رباح آل جعفر:من أكثر الأشعار المُغنّاة التي نسجوا حولها الأساطير والحكايات ، كانت قصيدة ( يا راهب الدير) لشاعر مغمور .انتشرت بين مغنيّات العصر العباسي ،غنّتها مؤنسة جارية بنت المهدي كما تذكر الروايات ، ووجدنا لها ليلة في ( ألف ليلة وليلة ) ، وغنّاها المصريون ، وأنشدها أهل الشام ، واشتهر في مقامها العراقيون وأولهم شيخ المقامات محمد القبانجي .
قائل هذه الأبيات بتواتر الأخبار ، جنديّ مسلم جاء من مصر أيام الخلافة العباسية وسكن ( عگد النصارى ) في بغداد ، ثم ما لبث أن أضحى عاشقاً في هوى فتاة نصرانية . وبعد قصّة حبّ زلزلت قلبه كان عليه أن يعود إلى بلاده مع الجند العائدين ، فحنّ وبكى وشبك عشره على رأسه ، وسأل راهب الدير : ( هل مرّت بك الإبلُ ؟ ) ثمّ تحسّر على وصل وتوسّل :
( يا حادي العيس عرّج كي أودّعهم .. يا حادي العيس في ترحالك الأجلُ ) حتى آلمه العشق ، وأودى بعقله وحياته !.
وعندما غنّى محمد القبانجي مقام ( النصارى ) تقدم صحفيّ مسيحيّ ببلاغ يتهمه بالطائفية أيام لم يعرف العراق معنى الطائفية
هناك اجتمع المسيحيون في (عگد النصارى) وكتبوا بلاغاً بأسمائهم وقدّموه إلى المحكمة يعلنون وقوفهم مع القبانجي ، ما دعاه أن يردّ لهم التحيّة بأحسن منها ، ويُغنّي لهم ( أنا مغرم بالنصارى ) بنوع من الامتنان والعرفان بالجميل !.
ووجدت الشيخ محمد سعيد الحبوبي وهو بركان هادر من الشعر والمشاعر ، يمرّ في عگد النصارى فيستوحي من ( العگد ) أحلى قصائده ويناجي الحبيب قائلاً :
فلو رأتك النصارى في كنائسها ..
مُصوّراً ربّعت فيك الأقانيما .
وهذا هو الشاعر البديع حافظ جميل أبو نواس العراق تخطف جمار قلبه طالبة مسيحية قادمة من دمشق اسمها ( ليلى تين ) يلتقيها في الجامعة الأميركية ببيروت فيغازلها بقصيدة رقيقة غناها المطرب ناظم الغزالي :
( يا تين يا توت يا رمان يا عنبُ .. يا خير من حوت الأغصانُ والكتبُ ) .. وفي بيت آخر:
( حلفتُ بالكرم يا ليلى وبالتوت .. وما ضمّ صدرك من درّ وياقوت ِ)
و( يا توتُ يا ليت ظلّ التوت مضجعنا .. وأنت ليتك يا رمّانُ ترضعنا ) .
لم تكتمل القصيدة . اشتكت ليلى إلى عمادة الجامعة ما تلقاه من مضايقات حافظ جميل ووشايات الطلاب . عاد حافظ إلى العراق دون أن يظفر لا بليلى ولا بالتين ، غير أن الحظ شاء أن يجتمعا بعد طول فراق ونوى حين جاءت ليلى للتدريس في دار المعلمات ببغداد .. كان اللقاء في ( عگد النصارى ) واكتملت القصيدة !.
وإذا كان عگد النصارى أشهر أحياء بغداد التي سكنها المسيحيّون ، فمن الملفت إن أشهر منارة في تاريخ بغداد ، منارة جامع الخلفاء ، سمقت وشهقت في هذا المكان أيضاً ..
ويوماً حدثني الشيخ جلال الحنفي عن ذكريات من مجلس الأب انستاس ماري الكرملي في عكد النصارى . قال لي : من الكرملي تعلمت العربية وهو من أسبغ عليّ لقب الحنفي !.
مسجد تجاوره كنيسة ، شيخ في مجلس راهب ، مسلم عاشق يصبو في هوى مسيحية . لا بُدّ هناك من لغز عجيب يدفع هذه العذابات نحو ( سمراء من قوم عيسى ) .. ولو كانت هذه السمراء تضرب بالناقوس لتفتك بالقلوب !.
كاردينيا