بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
هو الحنين يشعل الروح ويسرق القلب إلى ذلك البيت الصغير، هناك حيث تسكن امرأة عزيزة مع خيرة رجال الأوّلين والآخرين.
مرّت الأيام، وحملت خديجة (رض)، فكانت إذا ما ألمّ بها الأسى حدّثها الجنين وصبّرها إلى أن دخل الرسول يوماً فسمعها تحدّث الجنين، فسألها:" يا خديجة من تحدّثين؟"
أجابت: "الجنين الذي في بطني يحدّثني ويؤنسني".
وهنا حلّت بشارة السماء، وحلّت معها بحور فيض من النورانية تزفّ إلى هذه الدّار بشرى الولادة الميمونة لابنة طاهرة زكيّة، إذ قال الرسول (ص) لأهله: " يا خديجة، هذا جبرائيل يخبرني أنها أنثى، وأنها النّسلة الطاهرة الميمونة، وأن الله تبارك وتعالى سيجعل نسلي منها، وسيجعل من نسلها أئمة، ويجعلهم خلفاءه في أرضه بعد انقضاء وحيه".
توالت شهور الحمل وخديجة لم تزل على حالها إلى أن حضرت ولادتها، فأرسلتْ إلى نساء قريش وبني هاشم بالمجيء لتولّي شأن ولادتها، إلا أن هؤلاء النسوة اللاتي ترشح نفوسهن بحميّة الجاهلية، ما رقّت قلوبهنّ القاسية لضعف حالها، ورفضن طلبها وتركنها بلا معين فاغتمّت لذلك، لكنها ما وهنت وما آيست من رحمة ربّ لطيف، وكأن روحها قد ساقتها إلى ملكوت السماوات، وتفيّأت تحت ظلّ عرش الله ترجو أن يهبها ربّها سَرِيّا (1) من تحنانه وعطفه، ويغدق عليها من فيض كرمه ما يبلسم جراحها ويجبر كسرها... وكان الله عند حسن ظنّها، إذ أرسل إليها أربعة نسوة سمرٍ طوال، ففزعت منهن لمّا رأتهن، فقالت إحداهن: "لا تحزني يا خديجة، فإنّا رسُلُ ربِّك إليك، ونحن أخواتك، أنا سارة، وهذه آسيا بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعَثنا الله إليك لنلي منك ما تلي النساء من النساء، فجلست واحدة عن يمينها، وأخرى عن يسارها، والثالثة بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت فاطمة (ع) طاهرة مطهّرة. فلمّا سقطت إلى الأرض أشرق منها النّور حتى دخل بيوتات مكّة، ولم يبق في شرق الأرض ولا غربها موضع إلاّ أشرق فيه ذلك النّور...".
وفي غمرة هذا الحدث العظيم، أصبحت الدنيا تزهو فرحاً، وكأن كل ذرّات الوجود تسبّح الخالق المنّان وتشكره على نعمة عطائه، وتشدو بأن أزهرت فاطمة (ع)، فغدت هذه الدّار محطاً لأهل السماء.. ". ودخل عشر من الحور العين، كلّ واحدة منهنّ معها طست من الجنّة وإبريق من الجنّة، وفي الإبريق ماء من الكوثر، فتناولتها المرأة التي كانت بين يديها فغسلتها بماء الكوثر (تناولتها من بين يدي خديجة وغسلتها بماء الكوثر)، وأخرجت خرقتين بيضاوين أشدّ بياضاً من اللّبن، وأطيب ريحاً من المسك والعنبر، فلفّتها بواحدة، وقنّعتها بالثانية، ثم استنطقتها فنطقت فاطمة عليها السلام بالشهادتين وقالت:" أشهد أن لا إله إلا الله، وأن أبي رسول الله سيد الأنبياء، وأن بعْلي سيّد الأوصياء، وولدي سادة الأسباط، ثم سلّمت عليهنّ وسمّت كلّ واحدة منهنّ باسمها، وأقبلن يضحكن إليها، وتباشرت الحور العين، وبشّر أهل السماء بعضهم بعضاً بولادة فاطمة عليها السلام، وحدث في السماء نور زاهر لم تره الملائكة قبل ذلك وقالت النّسوة: خذيها يا خديجة طاهرة مطهّرة زكيّة ميمونة، بورك فيها وفي نسلها..." (2)، فتناولتها فرحةً مستبشرة وكأنّها تلهج من أعماق وجودها وإني وضعتها أنثى، أنثى ملكوتيّة، حوراء إنسيّة، طفلة صغيرة تشرق من عينيها الحانيتين أنوار الجمال الإلهي، فهي مظهر لحنانه وعطفه تعالى شأنه، تثلج القلوب الحرّى، وتطفئ نيران عصاة الشيعة، فسُمّيت فاطمة لأنّها بحنوِّها تفطمهم من النار.
هي كطائر سماوي يحلّق في فضاء العشق الإلهي، وهي كنسمة خفيفة رقيقةٍ عطرة تفوح في أنحاء الدنيا فتملؤها جمالاً وجلالا. هي بصفة أبيها محمد (ص) الذي كلما اشتاق لريح الجنّة شم ريحها، وهي ثمرة فؤاده وروحه التي بين جنبيه، والتي مهما تعالت الكلمات وتسامت يبقى اللسان عاجزاً عن وصفها وإيفائها حقّها، فبوركت الزهراء (ع) من صدّيقة طاهرة تفوح بعبق النّبوة والولاية، وتضيء للخلق ظلمات الطريق على امتداد العمر.
---------------------
1- سريّا: جدول ماء.
2- الأمالي للصدوق: مجلس 87، ج1، ص 594.