الفنان البلجيكي ثيـو فـان ريسـلبـيرغ، 1926
بورتريه زوجة الرسّام أو سيّدة بفستان ابيض
هذه اللوحة تُعتبر مثالا على الأسلوب "التنقيطي" "أو التجزيئي" في الرسم والذي كان ينحو باتجاه تجزئة الألوان على رقعة الرسم ووضعها على هيئة نقاط متجاورة.
كان التنقيطيون "أو التجزيئيون"، أو "الانطباعيون المتأخّرون" كما يُسمّون أحيانا، يعتقدون أن مزج الألوان أمر غير ضروري وأن استخدام نقاط من الألوان النقيّة جنبا إلى جنب من شأنه أن يحقّق أقصى قدر من التألّق واللمعان والتناغم مع حالات الضوء وبحيث تظهر النقاط في النهاية وكأنها تختلط وتمتزج في عين المتلقّي لتشكّل صورة كلّيّة.
وقد تزامنت ولادة هذه الحركة مع ظهور نظرية الألوان التي وضعها ميشيل شيفرول وغيره من منظّري أواخر القرن التاسع عشر. ولعبت هذه النظرية دورا مهمّا في تشكيل أسلوب الرسّامين التنقيطيين.
الرسّام ثيو فان ريسلبيرغ كان احد أهمّ الرسّامين التنقيطيين أو ما بعد الانطباعيين. وقد لعب دورا مركزيّا في الساحة الفنّية الأوروبية في مطلع القرن العشرين. وهو معروف على وجه الخصوص بأعماله التي رسمها خلال مرحلته التنقيطية.
كان ريسلبيرغ متمرّدا على التقاليد الأكاديمية التي عفا عليها الزمن وعلى المعايير الفنّية التي كانت سائدة في وقته. ومن بين أبرز زملائه من ذوي النزعة المتمرّدة أيضا كلّ من جيمس إنسور وفرناند كنوبف وبول سينياك وجيمس ويسلر.
وقد تبنّى ريسلبيرغ الأسلوب التنقيطي بعد أن رأى لوحة "يوم أحد في جزيرة لاغران جات" للرسّام الفرنسي جان بيير سُورا.
وشكّلت تلك اللوحة بداية هذه الحركة عندما عُرضت لأوّل مرّة في صالون الرسّامين المستقلّين في باريس عام 1886. في ذلك الوقت، كان العديد من الرسّامين يبحثون عن أساليب جديدة. وكان أتباع التنقيطية أو الانطباعية المتأخّرة منجذبين لتسجيل تفاصيل الحياة الحضرية الحديثة، فضلا عن المناظر الطبيعية والحياة على الشواطئ.
في تلك الفترة أنجز ريسلبيرغ أعظم أعماله التي تلفت النظر وتبرهن على قدرته في توظيف الألوان والتقاط تأثيرات أشعّة الشمس. في لوحته هنا يرسم ريسلبيرغ زوجته ماري وهي جالسة في حديقة منزلهما على شاطئ الكوت دازور.
وتبدو الزوجة وهي ترتدي قبّعة عريضة وفستانا ابيض وعلى وجهها نظرات تأمّل واسترخاء.
لاحظ كيف أن الفنّان ركّز على الأضواء والألوان. التقنيّات النقطية موظّفة هنا بوضوح على الفستان والقبّعة. لكن الرسّام يمزج هذا مع لمسة واقعية. وعندما رسم هذا البورتريه كان معلّمه سورا قد توفّي وبدأ هو في التخلّي شيئا فشيئا عن التقنيات النقطية والتحوّل إلى أسلوب فنّي أكثر مرونة وواقعية.
في بدايات الحركة التنقيطية، أي حوالي عام 1886، لم يرحّب بها النقّاد أو الجمهور. لكنها استمرّت وانتشرت، وإن على نطاق ضيّق، حوالي خمس سنوات. وعندما توفّي مؤسّسها جورج سورا في عام 1891 لم تتوقّف الحركة بل واصلت تطّورها على مدى السنوات العشر التالية وأصبحت تعبّر عن أفكار سياسية واجتماعية. وكان من أهمّ رموزها، بالإضافة إلى ريسلبيرغ وسورا، كلّ من هنري ادمون كروس وماكسيميليان لوك وبول سينياك ويان توروب.
ولد ثيو فان ريسلبيرغ عام 1862 في إحدى مقاطعات بلجيكا الناطقة بالفرنسية لعائلة برجوازية. ودرس في الأكاديمية الملكية للفنون الجميلة في بروكسل تحت إشراف جان فرانسوا بورتيل. كانت لوحات بورتيل عن طبيعة وشعوب شمال أفريقيا قد دشّنت الموضة الاستشراقية في بلجيكا. وكان لهذه الأعمال تأثيرها الكبير على ريسلبيرغ. لذا قام بثلاث رحلات إلى بلدان المغرب العربي في ما بين عامي 1882 و 1888 ومكث هناك عاما ونصف رسم خلالها مشاهد خلابة لحيّ القصبة في الجزائر ولمدينتي مكناس وطنجة المغربيتين.
وقد فتحت تلك الرحلة أمامه عالما جديدا، إذ المغرب قريبة من أوروبّا، لكنّها مختلفة عنها تماما من حيث العادات والتقاليد.
وعندما عاد إلى بلجيكا، عرض فيها حوالي ثلاثين عملا من رحلته تلك. وحقّقت تلك اللوحات نجاحا واضحا، خاصّة لوحتيه "مدخنّو الكيف" و"بائع البرتقال". كما عرض لوحته الضخمة والغريبة فانتازيا عربيّة التي تُعتبر من أفضل أعماله التي رسمها في تلك الفترة.
ثم سافر ريسلبيرغ بعد ذلك إلى اسبانيا بصحبة الرسّام الأميركي جون سينغر سارجنت. وفي اسبانيا أعجب بأعمال الرسّامين العظام التي رآها في متحف برادو بمدريد. وبوحي من تلك الرحلة رسم عدة لوحات عن أجواء اسبانيا.
ولأن التمثيل الدقيق للضوء كان ما يزال هاجسا يسكن عقله، فقد سافر ريسلبيرغ إلى هارلم لدراسة الضوء في أعمال الفنّان الهولندي فرانز هولس. وفي هارلم التقى الرسّام الأميركي المشهور وليام ميريت تشيس.
وفي عام 1895، بدأ الرسّام رحلة طويلة أخذته إلى أثينا والقسطنطينية والمجر ورومانيا وموسكو وسانت بطرسبورغ. وبعدها بعامين، انتقل إلى باريس حيث تعرّف على العديد من الأسماء اللامعة في المشهد الفنّي هناك مثل ألفريد سيسلي وبول سينياك وإدغار ديغا وهنري تولوز لوتريك وغيرهم.
—
منقول