يوم الوداع
السبت 19/جمادى الأولى/1400هـ (5/4/1980م)
وبعد أن تمّ استدعاء الشهيد الصدر للمثول في مديريّة الأمن في بغداد دخل إلى داره فاغتسل بنيّة غسل الشهادة، وصلّى لربّه ركعتين، [وبدّل ملابسه]، ثمّ اتّجه إلى والدته المذهولة والمكروبة، وأخذ يدها وضمّها إلى صدره بين يديه، ثمّ رفعها إلى فيه يلثمها في حنوٍّ، حادباً على أمِّه، يرجو الرضا والدعاء وطلب التسديد.
ثمّ احتضن جميع من في البيت يضمّهم ويقبّلهم، فعلموا من خلال تصرّفه أنّه الوداع الأخير. وعندما أراد احتضان ابنته الثانية ـ ابنة الخامسة عشرة ـ لم تحتمل ذلك وأشاحت بوجهها، واتّجهت نحو الجدار، وأحنت رأسها عليه وهي تبكي بكاءً مريراً، فأحاطها والدها بذراعيه، وصار يناجيها: «حلوتي! ابنتي! [إنّ كلّ إنسان يموت، وللموت أسباب عدّة، فيمكن أن يموت الإنسان بسبب مرض، أو فجأة على فراشه، أو غير ذلك، ولكنّ الموت في سبيل الله أفضل بكثير وأشرف، ولو أنّني لم أقتل بيد صدّام وجماعته فقد أموت بمرض أو بسبب آخر].. إنّ أصحاب عيسى نشروا بالمناشير، وعلّقوا بالمسامير على صلبان الخشب، وثبتوا من أجل موتٍ في طاعة. لا تكترثي يا صغيرتي، فكلّنا سنموت، اليوم أو غداً، وإنّ أكرم الموت القتل. بنيّتي! أنا راضٍ بما يجري عليّ، وحتّى لو كانت هذه القتلة ستثمر ولو بعد عشرين سنة، فأنا راض بها».
وبهذه الكلمات انفجر ما كان مكبوتاً في النفوس، وانهمرت الدموع. وعندما حان دور زوجته السيّدة فاطمة، ووقف أمامها شاخصاً ببصره إليها، جمد الدم في عروقها، وتصلّبت عيناها على محيّاه، فرأته قد استنار وجهه، واعتدلت قامته.. اقترب منها وقال لها هامساً: «يا أخت موسى! بالأمس أخوك، واليوم النديم والشريك والحبيب، اليوم أنا.. لك الله يا جنّتي ويا فردوسي، تصبّري، إنّما هي البيعة مع الله، قد بعناه ما ليس بمرجوع، وهو قد اشترى سبحانه.. يا غريبة الأهل والوطن! حملك ثقيل، ولك العيال. أسألكِ الحِلّ.. فأولئك هم سود الأكباد على بابكِ ينتظرون، وما من مفر.. أنا ذاهب، وعند مليك مقتدر لنا لقاء..» ، ثمّ أوصاها قائلاً: «انتظري ثلاثة أيّام، فإن لم أعد فاذهبي مع والدتي وأطفالي إلى بيت أخي السيّد إسماعيل في الكاظميّة»، وأوصاها بالتزام التقيّة وعدم التحرّك ضدّ السلطات حرصاً على سلامتها وسلامة الأطفال. وكانت المرّة الوحيدة التي يودّعهم فيها من بين الاعتقالات التي تعرّض لها.
ثمّ توجّه للخروج، فكانت أخته بنت الهدى بانتظاره تحمل القرآن الكريم، فمرّ من تحته ثمّ قبّله بهدوء وخرج، وقال لمدير أمن النجف: «هيّا بنا نذهب إلى بغداد»
السلام عليك يوم ولدت ويوم أستشهدت ويوم تبعث حيًا
إلتماس دعاء