من وسائل الإسلام في مكافحة الجريمة والوقاية منها وتضييق الخناق عليها: التربية الهادفة، حيث تُعد من أهم وسائل مقاومة الشر والفساد، وأبعدها أثراً.
وتتميز التربية الإسلامية عن غيرها أنها تربية إنسانية هدفها الأول والأخير هو إنشاء الإنسان الصالح. وفي الوقت الذي تهدف فيه التربيات الأخرى إلى إعداد المواطن الصالح كما يقولون ثم يختلفون على مواصفاته وكل يبني فلسفته التربوية على وفق هدفه وميوله، نجد الإسلام يهدف إلى تربية الإنسان بصرف النظر عن جنسه ولونه ولغته وبلده.
فالإنسان هو محور التربية الإسلامية بعقله وروحه وجسمه وغرائزه، ونجد الإسلام يرسم المنهج الذي يوصل إلى تلك الغاية. «منهج التربية الإسلامية» (13-14).
فهو يريد الإنسان الأتقى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/13، يريد الإنسان العابد (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) الذاريات/56، الإنسان الذي يبتغي رضوان الله في السر والعلن ويتبع هديه (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة/ 38.
وكما تتميز التربية الإسلامية بأنها إنسانية، تتميز بأنها دينية، تربط الإنسان بخالقه يرجوه ويخافه، وتخاطب فيه الفطرة، وتستنهض عوامل الخير في داخله، جاء في كتاب «دراسات إسلامية»: «إن ارتباط الضمير الإنساني بالله هو الخط الأول في تربية خلقية عميقة الجذور، وهذا يقتضي أن تُتخذ العقيدة الدينية قاعدة أساسية للتربية الفردية أو الاجتماعية في سبيل تكافل اجتماعي لا يحقق مصلحة اجتماعية فحسب، ولا مصلحة قومية فحسب، بل كذلك يحقق غاية إنسانية بعيدة تتسم بالرغبة في إرضاء الله وحده، والتضحية بالغالي والرخيص ابتغاء وجهه الكريم».
فالتربية الإسلامية تهدف إلى صياغة الإنسان المسلم والمجتمع المسلم، وإنقاذ الإنسانية الحائرة وهدايتها إلى العقيدة الربانية، والتصور الإسلامي للإنسان والكون والحياة. «التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة» ص98.
ومما يؤكد دور التربية الإسلامية أنها تربية عملية تدعو إلى الخير وتؤكد عليه، وتنهى عن الشر وتحذر منه، نجد ذلك في الآيات التي طلب الله فيها الإيمان مقروناً بالعمل الصالح (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة/82، فهي ليست نظريات خيالية بعيدة عن التطبيق، بل هي في مقدور البشر وحدود إمكاناتهم البشرية، قدوتهم في هذا كله رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جعله الله قدوة للعالمين بأقواله وأفعاله وأخلاقه، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) الأحزاب/ 21، فهو صلى الله عليه وسلم القدوة التي تتمثل فيه كل مبادئ الإسلام وقيمه وتعاليمه، فهي إذاً تربية تمزج بين النظرية والتطبيق بل لعلها تركز على التطبيق أكثر من التنظير.
ومن سمات هذه التربية أنها مستمرة متكاملة يشترك فيها الجميع، ومن هنا نجد التأكيد النبوي على دور الأسرة في التربية عندما قال صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) متفق عليه، بل جعل الإسلام تربية الأبناء في عنق الآباء والأمهات وحملهم مسؤولية هذه التربية بقوله صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مَسؤُول عَن رعيته، فالإمام راعٍ، وهُو مَسؤُول عَن رعيته، والرجل راعٍ في بيته، وهُو مَسؤُول عَن رعيته، والمرأة راعية في بيتها وهي مسؤُولة عَن رعيتها، والعبد في مال سيده، وهُو مَسؤُول عَن رعيته) رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم (ما نحل والد ولداً من نَحْلٍ أفضلَ من أدب حسن) رواه الترمذي.
ثم يأتي دور المدرسة، ودورها جدّ خطير لما في نفوس الناشئة من حب التقليد، وهذا هو السر الذي جعل السلف يختارون المؤدب الصالح لأبنائهم، يقول الأستاذ المودودي: «بعث الروح الإسلامية في الطلبة يتوقف إلى حد بعيد على المعلمين وعلى علمهم وعملهم، فالمعلمون الذين خلوا بأنفسهم من هذه الروح أنّا يمكن أن تنبعث الروح الإسلامية في المتعلمين تحت نفوذهم».
ثم يأتي دور المجتمع القائم على الفضيلة، يُعين على الخير، ويُقبح الشر، ويهجر صاحبه ويضيق الخناق عليه، ونجد ذلك في سيرته صلى الله عليه وسلم عندما أمر الناس بمقاطعة المخالفين المتخلفين عن غزوة تبوك؛ فكانت عقوبتهم مقاطعة المجتمع لهم حتى تاب الله عليهم، (وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) التوبة/ 118.
وهكذا عنيت الشريعة بتربية الفرد وإصلاحه في جميع مراحل حياته، تغذيه بالمثل الإسلامية السامية، وترشده إلى الأخلاق العالية، تغرس الإيمان في قلبه، وتوجهه إلى الخير، وتصرف تفكيره عن الشر والفساد.
ومما لا شك فيه أن الإيمان الصحيح واليقين الصادق هو الحصن الحصين والسياج المنيع الحامي من ارتكاب الفواحش وانتهاك المحرمات، فالإيمان الحق هو الذي يرشد لأقوم السبل، والقلوب العامرة بالإيمان المتوكلة على الله لا يجد الشيطان إليها سبيلا.
وكما قالوا: «الإيمان أُسُ الفضائل ولجام الرذائل وقوام الضمائر والعروة الوثقى بين الإنسانية ومثلها الكريمة». «التوجيه الإسلامي للشباب» ص38.
هذا الإيمان هو الحاجز بين الإنسان والشر؛ لأن المؤمن يعلم علم اليقين أن الله مطلع عليه، وأنه مهما استخفى من الناس فلن يستخفي من الله، وأنه إن أفلت من عقاب الدنيا فلن يفلت من عقاب الآخرة. وقال عليه الصلاة والسلام: (لاَ يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ) متفق عليه. وكان من نتائج التربية في تاريخ المجتمع الإسلامي أن الجريمة تنحصر في أضيق الحدود حتى بعد أن انحرف المجتمع الإسلامي انحرافة كبيرة عن المعنى الشامل للإسلام، إلا أنه ظل حتى هذه اللحظة أقل المجتمعات البشرية انحرافاً. «الندوة العلمية لدراسة تطبيق التشريع الجنائي في المملكة العربية السعودية» (1/ 216).
ويقول الشيخ أبو زهرة: «إن نظرة واحدة بين حال جماعة تطبق الشريعة ومقدار الأمن في ربوعها، وحال مدينة من مدن أوروبا تموج بالناس وقد تقطعوا أوزاعاً وهم لا يؤمنون بقانون، لأنه من صنع البشر، ومما تواضع الناس عليه، تُرينا مقدار فعل الإيمان في القلوب.
فإن هذه النظرة تُرينا أن الإجرام يسير مع الحضارة سيراً مطرداً، بخلاف الجماعات التي تطبق قانون السماء، فإنه كلما اتسع العمران مع الإيمان ازدادت القلوب تهذيباً، فقل الإجرام مع ذلك، ففي الحضارة الإسلامية في عصر النبي صلى اللّه عليه وسلم وعصر الصحابة، كانت الجرائم تسير مع الحضارة الإسلامية سيراً عكسياً، فكلما اتسعت الحضارة قلّ الإجرام». «الجريمة» (13-14).
المصدر : http://www.alrai.com/article/617402.html