3 ـ الرّحمةالإِلهية الخاصة والعامّة:
المشهور بين جماعة من المفسّرين أنّصفة (الرحمن) تشير إلى الرحمة الإِلهية العامة، وهي تشمل الأولياء والأعداء،والمؤمنين والكافرين، والمحسنين والمسيئين، فرحمته تعمّ المخلوقات، وخوان فضلهممدود أمام جميع الموجودات، وكلّ العباد يتمتعون بموهبة الحياة، وينالون حظهم منمائدة نعمه اللامتناهية. وهذه هي رحمته العامة الشاملة لعالم الوجود كافة وماتسبّح فيه من كائنات.
وصفة (الرحيم) إشارة إلى رحمته الخاصةبعباده الصالحين المطيعين، قد استحقوها بإيمانهم وعملهم الصالح، وَحَرُمَ منهاالمنحرفون والمجرمون.
الأمر الذي يشير إلى هذا المعنى أنّصفة (الرحمن) ذكرت بصورة مطلقة في القرآن الكريم ممّا يدل على عموميتها، لكنّ صفة(الرحيم) ذكرت أحياناً مقيّدة، لدلالتها الخاصة، كقوله تعالى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنينَ رَحِيماً)(2) وأحياناًاُخرى مطلقة
وفي رواية عن الإِمام جعفر بن محمّدالصادق(عليه السلام) قَالَ: «وَالله إلهُكُلِّ شَيْء الرَّحْمنُ بِجَمِيعِ خَلْقِهِ، الرَّحِيمُ بِالْمُؤْمِنينَ خَاصَّةً»(1).
من جهة اُخرى، كلمة (الرحمن) اعتبروها صيغة مبالغة، ولذلك كانت دليلا آخر على عمومية رحمته.واعتبروا (الرحيم) صفة مشبّهة تدلّ على الدوام والثبات، وهي خاصة بالمؤمنين.
وثمّة دليل آخر، هو إنّ (الرحمن) من الأسماء الخاصة بالله، ولا تستعمل لغيره، بينما(الرحيم) صفة تنسب لله ولعباده. فالقرآن وصف بها الرّسول الكريم، حيث قال: (عَزِيزٌ عليه مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌبِالْمُؤْمِنينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(2).
وإلى هذا المعنى أشار الإِمام الصادق(عليه السلام)، فيما روي عنه: (اَلرَّحْمنُ إِسْمٌ خَاصٌّ بصِفَةعَامَّة، وَالرَّحيمُ عَامٌّ بِصِفَة خَاصَّة»(3).
ومع كل هذا، نجد كلمة (الرحيم) تستعمل أحياناً كوصف عام. وهذا يعني أن التمييز المذكور بينالكلمتين إنما هو في جذور كل منهما، ولا يخلو من استثناء.
في دعاء عرفة ـ المنقول عن الحسين بنعلي(عليه السلام) ـ وردت عبارة: «يَا رَحْمنَ الدُّنْيِا وَالاْخِرَةِوَرَحِيمَهُمَ ا».
نختتم هذا الموضوع بحديث عميق المعنى،عن رَسُولِ اللهِ(صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ: «إِنَّ للهِعَزَّ وَجَلّ مائَةَ رَحْمَة، وَإِنَّهُ أَنْزَلَ مِنْهَا واحِدَةً إِلَىالأَرْضِ، فَقَسَّمَهَا بَيْنَ خَلْقِهِ، بِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَيَتَرَاحَمُونَ،وَأَخَّر َ تِسْعاً وَتِسْعِينَ لِنَفْسِهِ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَالْقِيَامَةِ»(4).
1 ـ الكافي،وتوحيد الصدوق، ومعاني الأخبار (نقلا عن الميزان).
3 ـ مجمعالبيان، ج 1، ص 21.
لِمَ لَمْ تَرِدْ بَقية صِفاتِ اللهِ في البَسْمَلَةِ؟
في البسملة ذكرت صفتان لله فقط هما:الرحمانية والرحيمية، فما هو السبب؟
الجواب يتضح لو عرفنا أنّ كل عملينبغي أن يبدأ بالاستمداد من صفة تعم آثارها جميع الكون وتشمل كلّ الموجودات،وتنقذ المستغيثين في اللحظات الحساسة.
هذه حقيقة يوضّحها القرآن إذ يقول: (وَرَحْمَتِيوَسِعَتْ كُلَّ شَيء)(1)، ويقول على لسانحملة العرش: (رَبَّنَا وسِعْتَ كُلَّ شَيْء رَحْمَةً)(2).
ومن جانب آخر نرى الأنبياء وأتباعهميتوسّلون برحمة الله في المواقف الشديدة الحاسمة. فقوم موسى تضرّعوا إلى الله أنينقذهم من تجبّر فرعون وظلمه، وتوسّلوا إليه برحمته فقالوا: (وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ)(3).
وبشأن هود وقومه، يقول القرآن: (فَأَنْجَيْنَاهُوَالَّذِين َ مَعَهُ بِرَحمَة منَّا)(4).
من الطبيعي أنّنا ـ حين نتضرّع إلىالله ـ نناديه بصفات تتناسب مع تلك الحاجة، فعيسى(عليه السلام)حين يطلب من الله مائدة من السماء، يقول: (اللّهُمَّ رَبَّنَاأَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائدَةً مِنَ السَّمَاءِ ... وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُالرَّازِقِينَ)(5).
ونوح(عليه السلام)يدعو الله في حطّ رحاله: (رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكاًوَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)(6).
وزكريا نادى ربّه لدى طلب الولدالوارث قال: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ)(7).
للبدء بأيّ عمل ينبغي ـ إذن ـ أننتوسّل برحمة الله الواسعة، رحمته العامة ورحمتة الخاصة. وهل هناك أنسب من هذهالصفة لتحقّق النجاح في الأعمال، وللتغلب على المشاكل والصعاب؟!
والقوة التي تستطيع أن تجذب القلوبنحو الله وتربطها به هي صفة الرحمة، إذ لها طابعها العام مثل قانون الجاذبية،ينبغي الإِستفادة من صفة الرحمة هذه لتوثيق العرى بين المخلوقين والخالق.
المؤمنون الحقيقيون يطهّرون قلوبهمبذكر البسملة في بداية كلّ عمل من كل علقة وإرتباط، ويرتبطون بالله وحده ويستمدّونمنه العون، ويتوسلون إليه برحمته التي وسعت كلّ شيء.
والبسملة أيضاً تعلّمنا أنّ أفعالالله تقوم أساساً على الرحمة، والعقاب له طابع استثنائي لا ينزل إلاّ في ظروفخاصة، كما نقرأ في الأدعية المروية عن آل بيت رسول الله: «يَا مَنْ سَبَقَتْ رَحْمَتُهُ غَضَبَهُ»(1).
المجموعة البشرية السائرة على طريقالله ينبغي أن تقيم نظام حياتها على هذا الأساس أيضاً، وأن تقرن مواقفها بالرحمةوالمحبة، وأن تترك العنف إلى المواضع الضرورية، «113» سورة من مجموع «114» سورةقرآنية تبدأ بالتأكيد على رحمة الله، وسورة التوبة وحدها تبدأ بإعلان الحرب والعنفبدل البسملة.