Monday 9 april 2012
مليار من البشر يعيشون في القاع
4 قضايا أساسية تتحكم في أوضاع الفقراء
لأن الاقتصاد يرتبط بالسياسة، ولأن ظاهرة العولمة، بمعنى التفاعل الدينامي على مستوى كوكبنا، أصبحت تضم أموراً مترابطة ومتبادلة التأثير والتأثر بين مناطق هذا العالم المختلفة، فلم يعد أمر الفقراء مجرد قضية تؤرق فقط مضاجع الدول الفقيرة في العالم، بل أضحى الفقر ظاهرة فادحة الضخامة.
حيث يزيد عدد أفقر الفقراء حالياً على مليار نسمة وخاصة في الدول المتخلفة في آسيا وأميركا الجنوبية وفي إفريقيا بالذات، وتلك أوضاع تتمثل أسبابها وتتجسد نتائجها في اندلاع الحروب الأهلية والمنازعات القبلية والمصادمات الإقليمية فضلاً عما يشدد عليه هذا الكتاب من استشراء ظاهرة الإرهاب بكل تداعياتها على السلم والأمن في العالم، على أن الكتاب يتميز بأن المؤلف يصدر عن منظور أوسع بحيث لا يقتصر في تحليل ظاهرة الفقر على الدول الفاشلة كما يصفها المصطلح السياسي المطروح أخيراً.
بل إن الظاهرة لها أبعادها المتبادلة بين داخل تلك الدول وبين أطراف الخارج التي تتمثل أولاً في الدول الأجنبية ــ الغرب ــ أوروبية بالذات، التي تستقبل بنوكها إيداعات طائلة سواء لحساب حاكم فاسد أو دكتاتور مستبد في دولة فقيرة، من قارة إفريقيا بالذات، فيما يتمثل ثانياً في استغلال الموارد الطبيعية في تلك المجتمعات الفقيرة مع الاكتفاء بتقديم المعونات إليها وبطريقة تؤدي في نهاية المطاف إلى إصابتها بما أصبح يوصف بأنه المرض الهولندي المتمثل في إدمان تلقي المعونات على حساب قيم العمل والتنمية واستثمار الجهود الوطنية في مجالات الإبداع والطموح إلى الأفضل.
للوهلة الأولى يسترعي نظر القارئ أن مؤلف هذا الكتاب يعمد في صفحاته الختامية، وبعد الفصل الحادي عشر وهو آخر الفصول ــ إلى إيراد قائمة ببليوغرافية، بالبحوث التي رجع إليها لكي يضع مادة الكتاب، والقائمة لا تسرد المراجع بالطريقة التقليدية ولكنها تحيل إلى الطروحات العلمية التي سبق إلى إعدادها ونشرها مفكرون وباحثون آخرون اتضح أنهم يشاركون المؤلف نفس الهموم التي ما برحت تساوره، وهي هموم تلخصها كلمة واحدة، ومخيفة أيضاً: الفقر بل هو الفقر المدقع، الطاحن والمخيف. وهو أيضاً الظاهرة أو الآفة التي ما برحت تقضّ مضاجع الشعوب والمجتمعات، وعبر تاريخ الإنسانية الطويل.
ويكفي أن تحوي عقيدة الإسلام المضيئة، ومن ثم تراثنا العربي الأصيل المستنير، إحالات وإشارات إلى أن الفقر هو وعد الشيطان، أو بالأدق وعيده، فضلاً عما نقلوه عن الإمام علي بن أبي طالب «رضي الله عنه»: لو كان الفقر رجلاً لقتلته، فما بالنا إذا كان الفقر محصلة الظلم في توزيع الموارد والثروات التي وهبتها السماء لأهل الأرض فكان أن احتكرتها القلة وجاء هذا الاحتكار بداهة على حساب الكثرة الكاثرة من عباد الله.
قيمة الكتاب
مع هذا كله فإن علينا أن نسجل أن قيمة هذا الكتاب لا تكمن في أنه يعالج مشكلات مجتمع بعينه أو أحوال قطر أو شعب بذاته في العالم الذي نعيش فيه.
لقد اختار مؤلف هذا الكتاب منظوراً عولمياً ــ أو كوكبياً إن شئت ــ يطل من خلاله على ظاهرة الفقر أو حسب تعبيره في عنوان دراسته ظاهرة بليون القاع يعني المليار من أفقر الفقراء من سكان هذا العالم.
وفي سياق المراجع التي أحال إليها سواء في متن الفصول الأحد عشر التي تشكل متن الكتاب أو في الثبت الذي ألمحنا إليه مع ختام تلك الفصول يتحقق القارئ من نوعية القضايا التي تؤرق المؤلف ويتمثل أهمها فيما يلي:
الفقر المدقع، لماذا؟
تنطلق طروحات هذا الكتاب من محاولة تقصي أسباب الفقر الذي يصيب شعوباً دون أخرى على خارطة العالم، بقدر ما يصيب طبقات أو شرائح دون سواها على صعيد المجتمع الواحد هنا أو هناك.
ولأن الفقر آفة اقتصادية بالدرجة الأولى فقد كان من الطبيعي أن يرتبط الجانب الاقتصادي بالجانب السياسي، وهنا يحيل الكتاب إلى المصطلح الذي شق طريقه مع السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين إلى معاجم السياسة والاقتصاد معا، وهو: الدولة الفاشلة
والإشارة البديهية هنا تومئ إلى فشل الدولة، هذه الآلية الفعالة التي سبق إلى اكتشافها تاريخ التنظيم الحضاري للبشر، في النهوض بوظائفها وفي مقدمتها بطبيعة الحال، بسط الأمن وحفظ الموارد والسهر على رفاه مواطنيها على اختلاف إمكاناتهم وتباين مستوياتهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً ومن ثم تفعيل خطط التنمية والعدل في توزيع ثمارها.
بيد أن ميزة هذا الكتاب تتمثل ــ كما نتصور ــ في أن المؤلف، وهو أستاذ جامعي في واحدة من الجامعات العريقة في العالم ــ لم يتوقف عند جانب عرض الموضوع أو تشخيص المشكلة، وخاصة بالنسبة لإفريقيا التي شكلت واحدة من شواغله أو فلنقل جانباً من همومه كأكاديمي وإنسان.
من التشخيص إلى التحرير
إن منهج الكتاب إذ يبدأ بالتشخيص، فهو يعد القارئ ــ وكما يتضح من فصول هذا البحث ــ بأنه بسبيل استكشاف الطرق والوسائل التي تكفل اتخاذ إجراءات يمكن أن تصلح في رأي المؤلف، لاستنقاذ أفقر أقطار العالم المعاصر من براثن الفقر ولصالح سكانها الذين باتوا يشكلون ــ كما ألمحنا ــ ما يقرب من نسبة 15 % من البشر المعاصرين ممن وقعوا في شراك عديدة منها، كما يتضح من سطور كتابنا، ما يتصل بجوانب النزاعات الداخلية وصراعات الموارد الطبيعية فضلاً عن سوء، وأحياناً فساد، نظم وأساليب الحكم في تلك الأقطار الممعنة في الفقر، وخاصة إذا ما دخلت في صراعات مع جيرانها، أو كانت أقطاراً مغلقة بمعنى افتقارها إلى سواحل أو منافذ بحرية تصل بينها وبين العالم الخارجي استيراداً وتصديراً وتفاعلاً وتجاوباً.
وهذا ما يؤدي في رأي المؤلف إلى إصابة تلك الأقطار الفقيرة في افريقيا بالذات، وأيضاً في آسيا وأميركا اللاتينية بآفة التهميش التي يختار المؤلف لوصفها عبارة طريفة تقول: مَثَل الأقطار المهمشة كمثل رفيق السفر الذي فاته القطار أو تخلّف للأسف عن ركوب السفينة التي أقلعت بركابها وتركته وحيداً على شاطئ مهجور.
يزيد من مشكلة التهميش أن الأقطار الفقيرة ورثت على مدار سنوات النصف الأخير من القرن الماضي تركة فادحة من أيام الزمن الكولونيالي حيث ظلت مواردها ضحية لاستنزاف إجرامي على يد قوى الاستعمار الغرب ــ أوروبي لدرجة شهدت نزح ثرواتها الطبيعية من تحت أرضها ومن فوق تلك الأرض لصالح آلة الصناعة وحياة الاستهلاك الترفي ــ الكمالي على صعيد العواصم المتروبول ـ وفي مقدمتها باريس ولندن بطبيعة الحال.
قوانينا هي مشكلاتهم
بعدها شهدت تلك الأقطار الإفريقية الفقيرة نظماً للحكم رفعت أعلام الوطنية ولكن سيطرت عليها أحياناً نظم مدنية فاسدة الذمة أو نظم العصبة العسكرية الانقلابية في بعض الأحيان.
ورغم ارتفاع رايات الاستقلال، فها هو مؤلف الكتاب يوجه أصابع الاتهام إلى قومه في عواصم الاستعمار حيث يختار مثلاً للفصل التاسع من كتابه عنواناً فرعياً يقول: قوانينا، هي مشكلاتهم.
وتحت هذا العنوان يوضح كيف أن حالات الفقر في بلدان القاع كما يسميها جعلت منها للأسف ملاذات آمنة لعتاة المجرمين وللإرهابيين فضلاً عن شتى الأوبئة وأنواع الأمراض.
وبعدها يمضي المؤلف ليبين أن ثمة تناقضاً عجيباً انطوت عليه هذه الأوضاع، وبمعنى أن كانت هذه الظاهرة السلبية متبادَلة أيضاً(!) كيف(؟) لأن البلدان الأوروبية نفسها ــ الغنية طبعاً ــ كانت تشكل بالقدر ذاته ملاذات، آمنة بدورها لمجرمي تلك المجتمعات البائسة التي تضم هذا الحشد البليوني من أفقر فقراء كوكبنا.
وهكذا ظلت بنوك الغرب هي الملاذ لإيداعات سوبر ــ طائلة ولكنها منهوبة من مجتمعات الفقر الملياري التي نشير إليها، وهذه المصارف والبيوتات المالية ظلت تحتفظ بتلك الودائع ضمن سياج من السرية البالغة بل رفضت أن تعيدها ثانية إلى منابعها الأصلية.
وهنا يشير المؤلف في هذا السياق إلى ما كُشف عنه النقاب مثلاً في أميركا عام 2004 من تواطؤ بنك ريفس في واشنطن ــ العاصمة مع رئيس جمهورية غينيا الاستوائية الذي أودع في البنك مبالغ أكثر من طائلة، أما في إنجلترا فقد كُشف النقاب في أولى سنوات القرن الجديد عن إيداعات سوبر ــ ضخمة وضعتها في المصارف الإنجليزية عائلة ساني أباشا ــ دكتاتور نيجيريا السابق كما يصفه الكتاب (ص136) دون أن يسأله أحد عن مصدر الأموال: مشروعاً، أو منهوباً، أما أكبر الفائزين في هذه اللعبة وكما يضيف المؤلف فهو سويسرا التي يقول إن بنوكها ظلت ترفض رد الأموال التي سبق إلى إيداعها الحاكم النيجيري المذكور قبل وفاته في عام 1998 رغم صدور حكم محكمة سويسرية يفيد بأن هذه الأموال إنما تخص حكومة ما بعد نظام أباشا في نيجيريا.
مطلوب ميثاق دولي
يطالب الكتاب أيضاً بوضع ميثاق دولي من شأنه تقنين المعايير المتصلة بالموارد الطبيعية من حيث التعامل معها: استكشافاً واستخراجاً وتصديراً وتعاملات، وبحيث تنال جماهير الناس ــ وخاصة على مستوى هذا المليار من أفقر الفقراء قدراً مشروعاً من خيرات بلادهم التي ما برحت تصّب في خزائن الاحتكارات الدولية وجيوب عملائها المحليين فضلاً عن مصالح الشركات المتعددة الجنسيات.
وبحكم الترابط الطبيعي بين الاقتصاد والسياسة يحرص الكتاب في الباب الثالث على الربط بين أسلوب الحوكمة الديمقراطية وبين ضرورة توخي الشفافية بمعنى العلانية والوضوح في وضع وطرح أبواب وبنود الميزانيات الوطنية، وهو يسوق في هذا الخصوص مثلاً بسيطاً يلخصه سؤال يرى ضرورة طرحه في الحالتين. والسؤال يقول: كم أنفق هذا المرشح أو ذاك على حملته الانتخابية التي جاءت به نائباً في البرلمان؟
والسؤال يقول أيضاً: فيم أنفقت الحكومة هذا البند أو ذاك من أبواب الميزانية الوطنية؟
وربما يبدو سؤال الميزانية بديهياً، ولكن الحقيقة تخالف البديهية أحياناً، هنا يستعيد المؤلف ذكرى الدراسة الاستقصائية التي تم إجراؤها منذ سنوات قريبة على ميزانية تشاد وهي دولة إفريقية جنوبي الصحراء مازالت تعاني حّدة الفقر وقسوة الاحتياج، لقد ذكرت الدراسة (ص150) كيف احتوت ميزانية تشاد الوطنية على اعتماد جوهري للإنفاق على العيادات الطبية في البلاد، لكن الدراسة نفسها وبعد استقصاء شامل ودقيق، اكتشفت أن 99 % من أموال الاعتماد الصحي المذكور لم تصل إلى هدفها المرسوم ولم تحصل أي عيادة أو مستوصف على فلس واحد من المبلغ المرصود، لا من قريب ولا من بعيد.
يتطرق المؤلف أيضاً إلى المعادلة البالغة التناقض، تلك التي تجمع في طرفيها بين غِنَى الموارد وفقر السياسة (على وزن فقر الدم).
وهو يشدد في أواخر الصفحات على أن كثيراً من بلدان الفقر ــ الملياري كما وصفناه ــ غنية موضوعياً بالموارد (الطبيعية) ولكنها فقيرة من حيث السياسات (الرشيدة) المتبعة في إدارة الشأن الوطني ـ القومي العام، وبحكم هذا الفقر في السياسة لا يتورع ولاة الأمور في تلك الأقطار عن مد اليد طلباً للمعونة من الأقطار المتقدمة التي لا تتورع من جانبها إلى إعطاء معونات بشروط قد تكون ظاهرة وغالباً ما تكون باطنة أو مستترة، كي لا تستفز الرأي العام، ولكنها شروط على كل حال هي بالذات تصيب تلك الدول المتلقية للمعونة الخارجية بتلك الآفة التي يطلقون عليها اسم المرض الهولندي بمعنى إدمان المعونة ومواصلة الاعتماد عليها بوصفها أموالاً سهلة التدفق فيما تصيب المجتمع بآفة التعويل عليها وهو ما يؤدي إلى تعطيل ملكات الاجتهاد والمثابرة والعمل الجاد والثقافة الإبداعية ويؤدي إلى تحجيم وربما تعطيل فضيلة الطموح، وخاصة بين أجيال الشباب وصفوف المتعلمين في الداخل أو الخارج إلى تحقيق الذات الفردية والمشاركة في جهود البناء والتطوير المجتمعي وفي أوطان تملك في الأساس ثروات وموارد مازال بعضها بكراً ويحقق الأمل بالعمل.
أخيراً، ولأن القضية لها أكثر من وجه على نحو ما رأينا، فالمؤلف يرى أن الحل لا يتجسد فقط على أرض الدول الفقيرة بل لابد من التماسه أيضاً على مستوى الدول الغنية المتقدمة.
وفي هذا الخصوص يختتم الكتاب طروحاته بدعوة المنظومة الدولية إلى تبّني مثل هذه القضايا المحورية، ويشدد بالذات على ضرورة تطوير الغايات الإنمائية السبع للألفية التي سبق وطرحتها ومازالت تتابع تنفيذها منظمة الأمم المتحدة، التي يدعوها بدورها إلى تنسيق الجهود المبذولة لتخفيض حجم فقراء العالم إلى النصف إن لم يكن بحلول عام 2015 كما كانت تقضي بذلك تلك الأهداف الانمائية، فليكن بعد بضع سنوات أخرى، وهذا برنامج عمل جوهري وطموح يؤكد المؤلف على أن الذي يتحمل مسؤوليته الأولى هو الدول الصناعية المتقدمة في عالمنا ـ مجموعة الثمانية كما أصبحت تسمى في قاموس العلاقات الدولية المعاصرة.
عدد الصفحات: 205 صفحات
تأليف: بول كولييه
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مطبعة جامعة أكسفورد