أشهدُ أنّ لدينا أسطولاً يُعتدّ به من سيارات الإسعاف ينغّصُ نعاسنا، في زحامِ السيطرات المملّ، دويُّ صافراتها، برغم أنّها تختفي حين تمسّ حاجةٌ إلى حضور واحدةٍ منها. وأشهد أنّنا نتعثّرُ، أيّان سرنا، برجالِ أمنٍ لا يأتون إلاّ بعد رحيل الجُناة إلى جهةٍ تبقى مجهولة دوماً.. أعترف بوجود شبكة من الأسلاك يمكنها أن تصل إلى أبعد منزل في العالم، لكنها عاجزة عن إنارة مصباح في ليلنا الطويل.. أعرفُ النهرين الخالدين مثلما أعرفُ الحقول الظمأى و(ماطورات) المنازل التي تشفط الهواء لا الماء.. وأشعر بحسد حاسدينا على غنى فاحش لا يكسونا غير أسمالٍ بالية.. وأُقرّ أن ببعض نفطنا يصطلي كلُّ مقرور، وتموت من حرائقه أشجار ربيعنا وتهاجر الطيور.. وأدرك ـ بمرارة ـ أنّنا نفنى في وطن كان على الدوام يصوّب رصاصَه علينا وثراءه نحو الآخرين!!
التقت فضائيّة، قبل أيام، بمنْ قالت إنّها قد تكون أكبر معمّرة في العراق. وإذ تتحدث العجوز تفجعك أنّها، طيلة سنيّ عمرٍ جاوز المائة، تحلم بما يمكن أن تشير له ملء يدٍ مرتعشة وفم خال من الأسنان: هذا مسكني. يُدميك أنّ لا الزوج المتوفى ولا الأولاد أو أولاد الأولاد كان بمستطاعهم تحقيق حلم بسيط. يُذهلك أنّ المظلوم لم تنتصر له حكومات تلوّنت واختلفت تسمياتها وتبدّل علمُها ونشيدُها الوطني.. العثمانيون لم يَمنّوا عليها ببعض أجرِ شقائها.. البريطانيون أنكروا عليها كرامة العيش.. الملكيون فوّضوا أمرها للقدر.. الوطنيون استبدلوا الأماني بشعارات التحرّر.. الإشتراكيون أمّموا بعلها واغتالوا مستقبل بنيها.. والقوميون نصبّوها خنساء لا تغادر مأتماً إلا لرثاء قتيل.. قد تنالُ في زمن الديمقراطية حفرةً بعد أن تعجز عن قول: هذا... قبري!!
أيّ مدمن على زيارة المقابر سيرى عبارة كُتبت، بخط رديء، على بعض القبور. عبارة تشعر أمامها بقسوة قدر يلتذّ بالسخرية حتى من الموتى. أيّ زائر ستباغته عبارة (غير مبرأ الذمّة) على قبر دُسّت فيه جثة منْ لم يملك أهله ثمن حفرة تواريه. ففي وطن عاش أبناؤه بلا سقف يُظلهم ببعض فيئه، يضطر بعضهم ـ لدفن موتاهم ـ إلى (حوسمة) حفرة تغتال حلم امتلاك أول مِلْكٍ صِرْفٍ ينقذهم، بالموت، من بدل الإيجار!!