وتتبلور حينما تحظى جميع مسائل الدين بالاهتمام اللازم.
أمّا ظاهرة (الانتقائية) في مسائل الدين وأحكامه التي يصفها الله (تبارك اسمه) في القرآن الكريم بقوله تعالى:
(وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ)(1).

فتعتبر بمثابة الآفة التي تستولي على قلب الإنسان وسلوكه وتنتهي بإيمانه إلى الضياع، والله سبحانه وتعالى يصف من تستولي عليه هذه الظاهرة في الدين بقوله الصادق والصارم:
(أولئك هُمُ الكافرونَ حقّاً)(2).

إذ استيلاء هذه الظاهرة على القلب والفكر، تعني ـ والعياذ بالله ـ التلبس التامّ بالكفر.
أمّا إن عمل الإنسان بجميع تعاليم الدين والتزم بجميع أبعاده، وحقّق السعادة التي تمّ توضيحها له، فإنّه لن يعاني صعوبة، أو يعذّبه ويقضّ مضجعه نوعُ اضطراب، وإن قضى الأيام عطشاناً والليالي جائعاً.
إنّ أبا ذر رضوان الله تعالى عليه الذي هو من جملة تلامذة هذه المدرسة المحمديّة، ومن عمل بوصايا النبيّ العظيم صلّى الله عليه وآله، يعتبر أفضل وأسمى قدوة ومصداق لهذه الحقيقة، فهو قد توفّي جائعاً عطشاناً، وحيداً في صحراء المنفى الحارقة، ولكن موته كان مقروناً بالسعادة والعزّة، ولم يشعر بالخواء الروحي أبداً، كما لم يحسّ بالتعب والعطب مطلقاً، وإنّما ودّع الدنيا برضىً تام وراحة بال مطلقة، إذ رغم عطشه وجوعه، وفقره وحاجته الماديّة، لم يستسلم للظلم والجور.
لاشك أنّه لم تكن لأبي ذر خصوصية باعتباره مخاطباً، وإنّ خطاب النبيّ الأعظم صلى الله عليه وآله كان موجّهاً إلى جميع الناس، وعلى مرّ التاريخ
-----------------------
(1) سورة النساء، الآية: 150.
(2) سورة النساء، الآية: 151.