التوبة في الصحيفة السجّاديّة.
وَرَدَ ذكر التوبة في الصحيفة السجادية في مواضع عديدة، بعضها كان خاصاً بذكر التوبة كالدعاء الخاص بذكر التوبة وطلبها كقولهِ :
(اللَّهُمَّ إني أتوبُ إليك في مقامي هذا من كبائر ذُنوبي وصغائرها، وبواطن سيئاتي وظواهرها، وسوالِف زلاتي وحوادثها، توبة من لا يحدث نفسه بمعصيةٍ ، ولا يضمرُ أنْ يَعُودَ في خطيئته، وقد قلت يا إلهي في محكم كتابك إنك تقبل التوبة عن عبادِك، وتعفو عن السيئات وتحب التوابين).
وكقوله في مناجاة التائبين: (إلهي أنت الذي فتحت لعبادك باباً إلى عفوكَ سمّيته التوبة، فقلت توبوا إلى الله توبةً نصوحاً، فما عذر مَنْ أغفل دُخُولَ الباب بعد فتحهِ).
وبعضها الآخر كان في مواضع عامة، مندرجاً ضمن أدعية الصحيفة السجادية ومناجياتها، كقوله في دعاء التحميد لله عز وجل الثناء عليه:
(الحمد لله الذي
دَلَّنا على التوبة التي لم نفدها إلَّا من فضله، فلو لم تعت..... من فضلهِ إلا بها، لقد حَسُنَ بلاؤُه عندنا وَجَلَّ إحسانُهُ إلينا وجسم فضَلهُ علينا، فما هكذا كانت سنته في التوبة لمن كان قبلنا، لقد وَضَعَ عَنّا ملا طاقة لنا به، ولم يُكَلَّفْنا إلا وُسعاً، ولم يجشمنا إلا يُسراً، ولم يَدَعْ لأحدٍ منا حُجَّة ولا عذرا).
فالذي يطّلع على هذه المواضع يتبين له مدى اهتمام الإمام زين العابدين بمسألة التوبة كونها قضية مهمة في حياة العبد.
والتوبة في اللغة تعني الرجوع والإنابة، يقال: تاب فلان، أي رجع عن ذنبه فهو تائب، وتنسب للعبد تارة ولله تارة أخرى، وعند انتسابها للعبد يقصد بها رجوعه إلى ربه، عن المعصية إلى الطاعة، نادماً متألماً لفوات المطلوب متأسفاً من فعل الذنوب.
أما انتسابها إلى الله تعالى، فالمراد به رجوعه جلّ ذكره على عبده من العقوبة إلى العفو واللطف والتفضل عليه بقبول توبته والصفح عن زلَتهِ.
أما التوبة شرعاً: (فهي الرجوع إلى صراط الله المستقيم بعد الانحراف عنه) المكاسب: الشيخ الانصاري ص335.
وهي ع** الإصرار على الذنب والجريمة ومن هذا المنطلق عرّفها علماء الاخلاق بقولهم: (هي ترك المعاصي في الحال والعزم على الابتعاد عنها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير في حق الله وحقوق الآخرين).
روي عن أبي بكير عن زرارة عن الإمام الباقر قال: (ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنباً خرج من النكتة البيضاء نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد وإن تمادى في الذنوب زاد السواد حتى يغطّي البياض فإذا تغطّى البياض لم يرجع صاحبهُ إلى الخير أبداً، وهو قول الله عز وجل: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
ومعنى هذا إن الإنسان إذا تنبه قبل أن يستوعب الظلمُ والسوادُ القلب كلّه، ثم اختار منزلة اليقظة ودخل منزلة التوبة واستوفى شروطها، وعاد إلى حالته الفطرية الأصلية، وكأنما تنقلّب النفس إلى صفحة خالية من جميع الكمالات وأضدادها، وهذا ما ورد في الحديث الشريف عن رسول الله: (التائب من الذنب كمن لا ذنب له).
والملاك الذي شُرعتْ لأجله التوبة هو التخلّص من هلاك الذنب وبوار المعصية لكونها وسيلة الفلاح ومقدمة الفوز بالسعادة، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ).
ولا يزال الإنسان على ما نعرف من غريزته على نشاط الروح الفعالة وجدٍّ في العزيمة والسعي، مالم تخسر صفقته في الحياة، وإذا بدا له ما يخسر عمله ويخيب سعيه ويبطل أمنيته استولى عليه الياس وانسلت به أركان عمله وربما أنصف بوجهه عن مسيره آيساً من النجاح خائباً من الفوز والفلاح.
فالتوبة هي الدواء الوحيد الذي يعالج داءهُ ويحي قلبه، وقد أشرف على الهلكة والردى.
وللتوبة أركان وشروط، وهذا ما جاء في قول أمير المؤمنين الإمام علي لقائل قال بحضرتهِ (استغفر الله): (ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين، وهو أسم واقع على ستة معان:
أولها: الندم على ما مضى.
والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أنْ تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.
والرابع: أنْ تعمد إلى كل فريضة عليك ضيّعتها فتؤدي حقّها.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبهُ بالإحزان حتى تلصق الجلد بالعظام وينشأ بينهما لحمٌ جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول استغفر الله.
فهذا الحديث يشمل على ركنين من أركان التوبة هما الندامة والعزم على ترك العودة إلى الذنب وعلى شرطين للقبول هما:
الأول: إرجاع حقوق المخلوق لأهلها، والثاني: أداء حقوق الخالق سبحانه.
وأما الأمران الأخيران فهما من شروط كمال التوبة، أي أن التوبة الكاملة لا تتحقق ولا تقبل من دونهما.
وهذا ما أراد أن ينبهنا إليه الإمام السجاد من خلال هذه الدعائيات والمناجيات، فلقد أنار بأدعية الصحيفة السجادية العقول وأيقظ الأُمة من سباتها وحررها من جمودها، فهي كالقبس المنير استلهم فيه التراث المحمدي العلوي والفكر الحسيني ورشده وإصلاحهِ وهديهِ.
____________