د. جابر حبيب جابر
الخوف هو الشيء الوحيد المشترك في منطقتنا المنقسمة على نفسها في كل شيء آخر. ربما ينطبق ذلك على عالمنا المعاصر إلى حد كبير في ظل أزمة اقتصادية وتهديدات إرهابية وكوارث بيئية وحروب محتملة، لكن الخوف في الشرق الأوسط بات مستمكنا إلى حد التحول إلى مزاج عام تجده في تصريحات السياسيين وكتابات الصحافيين وانطباعات الناس.
إبان الاستقلال كانت المنطقة أكثر فوضوية ودولها أقل استقرارا وحروبها أكثر تكرارا، لكن شعورا بالأمل كان موجودا ومقترنا أساسا بالجاذبية الرائعة التي امتلكها مشروع الدولة والاستقلال والحداثة والتنمية، وكانت يوتوبيا التطور تبعث الأمل في النفوس. وإبان الحرب الباردة كانت الحرب وشيكة دائما ومعها حتى احتمال الفناء، لكن الأمل في غد أفضل كان قائما لدى من آمنوا بأن الاشتراكية ستنتصر في النهاية فيعم العدل، ولدى من آمنوا بأن الرأسمالية ستؤكد تفوقها فتعم الحرية والرخاء. كان الصراع كبيرا لكن معه كان الإيمان بيوتوبيا العدالة الاجتماعية لدى اليسار ويوتوبيا الحرية والرخاء لدى اليمين.
بنهاية الحرب الباردة انتشر تفاؤل هائل في المنطقة مبشرا بوعد الحرية وباحتمالات الرفاه، وصارت نهاية التاريخ في رأي البعض موعدا لعالم جديد من السلام والأمن والتنمية. ولكن ككل اليوتوبيات السابقة وربما بشكل أسرع أخذ هذا الحلم في التلاشي. وفي منطقتنا بشكل خاص صحا الجميع مرة واحدة من كل أحلام الماضي، فحلم التطور لم يتحقق إلا بأكثر صوره تشوها وبآثار كارثية، لقد أدى بنا إلى بناء الدولة التكنوقراطية التي تستهدف السيطرة على المجتمع لا تطويره، وبقينا أسرى علاقة مع الاقتصاد العالمي قوامها تصدير ما يخرج من باطن الأرض وتكديسه في يد دولة أخذت تستغني عن المجتمع، بل وتستلحقه بها بالشكل الذي حطم أهم شروط الحداثة. وهو بعث القدرة الخلاقة لدى الإنسان وتحويله إلى فاعل غير سلبي. وحلم العدالة الاجتماعية تلاشى مع تكديس الثروات في أيدي النخب وتدويرها لترميم نظم بعضها أصابه التكلس، وتحويل الجمهوريات التي بدأت ثورية إلى مسخ حديث لدول المماليك القديمة، ولتأبيد أوضاع قوامها التهميش والإقصاء والاستئثار، في الوقت الذي أخذت المجتمعات تنفجر سكانيا في ظل غياب التثقيف بل وغياب الدولة عن لعب دورها في التنظيم الاجتماعي. ثم انهار الريف تدريجيا تحت وقع الإهمال لتنطلق منه هجرة هائلة تحط رحالها في ضواحي العواصم والمدن الكبرى خالقة عالما من المهمشين يسكنون بيوت الصفيح والطين والمقابر خلف العمارات الشاهقة وفنادق الخمس نجوم. فرّخ هذا الوضع كراهية اجتماعية وإحساسا بالحيف أنتج أجيالا جديدة من المتطرفين والانتحاريين الذين لم تعد هذه الحياة تمنحهم الجدوى والأمل والحلم ففروا نحو حلم الآخرة.
يوتوبيا الحرية انهارت سريعا عندما بدا أولا أن وعدها مزيف وانتقائي ومصمم لنوع واحد من الفائزين ولنمط واحد من المصالح، وعندما صارت الحرية ضد الاستقرار وصار الاستقرار يعني استمرارية الأوضاع القائمة، وعندما بدا أن الحرية بمعنى إعطاء المجتمع حق التغيير، كانت مكلفة في مجتمعات تربت على ألا يكون لها قرار، وعلى السياسة بمفهوم الحكم بالغلبة، لتنتج الحرية أحيانا أنماطا جديدة من الدكتاتورية بعضها ادعى لنفسه النيابة الإلهية وحجز كرسيا فوق القانون وخيارات الناس.
لم يبق غير الخوف، الخوف من التغيير الذي لا نعرف اتجاهه، والخوف من البقاء على الحال نفسها. الدول خائفة، إسرائيل تتحدث كل يوم عن خطر وجودي وتستبدل خصومها الوجوديين تباعا من دون أن يشعر بالأمن الذي بات شراؤه بالأسلحة الفتاكة والنووية غير ممكن. إيران خائفة من «أعداء الجمهورية الإسلامية» الذين لا يمكن لتلك الجمهورية أن تستمر من دون عداوتهم، وهي خائفة من أبناء الجمهورية الذين شعروا بإنهاك الصراع مع الخارج وبتوظيفه لإدامة أزمة الداخل وإغلاق أبواب الأمل أمام التغيير. الدول العربية خائفة، تارة من الخطر الإسرائيلي وتارة من الخطر الإيراني، وأحيانا من الصعود التركي، من دون أن تسأل نفسها لماذا يتحرك العالم من حولها وهي جامدة تلوذ بخوفها.
الخوف ليس فقط شعورا تأزيميا، بل إنه أيضا وصفة لمقاومة التغيير ولرفض أي يوتوبيا جديدة، لأن غايته ألا يحدث شيء، الخوف يستفز ولاء القطيع ويميل إلى كبت أي أصوات لا تشابهه، ويجعل أي فكرة مختلفة تهديدا لا بد من وأده. ولذلك، فالخوف هو الضد الطبيعي للأمل، ليس فقط لأنه يكبل الجميع في خنادقهم ووراء الحدود النفسية التي أقاموها مع الآخر، بل وأيضا لأنه يميت الحلم؛ البضاعة الوحيدة التي تجعل للحياة معنى.