الحياة حكايات...الأوسمة والأنواط
تخرجت من كلية الشرطة في عام 1969 الدورة (23 ) وكان للرتبة التي يحملها الضابط سواء في مجال الخدمة في الجيش أو قوى الأمن الداخلي معنى وطعم خاص يجعل حامله يشعر بالزهو والفخر والاعتزاز بالنفس كما أنه يملي عليه التصرف وفق نمط محدد بضوابط تجعل غير الملتزم بها في مجال المساءلة القانونية والإدارية والاجتماعية.
كنت وزميلي الملازم ( حسين علي العبوسي) خريجي دورة واحدة وقد نسبنا في عام 1970 في شعبة المشاور القانوني في آمرية قوة الشرطة السيارة في بغداد وكان تشكيلا عسكريا مشابها لوحدات أفواج المشاة الخفيفة في الجيش العراقي أو ما يسمى في بعض البلدان بالشرطة العسكرية.... كنا كبقية الضباط في ذلك الزمن نهتم بهندامنا وقيافتنا العسكرية باستمرار لأنها كانت تشكل جزءا من شخصية الضابط ومكانته بين أقرانه والمجتمع , في احدى جولاتنا في شارع الرشيد والذي كنت في أغلب الأحيان أقطعه ذهابا وايابا سيرا على الإقدام من الباب الشرقي ولنهاية الشارع وبالعكس ,
صالة سينما الخيام
حيث الاستمتاع بمناظر المحلات والمعارض ودور العرض ( السينمات) المنتشرة على جانبيه تجعلك لا تشعر بالتعب وطول المسافة.
ملازم الشرطة حسين علي العبوسي
مررنا على سوق السراي وبالضبط الفرع الخاص ببيع الملابس واللوازم العسكرية , وفي احدى المحلات كانت معروضة مجموعة متنوعة من الأنواط والأوسمة العسكرية وبألوان وأشكال جميلة جذابة وكنا نشاهدها تزين صدور الضباط ,
اقترحت على زميلي العزيز أن نشتري بعضا منها وقع اختيارنا على خمسة أنواط تميزت بتناسق ألوانها وخطوطها متناسين أو لم نأخذ بالحسبان استحقاقنا القانوني لحملها وكانت الأنواط هي وحسب شرح البائع ( نوط فلسطين , نوط الخدمة, نوط السلام, نوط الفيضان, نوط الشمال).
ملازم الشرطة محي الدين محمد يونس
في اليوم التالي حضرنا إلى الدوام وكان زميلي مرتديا الثياب العسكرية الكاملة ( قيافة خارجية) وقد وضع الأنواط التي اشتريناها قبل يوم على صدره , اما أنا ولحسن الحظ فقد حضرت إلى الدوام ولم أكن متهيأ لارتداء القيافة الكاملة وشد الأنواط عليها.
كانت المفاجئة ومع بداية الدوام هي دخول أمر القوة ( اللواء عبد الوهاب نوري ) إلى غرفتنا والذي كان من عادته القيام بجولات تفتيشية على أقسام الدائرة وكان ضابطا حازما عادلا ومشهود له بالخبرة والكفاءة , يهابه جميع منتسبي الدائرة , بعد ان امعن النظر في جميع انحاء الغرفة ومحتوياتها ركز نظره على صدر زميلي ( الملازم حسين) مستفسرا منه :
(( ابني شنو هاي الأنواط اللي شايلها على صدرك : تكدر تعددلي ياها ))
الملازم حسين (( وهو يشير إلى النوط الأول)) سيدي هذا نوط فلسطين
الآمر (( اشجابك على فلسطين ارفع هذا النوط ما تستحقه))
الملازم حسين: (( سيدي وهذا النوط الثاني هو نوط الخدمة))
الآمر (( هذا النوط ما يحقلك تحمله , لأنك ضابط جديد وخدمتك القصيرة ما تؤهلك لحمل هذا النوط))
الملازم حسين: (( وهذا النوط الثالث نوط السلام , نوط 11 آذار ))
الآمر (( خلي هذا النوط لإنك تستحقه ))
الملازم حسين: (( سيدي وهذا النوط الرابع هذا نوط الفيضان))
الأمر: (( هذا النوط منح للمساهمين في درء خطر الفيضان عن بغداد في عام 1954 , وهذا النوط أيضا لا تستحقه))
الملازم حسين: (( وهذا النوط الخامس هو نوط الشمال ))
الآمر (( وهذا النوط منح للعسكريين ورجال الشرطة المساهمين في حركات الشمال في عام 1961 , وهذا أيضا ما تستحقه. أرفع الأنواط الأربعة وبقي نوط السلام))
الملازم حسين: (( امرك سيدي ))
وقبل أن يترك الغرفة التفت إلى منضدتي مكتبينا فشاهد فوقها أوراق وأضابير كثيرة فتسائل (( شنو أنتم ما تشتغلون , شنو هذا البريد اللي أمامكم))
فأوضحنا له كثرة المعاملات وأننا لا نقصر في أعمالنا وبعض هذا المعاملات ننتظر إجابات عنها , ترك الآمر غرفتنا فتنفسنا الصعداء إلا أنني لم استطع السيطرة على نفسي ضاحكا وأنا اتخيل زميلي وهو يضع نوط واحد فقط على صدره وهو منظر غير مألوف.
وأخيرا وما دمنا نتحدث عن الانواط والاوسمة وهو سياق متبع في جميع دول العالم إلا أنه من الملاحظ تأثر أنواع وأعداد الاوسمة والأنواط في العراق بالوضع السياسي غير المستقر والأحداث والانقلابات والحروب التي شهدها العراق منذ تأسيسه في عام 1921 فيتم تبعا لهذه التغييرات استحداث أو إلغاء البعض منها وفي بعض الأحيان تصبح دليل إدانة لحامله والذي ربما يحاول اخفائه وعدم التصريح بحصوله عليه , في حين أن الأوسمة والأنواط من المظاهر التي تمنح الزي العسكري رونقا وحامله قيمة معنوية تميزه عن الأخرين .
شارع الرشيد – بغداد في السبعينات
وفي ختام حكايتنا لا بد أن نذكر بأن السيد آمر قوة الشرطة السيارة ( اللواء عبد الوهاب نوري) وخلال جولة جديده له لقاطعنا وبعد أن انذرنا الشرطي الواقف أمام باب الغرفة بقدومه قمنا أنا وزميلي برفع جميع الأوراق والأضابير الموجودة على منضدتينا , وعند دخوله الغرفة ومشاهدته لمحتوياتها ونظره الى المنضدتين قال :
(( شنو ما عدكم شغل لازم واحد منكم زايد!!؟ )).
كاردينيا