بحوث الأدب المقارن
الأدب المقارن - فرع من فروع المعرفة يتناول المقارنة بين أدبين أو أكثر ينتمي كل منهما إلى أمة، أو قومية غير الأمة أو القومية التي ينتمي إليها الأدب الآخر، وفي العادة إلى لغة غير اللغة التي ينتمي إليها أيضًا، وهذه المقارنة قد تكون بين عنصر واحد أو أكثر من عناصر أدب قومي ما ونظيره في غيره من الآداب القومية الأخرى، وذلك بغية الوقوف على مناطق التشابه ومناطق الاختلاف بين الآداب، ومعرفة العوامل المسئولة عن ذلك.
كذلك فهذه المقارنة قد يكون هدفها كشف الصلات التي بينها، وإبراز تفسير أحدها في غيره من الآداب، وقد يكون هدفها الموازنة الفنية أو المضمونية بينهما، وقد يكون هدفها معرفة الصورة التي ارتسمت في ذهن أمة من الأمم عن أمة أخرى من خلال أدبها، وقد يكون هدفها هو تتبع نزعة أو تيار ما عبر عدة آداب إلى آخره.
أما تأكيد بعض الدارسين المقارنين أن الأدب المقارن لا يعد الدراسات التي تجري بين نتاجات أديبين من قوميتين مختلفتين، ولكن لا توجب بينهما صلة تاريخية أو ثقافية لا يعدونها دراسة مقارنة، إذ يجب في رأيهم أن يكون ظاهرًا لدى من يقوم
بالمقارنة، أن الأدب القومي واقع تحت تأثير أدب أجنبي، واستفاد منه، وانتهج بعض أساليبه وجوانبه الفنية، وعليه أن يثبت كيفية التقاء هذين الأدبين، وزمن التقائهما ونوعية تأثير أحدهما في الآخر، وأن أهمية الأدب المقارن من ثم لا تقف عند حدود دراسة التيارات الفكرية، والأجناس الأدبية والقضايا الإنسانية في الفن، بل لا بد له أن يكشف عن جوانب تأثر الكتاب في الأدب القومي بالآداب العالمية، فهو تأكيد في غير محله، إذ الأدب المقارن لا ينحصر في دراسة التأثير والتأثر بين الآداب المختلفة، كما وضحنا، وإن كانت بعض مدارسه تشترط ذلك، وهي المدرسة الفرنسية ومَن يلفون لفها.
ذلك أن دراسة التأثير والتأثر بين مختلف الآداب إنما تمثل جانبًا واحدًا من جوانب بحوث الأدب المقارن، وفي هذه الحالة فإن الأدب المقارن كما يوضح أولئك المقارنون يدرس مواطن التلاقي بين الآداب في لغاتها المختلفة، وصلاتها الكثيرة المعقدة في حاضرها، أو في ماضيها، وما لهذه الصلات التاريخية من تأثير أو تأثر، أيًّا كانت مظاهر ذلك التأثير أو التأثر، سواء تعلقت بالأصول الفنية العامة للأجناس والمذاهب الأدبية أو التيارات الفكرية، أو اتصلت بطبيعة الموضوعات والمواقف والأشخاص التي تعالج أو تحاكى في الأدب، أو كانت تمس مسائل الصياغة الفنية، والأفكار الجزئية في العامل الأدبي، أو كانت خاصة بصور البلاد المختلفة، كما تنعكس في آداب الأمم الأخرى بوصفها صلات فنية تربط ما بين الشعوب والدول بروابط إنسانية تختلف باختلاف الصور والكتاب.
ثم ما يمت إلى ذلك بصلة من عوامل التأثير والتأثر في أدب الرحالة من الكتاب. ولعل أقدم ظواهر تبدل التأثير قد تمثلت في دراسة أثر الأدب الإغريقي في نظيره الروماني،
ويقرر بعض دارسي الأدب المقارن أن الانكسار العسكري لحضارة ما يمنحها الطاقة للتأثير الثقافي، كما حصل قبل ذلك في الحضارة السومرية، التي منحت إبداعها الثقافي لغيرها من الحضارات على الرغم مما منيت به من هزيمة عسكرية، وهو ما يذكرنا بما نقرؤه من أن روما مدينة لأثينا في كثير من إبداعاتها، رغم انهيار القوة العسكرية لتلك الأخيرة، وإلى هذا يعزى ظهور نظرية المحاكاة عند النقاد اللاتين في عصر النهضة الأوروبي.
ولكن بمجيء عصر النهضة التفت الأوروبيون مجددًا لتراثهم اليوناني اللاتيني بمساعدة الترجمات العربية، فعاد أدب عصر النهضة إلى نظرية المحاكاة، وبالتحديد إلى ما ساد الأدبين اليوناني واللاتيني من عناية بالإنسان ومشكلاته واقعيًّا بديلًا للرؤى الميتافيزيقية لأدب القرون الوسطى، وكان أوضح عمل في بداية القراءات الأولى، التي تدخل في الأدب المقارن قراءة الشاعر الناقد دورًا في القرن السادس عشر من جماعة الثريا الفرنسية، الذي قدم المحاكاة عمليًّا مشيرًا إلى تأثير اليوناني في اللاتين، مثل تأثير الخطيب اليوناني "دي موسيه" في "شيشرون"، وتأثير "هوميروس" في "يورجيل"، وتأثير "بنداروس" في "هوراس".
ويشمل التأثير والتأثير كثيرًا من الموضوعات الأدبية، فقد يتعلق بأديب من الأدباء، وقد يتعلق بموضوع أدبي، وقد يتعلق بأسلوب لُغوي، وقد يتعلق بشكل فني، وقد يتعلق باتجاه فكري، وقد يتعلق بجنس من الأجناس الأدبية، وقد يتعلق بقواعد تخص هذا الجنس أو ذاك، وقد يتعلق بنموذج أو شخصية أدبية إلى آخره.
ويتناول الباحثون في الأدب المقارن هذا الموضوع الأدبي أو ذاك، فيتابعون انتقاله من أدب إلى آخر محاولين معرفة الطريق التي سلكها في رحلة الانتقال، والعوامل المسئولة عن ذلك الانتقال، ومسجلين ما يطرأ عليه من تحويرات أو تعديلات.
ومع هذا يشير الباحثون في الأدب المقارن إلى أن هناك موضوعات تقليدية غاب أصلها الأدبي في غياهب الزمن، فلم نعد نعلم عن انتقالها من هذا الأدب إلى ذاك شيئًا، وذلك مثل: أسطورة خاتم سليمان، وأسطورة طاقية الإخفاء، وأسطورة الشحاتة الطيبة الجميلة التي تتزوج ملكًا، وفي كل موضوع من تلك الموضوعات نجد تفصيلات يضيفها كل كاتب إليه، فتعطيه نكهته التي يتميز بها عن معالجة مبدع آخر لذات الموضوع.
وتقوم المقارنة الأدبية هنا بتبيان الفروق ووجوه الاتفاق والاختلاف بين المعالجات المختلفة لذلك الموضوع، ويؤكد الدارسون المقارنون عن حق أن التأثر بإبداعات الآخرين لا يعد عيبًا، فالحياة قائمة على التعاون والأخذ والعطاء، وليس هناك مبدع يأتي بإبداعاته من الفضاء الخارجي، بل الكل يعتمد على الكل إن صح التعبير، وفي تلك الإضافات والتفصيلات يمكن أن تكمن العبقرية الإبداعية، وفي وسع الدراسات المقارنة أن تتناول مثلًا موضوع الغيرة، أو الانتقام أو التضحية في سبيل الواجب، أو بعض العادات أو السلوكيات أو المعتقدات أو القيم، فتلقي ضوءًا قويًّا كاشفًا على عبقرية الكتاب الذين تناولوا هذا الموضوع.
لنأخذ مثلًا مسرحية "فاوس" لـ"جوته"، حيث نرى "فاوس" في أول المسرحية شقيًّا كل الشقاء بعقله ويهم بالانتحار، ثم يتولد فيه الأمل ويأخذ في نشدان السعادة عندما يبدأ في التفكير في المستقبل، ويظل على هذا طوال الجزء الأول من المسرحية، وينتهي هذا الجزء بنجاة "مارجريت" منه ومن روح الشر المسيطرة
عليه، وتفضل البقاء في السجن والبعد عن حبيبها، وفي الجزء الثاني يظل "فاوس" منغمسًا في تجارب الحياة المادية إلى أن يتعرف على "هيلين"، رمز الجمال الخالص فيهتدي عن طريقها إلى الخير والعفة والفضيلة، وهذه القصة نفسها تمثل المحور العام لمسرحية "شهرزاد" لتوفيق الحكيم، إذ هي أيضًا تعالج قضية الصراع بين العقل والقلب، مما يوضحه تأثر توفيق الحكيم بـ"جوته"، كما لاحظ الدارسون المقارنون الذين عكفوا على دراسة هذين العملين.
ونفس الأمر نجده عند اللور "بيرن" في مسرحية "مانفرد"، التي نُشرت عام ألف وثمانمائة وسبعة وثمانين، والتي تأثر فيها الشاعر الإنجليزي من بعض الوجوه بمسرحية نظيره الألماني، إذ يظهر الساحر "مانفرد" فريسة لليأس والندم بسبب حب آثم قضى على محبوبته، فيحاول استدعاء أرواح الأرض والسماء؛ لنجدته، إلا أنها تعجز عن أن تهبه نعمة النسيان، فيحاول الانتحار لكن يتم إنقاذه، ورغم ذلك يأبَى الخضوع للأرواح الشريرة، ثم يظهر شبح المحبوبة التي تأبى أن تغفر له ما صنعه معها، وتتنبأ بموته في الغد، وفي لحظة الموت تظهر أرواح الشر، فيرفض أن يخضع لها كما رفضت "مارجريت" في مسرحية "فاوس" أن تخرج من سجنها جزعًا من روح الشر، ويلعن "مانفرد" الشياطين؛ لأنه لا يصح المعاقبة على الجرائم بجرائم مثلها، فعذاب الضمير أبشع من عذاب الجحيم.
وهناك أيضًا مسرحية "أوديب الملك" التي كتبها الشاعر اليوناني "سوفوكليس" في القرن الخامس قبل الميلاد، وموضوعها سلطان القدر الساحق الذي قد يحول انتصارات المرء إلى هزائم، وهزائمه إلى انتصارات، والموضوع الذي تدور عليه مسرحية أوديب عبارة عن أسطورة يونانية شهيرة، وقد تأثر توفيق الحكيم بتلك المسرحية في مسرحية "الملك أوديب" التي نشرها سنة ألف وتسعمائة وتسع وأربعين ميلاديًّا.
ولكن إذا كان "أوديب سوفوكليس" يعاني من مشكلة البحث عن الحقيقة، فإن أوديب توفيق الحكيم كما نبه إلى ذلك الدارسون الذين قاموا بالمقارنة بين المسرحيتين، يعاني من مشكلة الصراع بين الحقيقة والواقع، وقد دخل الأديب الحضرمي المصري علي أحمد باكثير على الخط، فألف هو أيضًا مسرحية بعنوان "أوديب" ذاكرًا أن هدفه من كتابتها هو محاولة تشخيص المشكلة الفلسطينية، وإن حوى العمل إلى جانب هذا هجومًا على البدع التي أخذت تشيع في البيئات الإسلامية منذ العصر الفاطمي، ويقوم على الترويج لها طبقة من المتاجرين باسم الدين.
وفي نفس السياق نجد مسرحية "بكماليون" التي نشرها توفيق الحكيم سنة ألف وتسعمائة وثلاث وأربعين ميلادية، وتأثر فيها بمسرحية تحمل ذات الاسم للكاتب الأيرلندي "برناردشو"، وإن أدار توفيق الحكيم عمله حول فكرة التردد بين مثالية الفن وواقع الحياة عكس "برناردشو"، الذي طرح مشكلة الطبقية، وبالمناسبة فمن الممكن أن يدرس الأدب المقارن مثل هذه التأثيرات في أي مجال من مجالات الإبداع الأدبي، علمًا بأن بعض المقارنين الأدبيين قد وصل بنواحي التأثير والتأثر إلى عدد يصعب إحصاؤه..