بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم

وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
يقول الإمام زين العابدين سلام الله عليه في الدعاء: «وعبّدني لك ولا تُفسد عبادتي بالعجب». فهو يسأل الله سبحانه وتعالى الفضائل ويطلب منه أن يقيه ويحفظه مما يفسدها، لأن لكل فضيلة آفة تفسدها، والإمام يطلب من الله الفضيلة ويستعيذ به مما يفسدها،
قول الإمام سلام الله عليه: «وأوسع عليّ في رزقك ولا تفتنّي بالنظر ـ أو بالبطر» فهما من آفات الرزق الواسع، والإمام يطلب من الله السعة في الرزق والوقاية من البطر أو النظر، وقوله سلام الله عليه: «وأعزّني ولا تبتلِيَنّي بالكِبر» لأن آفة العزة الكبر وهو مرض الباطن كما أن التكبر مرض في الظاهر. ويقول الإمام سلام الله عليه: «وأجرِ للناس على يدي الخير ولا تمحقه بالمنّ» لأن المنّ آفة عمل الخير للناس، ويقول سلام الله عليه أيضاً: «وهب لي معالي الأخلاق واعصمني من الفخر» لأنه آفة معالي الأخلاق، وهاهنا يقول الإمام سلام الله عليه: «وعبّدني لك ولا تُفسد عبادتي بالعجب»؛ فإن العبادة فضيلة يطلبها الإمام من الله، ولكن آفتها العجب ولذلك يطلب الإمام من الله تعالى أن يقيه منه. إذن في هذه الفقرة أيضاً يطلب الإمام طلبين من الله تعالى وهما التعبيد والوقاية من العجب الذي يفسد العبادة.




:. معنى التعبيد



لم يرد استعمال هذا الاشتقاق (التعبيد) في الأدعية التي كثرتها إلا نادراً، وربما لم يرد في القرآن الكريم إلاّ مرة واحدة وذلك في قوله تعالى حكاية عن موسى على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام مخاطباً فرعون: ﴿وتلك نعمة تمنّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل﴾ (1). إنّ فرعون اتخذ بني إسرائيل عبيداً وجعل يعاملهم معاملة العبيد، ثم أخذ يمنّ على موسى سلام الله عليه في تربيته ويقول له ـ كما حكاه القرآن الكريم: ﴿...ألم نربّك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين﴾(2) فردّ عليه موسى سلام الله عليه بالقول: ﴿وتلك نعمة تمنّها عليّ أن عبّدت بني إسرائيل﴾. أي لِم حرمتَ أهلي من تربيتي وهدّدت قومي فاضطُرّت أمّي إلى إلقائي في البحر، فإنّ وقوعي بين يديك وتربيتك إياي كانت بسبب تعبيدك لبني إسرائيل وخوفهم منك ومن بطشك، فهذه ليست منّة بل هي جناية لأنها تعبيد وإخافة وبطش وإرهاب، فما وجه المنّة؟

إذن يكون معنى قول الإمام سلام الله عليه
«عبّدني لك»: اتخذني عبداً أو اجعلني عبداً، والمعنى الثاني أدقّ من باب مناسبة الحكم والموضوع على حد تعبير الفقهاء، لأن الاتخاذ نوع خصوصية وامتياز كما في قوله تعالى: ﴿واتّخذ الله إبراهيم خليلاً﴾(3) أي خصّه بهذه الفضيلة.


الخلاصة:إن معنى «عبدني لك»: اجعلني عبداً لك. ولكن قد يثار سؤال هنا، وهو: أليس الخلق كلهم عباد الله؟ أليس الله مالك الملك كله كما نقرأ في قوله تعالى: ﴿قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء...﴾(4) الآية، فلماذا يطلب الإمام من الله أن يجعله عبداً له؟ بعبارة أخرى: إذا كانت عبوديتنا لله تكوينية قهرية فالله تعالى هو الذي خلقنا ونحن عبيده، فما معنى طلب أن يجعلنا عبيداً له؟

نقول في الجواب: المقصود هنا هو القيام بما تقتضيه العبودية، والتوفيق لأن يأتي العبد بما ينبغي له، وهذا الأمر يتطلب دعاءً، ولذلك نرى الإمام سلام الله عليه وهو القمة في العبودية لله تعالى يطلب ذلك من الله تعالى ويقول: «وعبّدني لك» أي يا إلهي أنت امنحني التوفيق لأن أعبدك حقّ عبادتك.


هب أن أحداً منّا عمل ما في وسعه وطاقته في عبادة الله تعالى، وقام بكلّ ما ينبغي له من فروض العبودية من قيام بالواجبات والمستحبات ومن ترك للمحرمات والمكروهات، بل عمل بوصية النبي صلى الله عليه وآله لأبي ذر ـ وهي وصية عظيمة جداً ـ حيث يقول صلى الله عليه وآله
: «يا أباذر ليكن لك في كل شيء نية صالحة حتى في النوم والأكل»(5) أي أن يسعى العبد لجعل كل أعماله ـ حتى المباحات ـ

عبادة لله سبحانه وتعالى، فهل يكون قد وفّى حق الله تعالى في العبادة وبلغ ما يليق بمقامه؟
كلاّ لم يبلغ حتى بنسبة القطرة إلى البحر، وهذا ما ندركه نحن بمستوانا، ناهيك عن المقدار والمستوى الذي لا نشعر به ولا ندركه!



إذن يكون معنى عبارة الإمام السجاد سلام الله عليه في قوله: «وعبّدني لك»: إلهي إن عبادتي ليست في مستواك ـ وهو منزّه عن المستوى ـ ولا تليق بمقامك فاعتبرها "مجازاً وتوسّعاً" في مستواك. هذا ما نستفيده من سؤال الإمام سلام الله عليه.

ومما يروى عن عبادة الإمام زين العابدين سلام الله عليه ـ وكذلك عظم عبادة جدّه أمير المؤمنين سلام الله عليه أنه: « دخل أبو جعفر ابنه عليه (أي على الإمام السجاد سلام الله عليه) فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد فرآه وقد اصفرّ لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود وقد ورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة فقال أبو جعفر سلام الله عليه: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء فبكيت رحمة له، فإذا هو يفكر فالتفت إليّ بعد هنيئة من دخولي فقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام، فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام »(6).



:. لعبادة الصحيحة ما كانت مرضيّة عنده تعالى



أن القيام بالعبادة لا يكفي ما لم يعتبرها المعبود كذلك أي تكون عبادة عنده، فإن علاقة العبودية كعلاقة الحب ترتبط بطرفين، وكلّ أمر مرتبط بطرفين بحاجة إلى موافقة الطرفين.

روي في هذا الصدد أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين سلام الله عليه وقال له: «يا أمير المؤمنين والله إني لأحبّك لله»، فقال له الإمام سلام الله عليه: «لكني أبغضك لله»، ثم بيّن له السبب.(7)


فما فائدة أن يقول الابن لأبيه مثلاً: إني أحبّك ولكنه يأتي بما يغضبه.



وهكذا الحال بالنسبة للعبادة، لا يكفي أن يقول المرء أنا أعبد الله، بل المهم هو القبول من المعبود. صحيح أن التكليف يسقط عن العبد إذا قام بالعبادة وكانت جامعة للشرائط والأجزاء التكليفية وفاقدة للموانع والقواطع التكليفية، ولكن القبول شيء آخر، وقد وضّحه الفقهاء بمثالٍ "اللعب بالعبادة" وتوضيحه:إذا قال مولى لعبده: ائتني بقدح ماء، فامتثل العبد وجاء بالقدح إلى المولى ولكنه كان وهو في الطريق إليه يرقص ويضحك ويستهزئ بالمولى أو يقوم بحركات لا تليق بشأنه، فإن المولى إذا كان حكيماً قال: إن هذا العبد قد أتى بالتكليف لكنه خرق مقام العبودية، فلا يعاقبه على عدم الامتثال وجلْب الماء ولكنه لا يقبله منه لأنه لا يعدّه من المتقربين إليه؛ والإمام سلام الله عليه يعلمنا في هذا الدعاء أن نطلب من الله تعالى أن يقبل عبادتنا لأننا لا نعلم إن كنا قد أدّيناها بما يليق بمقامه تعالى أم اقتصرنا على إسقاط التكليف! ومن ثم نسأله تعالى ونقول له: «وعبّدني لك» أي اجعلني اللهم عبداً مقبول العبودية عندك.


:. العجب آفة العبادة



ذكرنا آنفاً أن لكل فضيلة آفة، وآفة العبادة العجب، ولذلك نرى الإمام سلام الله عليه يقرن دعاءه وسؤاله من الله عزوجل أن يعبّده له بأن لا يفسد عبادته بالعجب. فالإنسان وإن بلغ القمة الشامخة في العبادة يكون معرّضاً للمزالق أو ما عُبّر عنه بالزحاليف كما ورد في دعاء الصباح للإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه: «وصلّ اللهم على الدليل إليك في الليل الأليل والثابت القدم على زحاليفها في الزمن الأول»(8) يعني به الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله. ثمة مسألة شرعية موجودة في الرسائل العملية ومشهورة بين الفقهاء وهي أن الرياء أثناء العبادة مبطل لها، وبعد العبادة ناسِف وليس مبطلاً، فإن العبد إذا رائى في صلاته فإنها تبطل ويجب عليه قضاؤها وإلا حوسب على عدم الإتيان بالصلاة يوم القيامة لأن تلك الصلاة لم تسجّل في قائمة أعماله، وسيحاسَب ويعاقَب على تركها، وإذا قال إنه صلاها فيجاب إنها لم تكن صلاة لأنها كانت مقرونة بالرياء، فكأنّه لم يأتِ بها أصلاً، وهذا أمر يقرّه العقلاء، فلو أن مولى طلب من عبده أن يأتيه بقدح من الماء وامتثل العبد وجاء بالماء ولكنه صبّه على الأرض عند قدمي المولى، فإنه لم يحقق الغرض المطلوب الذي أمر به المولى وإن أتى بصورة العمل، وهكذا الحال بالنسبة للمرائي.


أما العُجب فالمشهور بين الفقهاء حسب الروايات أنه ليس مبطلاً للعبادة وإن كان أثناء العمل والعبادة ـ وإن كان هناك رأي يقول بأنه كالرياء من هذه الناحية أي يبطل العمل إذا كان مقروناً به أي واقعاً في داخله ـ ولكنه يُفسد العبادة وينسفها على كلّ حال، أي لا يثاب المكلّف عليها وإن لم يحاسَب على تركها، فالعبادة التي يُعجب بها صاحبها غير باطلة ـ حسب مشهور الفقهاء ـ ولكنها فاسدة، وما كان فاسداً فلا يؤجَر عليه صاحبه ولا ينبغي له أن يتوقع قبوله شرعاً.


:. من الذي يُفسد العبادة



ثم قد يتبادر سؤال إلى الذهن وهو: لماذا يقول الإمام سلام الله عليه في دعائه مخاطباً الله تعالى: «ولا تُفسد عبادتي بالعجب» فهل الله سبحانه هو الذي يُفسد عبادة الإنسان أم الإنسان نفسه هو الذي يفسدها باختياره؟

والجواب: إن معنى قول الإمام سلام الله عليه هو:
لا تتركني اللهم ولا تدعني وشأني فتَفسُد عبادتي بالعجب، ومثاله من واقع الحياة الشخص النازل من جبل ذي منحدرات قوية فإنه يكون معرّضاً للهويّ، إلا إذا كانت هناك ممسكات ومقابض يمسك بها، فإن الشخص يطلب وجود هذه المقابض لئلا يزلّ ويسقط، ويقول لمن لا يريد سقوطه: لا تسقطني في الوادي، ومقصوده: لا تدَعْني أسقط، وهكذا الحال في نسبة الإفساد والإضلال إلى الله تعالى، فإن العبد هو الذي يفسد ويضلّ إن لم يُرِد الله له الصلاح والهداية ﴿ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور﴾(9)، ولذلك كان على الإنسان أن يُلحّ على الله تعالى دائماً في أن يهيئ له أسباب الهداية وأن لا يدعه وشأنه وإلا فإنه هالك لا محالة.



ولكن ينبغي أن يُعلم أيضاً أن الله تعالى لا يفعل شيئاً عبثاً فهو لا يوفّر أسباب النجاة والهداية والصلاح أو يمنعها عن أحد دون حكمة وسبب، ومن أسباب التفاتِ الله للعبد الدعاءُ والعبادة.

إن الله تعالى يمتنع عليه العبث فهو الحكيم، بل الحكمة في ذات الله ومن ذات الله، والحكيم يضع الشيء في موضعه، والعقلاء يدركون ذلك ولا يتخطونه في حياتهم أو يحاولون أن لا يتخطّوه، فكيف بالله عزوجل وهو سيد الحكماء؟!


لو جاء إنسان عادي إلى الفقيه وسأله مسألة شرعية فالفقيه يعطيه جواباً يناسبه كأن يقول له: إنه واجب أو مستحب أو حرام أو مكروه، ولكن إذا كان السائل عالِماً فربما قال في جوابه: هناك رواية صحيحة السند عمل بها الفقهاء، ودلالتها تامة تقول كذا وكذا. فإذا كنا ندرك نحن هذا في مستوانا ونحاول أن نتصرف بحكمة ونعطي كلاً ما يناسبه، أفنتوقع أن لا يعاملنا الله بالحكمة فيأخذ بيد من لا يستحق، ويتخلّى عمن يستحق العناية حاشاه؟!



:. لله الحجة الكاملة والعبادة مطلوبة على كل حال



يروى أنه يجاء يوم القيامة بالرجل الحسن الذي قد افتتن بحسنه فيقول: يا ربّ حسّنت خَلْقي حتى لقيت من النساء ما لقيت. فيجاء بيوسف عليه السلام فيقال: أنت أحسن أو هذا، قد حسّناه فلم يفتتن؟ ويجاء بصاحب البلاء الذي قد أصابه الفتنة في بلائه فيقول: يا رب شددت علي البلاء حتى افتتنت. فيجاء بأيوب عليه السلام فيقال: أبليّتك أشدّ أو بلية هذا، فقد ابتلي فلم يفتتن؟(10).

وهاتان الحالتان ليستا من باب الحصر بل هما مثالان فيهما خصوصية وإلاّ فإن الشيء نفسه يصدق على كل فرد تشغله مسألة ما عن العبادة سواء كانت مسألة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو غيرها.



والأمر بعد ذلك بحاجة إلى دعاء وتوسل إلى الله تعالى، كما هو بحاجة إلى عزم وتصميم وسعي وطرد للشيطان ووساوسه وتثبيطاته. ثم: إن ههنا مطلباً آخر وهو أنه قد يحصل أن يريد الإنسان قراءة دعاء ما ـ كدعاء كميل رحمه الله في ليلة الجمعة مثلاً ـ ويغالبه النعاس أو ذهنه مشغول بأمر ما، فيتردد: هل الترك أفضل أم قراءة الدعاء مع حال اشتغال الذهن واللهو عن التوجه بعمق إلى مضامين الدعاء؟ هذا سؤال وُجّه لكثير من الفقهاء ومنهم والدي رحمه الله فكان يقول: عدم الترك أفضل في كلّ حال؛ لأننا إذا قلنا بترك الدعاء في مثل هذه الحالة فإن النفس ستبحث عن الأعذار مهما كانت ضعيفة واهية، أما إذا عُوّدت على الدعاء فسيأتي التوجه أيضاً.


:. العجب يُفسد كل شيء



إن العجب لا يفسد العبادة فقط بل يفسد كل شيء، فهو يفسد العلم والتقدم والصحة والأخلاق. فالعالم إذا كان عنده عجب بعلمه غفل عن نكات دقيقة لأنه يرى نفسه عالماً وتفوته نكات كثيرة كان سيلتفت إليها لولا غروره وإعجابه بعلمه، وهكذا المعجب بصحته قد يصاب بأمراض يحسب نفسه بعيداً عنها، والشيء نفسه يصدق بالنسبة للمعجب بأخلاقه.

أما العجب في العبادة فيعني خسران كلّ شيء، لأن الدنيا كلها لا تساوي شيئاً من دون العبادة، فإذا فسدت العبادة فماذا يبقى للإنسان بعد ذلك؟ فقد ورد في الروايات أن الدنيا كلها لا تساوي عند الله جناح بعوضة(11)، وهكذا يراها المؤمنون بالله عزوجل، من دون العبادة والقرب من الله تعالى. فكم سيعيش الإنسان في هذه الدنيا؟ حتى لو فرضنا أنه عاش مئات السنين بل آلاف السنين وأكثر يرفل بالصحة والعلم وغيرهما، فإنه سيرحل عنها إلى الآخرة، فإلى أين سيولّي وجهه في الآخرة إن لم تكن عنده عبادة أو كانت عبادته فاسدة بالعجب لا سمح الله.


ولهذا نرى التركيز على ضرر العجب في العبادة خاصّة على لسان الأدعية والروايات الشريفة.



فالعجب في العبادة أمر يردّه الإنسان ولا يرى له موجباً إذا التفت إلى نفسه أدنى التفاتة وتأمَّل قليلاً؛ فما هو الشيء الذي يعجب به العابد من عباداته؟ هل يعجب بصلاته وصومه وزكاته وصدقاته وكلها من الله تعالى؟!والصحة التي بسببها استطاع أن يعبده فهي منه أيضاً، وكذا العقل والفهم والشعور وما به عرف الله تعالى وأدرك وجوب طاعته وعبادته، وكلّ الوسائل التي مكّنته من أداء العبادة من الله تعالى. فالقدرة على أداء ألفاظ العبادة وحركاتها هي من الله تعالى، وهذا الالتفات والفهم الموجود عندنا من الله، وكذلك العلم والوسائل الأخرى كاليد والأعضاء التي بها نعبد الله هي منه تعالى أيضاً، فهل يحقّ لنا بعد ذلك أن نمنّ عليه في عباداتنا أو أن نعجب بها؟

هذه من جهة قصورنا وضعفنا وعجزنا، ناهيك إذا نظرنا إلى القضية من جهة عظمة الله تعالى ومقام ربوبيته التي لسنا ببالغيها، وما نعبّر عنها فبمقدارنا نحن وبمستوى ألفاظنا وتصوراتنا.



إن الله تعالى هو الذي يمنحنا الأموال ثم يطلب منا إقراضه، ويعدنا بأنه سيضاعفه لنا أضعافاً كثيراً.

فإذا كان كلّ شيء من الله، أفلا يكون عجب المرء بعبادته لله تعالى إسفافاً وأمراً مثيراً للعجَب؟ إذا تأمّل المرء قليلاً أدرك ذلك بسرعة، ولكنها الشهوات تحول بين المرء والتفاته إلى هذه الحقائق، وقد يمرّ على الإنسان ـ والعياذ بالله ـ عشرات السنين وهو غافل غير ملتفت؛ ومن ثم فهو يحتاج إلى الدعاء، وتعليم الإمام سلام الله عليه له بأن يتوجه إلى الله تعالى بالقول:
«وعبّدني لك ولا تُفسد عبادتي بالعجب».



:. ثلاث فوائد



وأخيراً نستفيد من عبارة الإمام سلام الله عليه: «وعبّدني لك ولا تفسد عبادتي بالعجب» ثلاثة أمور أو معانٍ. الأول: اجعلني مشغولاً بعبادتك؛ الثانية: تقبّلها مني؛ والثالثة: اتخذني عبداً، أي أنني أعبدك في مستواي ولكن اعتبر عبادتي في مستواك. ولمزيد من التوضيح نذكر المثال التالي لغرض التقريب إلى الذهن فقط:

إذا كان أحد الملوك يملك مئة من العبيد فهل هؤلاء كلهم في مستوى واحد من حيث ارتباطهم بالملك؟ كلا بالطبع، فبعضهم يعمل في البناء وبعضهم يقوم بالخدمة داخل القصر وبعض يكون واسطة بين الملك ووزرائه، إذن فالمستويات تختلف، ولكن المهم إن يكون عمل العبد مقبولاً لدى الملك وأن لا يزلّ فيطرده.



:. عبادة الله فخر وشرف



إذا كان شخص عبداً أو خادماً لمرجع أو تاجر أو حاكم أو موظف كبير في الدولة تراه يفتخر على الآخرين لأنه قريب من مصدر القوة أو المال أو الوجاهة، فكيف إذا كان عبداً لله تعالى؟ لا شك أن مثل هذا الإنسان لا تهمّه الدنيا ولا يخشى شيئاً أبداً، وحقّ له ذلك.

جاء رجل للإمام الصادق سلام الله عليه وقال: إني أرى من هو شديد الحال مضيّقاً عليه العيش وأرى نفسي في سعة من هذه الدنيا لا أمدّ يدي إلى شي‏ء إلا رأيت فيه ما أحب، وقد أرى من هو أفضل منّي قد صرف ذلك عنه، فقد خشيت أن يكون ذلك استدراجاً من الله لي بخطيئتي. فقال الإمام سلام الله عليه: أما مع الحمد فلا و الله(12).


نسأل الله سبحانه وتعالى ببركة الإمام السجاد وأهل البيت سلام الله عليهم أن يوفّقنا ويستجب لنا هذين الدعاءين أيضاً، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

--------------------------------------

(2)الشعراء، الآية 18 .
(3)النساء، الآية 125 .
(4)آل عمران، الآية 26 .
(5)مكارم الأخلاق، وصاياه صلى الله عليه وآله لأبي ذر، ص 464 .
(6)بحار الأنوار، ج 46 ، باب مكارم أخلاق الإمام السجاد وعبادته صلوات الله وسلامه عليه، ص 75، ح 65.
(7)راجع: وسائل الشيعة، ج 17 ، الباب 30 ، ص 157 .
(8)دعاء الصباح للإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، انظر: مفاتيح الجنان للشيخ عباس القمي رحمه الله.
(9)سورة النور، الآية 40 .
(10)بحار الأنوار، ج 7 ، ص 285 .

(11)روي عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله أنه قال: «يا علي إن الدنيا لو عدلت عند الله تبارك وتعالى جناح بعوضة لما سقى الكافر منها شربة من ماء...». من لا يحضره الفقيه، ج 4 ، ص 362 .