يظنُّ بعض الناس أن كثرة تكرار الأوامر يضمن التنفيذ! وذلك اعتقادًا منهم أن السامع سيضطرُّ في النهاية إلى أن يُنَفِّذ الأمر؛ لكي يتخلَّص من كثرة التوجيه، والواقع أن هذا ليس صحيحًا، بل من حُسْن التعليم أن يختصر المـُعَلِّم تنبيهاته في أقلِّ كلمات، ويحرص على عدم تكرار الأمر كثيرًا؛ وذلك حتى لا يُصيب المتعلِّم بالملل، أو يخلق عنده شعورًا بالتحدِّي أو الرفض؛ فالناس عادة لا تحبُّ مَنْ يُكْثِر من توجيهها وإرشادها، ولقد كان التقليل من الموعظة سُنَّة نبوية مضطردة لم يتخلَّ عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مراحل حياته؛ فقد روى البخاري عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم «يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».
ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم كان يُباعد بين الدروس التي يعطيها للصحابة، وكان يُقَلِّل في زمنها، حتى لا يُصيبهم بالملل، فإذا كان هذا يحدث من الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم، الذي آتاه الله جوامع الكلم، والحكمةَ البالغة، الذي عرف أخبار الأولين والآخرين، الذي يُوحَى إليه من ربِّ العالمين، فكيف الحال معنا، ونحن لم نؤتَ بلاغته صلى الله عليه وسلم، ولم نملك حُضوره وقوة تأثيره؟!
ولقد فهم الصحابة الكرام رضي الله عنهم هذه السُّنَّة الجميلة فطبَّقوها في مواعظهم، ولم يستجيبوا للطلب المتكرِّر من الناس بأن يزيدوا من وتيرة الدروس؛ فقد روى البخاري عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بن مسعودٍ رضي الله عنه يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ، كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَتَخَوَّلُنَا بِهَا، مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا.
فهذه هي السُّنَّة المباركة، ولا أعني بهذه السُّنَّة الشيوخ والأئمة فقط؛ إنما يشمل ذلك نُصْحَ الأب لأولاده، والمدرِّس لتلامذته، والزوج لزوجته، والصديق لصديقه، فهي سُنَّة عامة تطرد الملل والضيق عن حياة المسلمين.
ولا تنسوا شعارنا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54].
المصدر : كتاب " إحياء354 " للدكتور راغب السرجاني