إجابة لاستفهام الصديق العزيز ميشال .. عن علاقة السلطة الدينية المنحرفة بالسلطة السياسية ، تنتظم هذه السطور كحلقة ثانية ومقالة أخرى .
إنما عبرنا عن السلطة الدينية بالمنحرفة لأنها منحرفة عن الخط الرسالي ، غير أن هذا الانحراف ملتبس على التشخيص من قبل الإمكانات التي يتمتع بها الجمهور بل وبعض من النخبة التي لا تتمتع بالوعي ، ولذلك فإن هذه السلطة ـ الدينية المنحرفة ـ سوف تحافظ دوماً على وجه شرعيتها أمام الآخرين بالتصاقها بالخط الرسالي و ابتعادها عن الخط الفرعوني المتمثل بالسلطة السياسية ، و لا شيء ـ غالباً ـ يستطيع إثبات أية صلة مريبة بينهما ، و مع هذا يبدو للوهلة الأولى أنه لمن المستحيل إذن الكشف عن فساد وانحراف السلطة الدينية ! إذ يمكننا القول بأن العلاقة بينها وبين السلطة السياسية علاقة ( تواطؤية ) تحكمها المصلحة المشتركة في :
1- الإبقاء على الوضع الراهن لأنه يمثل وضعاً مفيداً للطرفين وإن اختلفا في الكثير من الأمور .
2- استغفال الجمهور و تحقيق مبدأ ( ما لقيصر لقيصر وما لله لله ) ومن هنا يمكننا الكشف عن خاصية لتلك السلطة الدينية المنحرفة ، و هي الابتعاد عن الاحتكاك بالسلطة السياسية التي تفرض قوتها و هيمنتها ، وعدم تحديها .
3- الاستفادة من العداء الظاهر ، إذ تغتنم السلطة الدينية العداء الظاهري مع السلطة السياسية لترسيخ مشروعيتها ، والحق أننا لو التفتنا للأمر لوجدنا أنها لا تشكل خطراً على السلطة السياسية الغاشمة بل ولا تتحداها ! أما السلطة السياسية فتنتفع من هذا العداء الظاهري بتأكيد قوتها و جبروتها وهيمنتها ، إذ كأنها تقول : أنا أسيطر وأحكم من يتربع على قلوب الجمهور الواسع هذا وأفرض قوانيني عليه وعلى أتباعه .
ومن خلال ما تقدّم يمكننا استنتاج جملة أمور كاشفة و فاضحة للسلطة الدينية تتمثل في :
1- إن السلطة السياسية والدينية المنحرفة تعملان على وفق التواطؤ وإن كان تواطؤاً غير متفق عليه صراحةً و غير معلن بين الطرفين .
2- العداء بين السلطتين عداء ظاهري ، فلا السلطة الدينية تشكل خطراً على السلطة السياسية ولا الأخيرة تستهدف الأولى في الغالب ، إلا لو خرقت السلطة الدينية المنحرفة التواطؤ وتجاوزت حدودها وهذا نادر الحدوث !
3- إن من أهم مبادئ السلطة الدينية المنحرفة هو ( فصل الدين عن السياسة ) لأنه المبدأ الذي يحقق الأمان بينها والسلطة السياسية ، إذ تغدو السلطة السياسية مطمئنة لمسار الأخرى غير مرتابة و متوجسة منه .
على أن هناك الكثير من خصائص السلطة الدينية المنحرفة لا يتناسب طرحها مع هدف المقالة ، ربما نطرحها تفصيلياً في مقالة أخرى إن شاء الله .
هنا يبرز سؤال : هل هذه الخصائص و سمات العلاقة التواطؤية بين السلطة الدينية والسياسية كافية للكشف عن فساد وانحراف السلطة الدينية ؟ أم هل أنها الوحيدة ولا شيء آخر يكشف عن هذا الانحراف ؟
و يجيب الشهيد السيد محمد باقر الصدر ( قدس ) عن ذلك بطرحه مفهوم ( الوصلة ) .... و سأطرحه بشكل مختصر و بسيط معرضاً عن تناوله في عمقه وأبعاده .
يقوم مفهوم ( الوصلة ) على تحقق ظرف تاريخي معين ، بمعنى أن هذا المفهوم قد لا يتحقق في فترة تاريخية طويلة ، غير أنه إذا ما تحقق تأكد للجمهور أن هذه السلطة الدينية منحرفة ، و حقيقة المفهوم قائمة على فكرة تدخل السلطة الدينية المنحرفة إذا ما شعرت بأن تهديداً حقيقياً يستهدف السلطة السياسية سينتج عنه تقويضها و زوالها ، و بمعنى آخر : إن السلطة الدينية المنحرفة رغم بعدها و عدائها الظاهري للسلطة السياسية إلا أنها ستتدخل لإنقاذ السلطة السياسية إذا ما شعرت بأن تهديداً حقيقياً يستطيع تقويض حكم هذه السلطة السياسية ، وهنا نكون أمام التأكد من أن هذه السلطة الدينية منحرفة و ضالة ولا تنتمي للخط الرسالي ، أما عن طبيعة هذا التدخل فتحكمه أدوات السلطة الدينية المنحرفة و صلاحياتها ، كما أن طبيعة التهديد تتمثل في :
1- التهديد الرسالي : و هو أول و أبرز التهديدات ، إذ إن الشخصيات الرسالية كانت وما زالت تمثل التهديد الأول لأية سلطة سياسية غاشمة ، كما أنه يمثل تهديداً للسلطة الدينية المنحرفة ، و هنا يتأكد أن الخط الرسالي و شخصياته يمثل التهديد الأول و الأهم لأنه تهديد مشترك ، و إذا كانت السلطة السياسية الغاشمة ستقوم بمهمة تصفية الشخصيات الرسالية جسدياً ، فإن السلطة الدينية ستقوم بمهمة الإجهاز على هذه الشخصيات معنوياً من خلال تشويه سمعتها و إسقاط قيمتها الاعتبارية في المجتمع أو لنقل في البيئة الحاضنة لها ، و هذا ما حدث فعلاً مع عيسى بن مريم و أمه ( ع ) و الذي يتضح في قوله تعالى ((يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا )) !!!!
2- تهديد الصراع على السلطة : و يتمثل في تهديدات الاتجاهات السياسية الباطلة الأخرى المناوئة للسلطة السياسية الحاكمة ، و هنا يتحقق مفهوم الوصلة بتدخل السلطة الدينية المنحرفة لصالح السلطة السياسية الحاكمة ، غير أنه هنا لا يكتسب الجدّية ذاتها التي اكتسبها التدخل في إزاحة التهديد الرسالي ، لأن التهديد الرسالي مهدد بشكل مباشر لزوال السلطة الدينية المنحرفة بالدرجة الأساس مع زوال السلطة السياسية الغاشمة ، و تحكم تدخل السلطة الدينية المنحرفة هنا أمور منها :
أ- طبيعة الاتجاه السياسي الآخر المهدد للسلطة السياسية الحاكمة ، وبنيته الأيديولوجية و المنشأ العقائدي له ، و بمعنى آخر ما إذا كان متوافقاً مع بنية السلطة الدينية المنحرفة الأيديولوجية والعقائدية .
ب- وجهة نظر الاتجاه السياسي الآخر المهدد للسلطة الحاكمة بالسلطة الدينية المنحرفة ، وما إذا كان متمرداً عليها غير معتّدٍ بها أو أنه ضمن الحيز الذي استولت عليه السلطة الدينية المنحرفة و أوهمته بشرعيتها أو ـ على الأقل ـ باحترامها .
ت- حيثيات الظرف التاريخي ، وما إذا كانت السلطة الدينية المنحرفة ترى بأنه مناسب لإحداث تغيير في السلطة واستبدال وجوه بوجوه أخرى
و بناءً على ما تقدم في ( 2 ) فإن السلطة الدينية المنحرفة ستتبنى موقفها في التدخل لصالح السلطة السياسية الحاكمة بالمستوى الذي قد يتردد بين التدخل الحازم لدعم بقائها أو التدخل الفاتر للإيحاء بأنها مع التغيير دون أن يؤدي ذلك لخسارتها إذا ما فشل الاتجاه السياسي الباطل الآخر في الوصول إلى السلطة ، أو خسارتها لعلاقتها المستقبلية مع السلطة السياسية الغاشمة القادمة إذا ما نجح الاتجاه الآخر .