صيدا (جنوب لبنان) ـ من حمزة تكين: لا تزال مدينة صيدا “القديمة” في جنوب لبنان تحافظ على الكنيس اليهودي الوحيد فيها، والذي تحول منذ حوالي ربع قرن إلى منزل لعائلة سورية، تعتبر نفسها اليوم بمثابة القيم على هذا الكنيس التاريخي، الشاهد على اليهود الذين كانوا يتعايشون جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين في صيدا.
الكنيس الذي بني في العهد العثماني عام 1850، ما زالت ملكيته الرسمية مسجلة باسم الطائفة اليهودية التي سكن أفرادها في “حارة اليهود” بمدينة صيدا القديمة، قبل أن تغادر آخر عائلة يهودية المدينة عام 1982.
زائر الكنيس، عليه أن يمر بأزقة المدينة القديمة، مارا بـ”حارة اليهود” التي مازالت تعرف بهذا الاسم، حتى في دوائر ومؤسسات الدولة اللبنانية، ليصل بعد دقائق معدودة إلى الباب الرئيسي للكنيس.خلف الباب، عائلة سورية من محافظة حماة، تسكن الكنيس “بدون أي مشاكل” منذ العام 1991، فوق رؤوسها هياكل حديدية على شكل “نجمة داوود السداسية”، يتآكلها الصدأ، أسوة بجدران الكنيس المهترأة.مصلى الكنيس الذي حولته العائلة السورية التي يقودها جهاد المحمد (49 عاما) إلى مكان مخصص للتلفاز، تعلوه بعض الرسوم باللونين الأحمر والذهبي، في حين أن الكتابات العبرية التي كان موجودة أيضا مُحيت بالدهان ولم تعد ظاهرة للعيان
.المحمد، الأب لستة من الأبناء والبنات، وزوجته ووالدته، يسكنون الكنيس بعد أن قاموا بتنظيفه وترتيبه قبل 24 عاما، دون أن يتعرض لهم أحد أو يطالبهم بإخلائه.المحمد أوضح ، أنه جاء من سوريا وسكن الكنيس اليهودي في صيدا عام 1991، بعد أن وجده مهجورا تنتشر فيه الجرذان والنفايات.وقال إنه يتعايش مع هذا الكنيس “كما لو أنني أتعايش مع أفخم قصر، في ظل راحة نفسية”، مؤكدا أنه لا يواجه أي مشاكل قانونية أو دينية أو نفسية.ولفت المحمد إلى أنه قد يتخلى عن الكنيس يوما ما، في حال طُلب منه ذلك،
“فهو ليس ملك أبي” على حد قوله، مشيرا الى أنه يستقبل كثيرا من الوفود والصحافيين الذين يزورون الكنيس.وأوضح عن عدة وفود يهودية وحاخامات، زاروا الكنيس خلال الأعوام الماضية “وبعضهم أقام صلواته هنا”، لافتا إلى أن بعض هؤلاء أبدوا امتنانا له على اهتمامه بالكنيس ومحافظته عليه.واعتبر المحمد أنه “لا مشكلة مع وجود الكنائس اليهودية في العالم العربي، فاليهودية ديانة سماوية لا يمكن إنكارها”، مشددا على التمييز بين اليهودية والصهيونية “التي ما هي إلا عبارة عن احتلال وقتل وتدمير بغطاء عالمي”.الكنيس يعتبر من آثار مدينة صيدا، وكان محط بحث في أوقات سابقة للعديد من الباحثين والمؤرخين،
ولا يزال اليوم يشهد على حقبة من التعايش المشترك بين الأيدان السماوية في هذه المدينة اللبنانية المشهورة بتسامحها وعيشها المشرك.طلال المجذوب، مؤرخ مدينة صيدا، وأحد الباحثين في التراث والتاريخ، أوضح أن الكنيس في صيدا بني حوالي عام 1850 ليؤدي اليهود في المدينة صلواتهم، مشيرا الى أنه بني في “حارة اليهود”، في العهد العثماني “ما يشير إلى التسامح الديني الذي كان يتمتع به العثمانيون”.ولفت المجذوب إلى أن اليهود الذين سكنوا في مدينة صيدا، أتوا إليها مع استرجاع الإسبان للأندلس وإجبار الناس على اعتناق الديانة المسيحية.وأشار المجذوب الى أن غالبية اليهود الذين كانوا يسكنون في الأندلس، رفضوا اعتناق الديانة المسيحية، كما هو الحال مع كثير من المسلمين، فهاجروا إلى عدة مناطق على حوض المتوسط، ومنها مدينة صيدا، وذلك بدايات القرن السادس عشر
.ولفت الى أن عدد اليهود الذين سكنوا “حارة اليهود” في مدينة صيدا، وصل الى أكثر من 900 شخص عام 1909، مشيرا الى أن عدد سكان صيدا كلهم كان آنذاك قرابة 15 ألف نسمة.وأشار المجذوب الى أن اليهود عملوا بمختلف الأشغال في صيدا، لافتا الى أن أهم وأشهر خياط في المدينة في العهد العثماني كان يهوديا.وأضاف أنه مع إعلان قيام إسرائيل عام 1948 هاجر القسم الأكبر من يهود صيدا، لافتا الى أنه مع احتلال الجيش الإسرائيلي لمدينة صيدا “لم يدخل عناصر الجيش الى الكنيس، لأنه موجود في مدينة صيدا القديمة ذات الطرقات الضيقة، الأمر الذي كان يخيف الإسرائيليين من عمليات ضدهم في هذه الأزقة”.وحسب قوله، فإن آخر العائلات اليهودية المهاجرة، هي آل ليفي، وقد غادرت المدينة عام 1982.(الأناضول)