استيقظتُ صباحاً لأحسبَ الأعمال التي ينبغي انجازُها، فوجدتُ فسحة ً من الوقت شاغرةً، فكرتُ أن أملأها بما هو أجدى من غيره. وما دامت ملفات الفساد ستُفتحُ في الوطن فلمَ لا أفتحُ ملفاتي وهي كثيرة. ولكوني لا احتاجُ الى لجنة لتعمل معي فسيكون الرأيُ لي وحدي. أخرجتُ واحداً فوجدتُ اوراقاً كان يجبُ أنْ تُمزّقَ وتُرمى ، ولا أدري لمَ احتفظتُ بها؛؛ رتّبتُ ما بقيَ وانتقلتُ الى آخر، يدي تسحبُ دفتراً قد أكلَ الزمنُ من عافيته الكثير، ترفّقتُ به، وأنا اخرجُه من زحمة ما فوقه وقد حمل على ظهره ثقلاً أنهكه . فتحتُه، تعرفتُ عليه ، الهي، لقد مرّت سنوات وسنوات عليه، ولا يزال يُقاوم البقاء والحرص على ما به. أنا من كتبتُ صفحاته، فبهتت حروفُ كلماته، أقرأ وأستعيدُ مكان جلوسي في قاعة الدرس ، كنتُ في الخط الأول وكانت مدرّسة اللغة العربية في درس التعبير دوّنت على السبورة عنواناُ :/ صفي الشارع الممتد من العشار الى البصرة/ لم تكن تجربتنا مع ذا الشارع وليدة يوم أو شهر، كنا نقطعه كلّ يوم للوصول الى مدرستنا، ونحنُ داخلَ السيارة التي تُقلنا كنتُ أتطلّعُ الى نخيل الخير التي تُزيّنُ الشارع الطويل والى بعض البيوت الحديثة التي شُيّدت بينها. وكثيراً ما أخذتنا أقدامُنا الى التجوّل فيه. أنا وأصدقائي كنا نجدُ مُتعة ونحن نحكي قصصاً وأحلاماً، لم نُحسّ كللاً ولا ضجراً، كما كانت المكتبةُ العامة في هذا الشارع ،هي ما تُمدّنا بمتعة القراءة في صالتها الوسيعة، واستعارة بعض ما نختارُ. فنُبقي ديناراً عراقياً كتأمين لاعادة الكتاب المعار سالماً. كان الدينارُ العراقي يوم ذاك في أوجه احترامه. أنهيتُ قراءة ما كتبتُ قبل عشرات السنين حين كنتُ في الرابع الثانوي، وقرأتُ ملاحظة مدرّستي على ما كتبتُ: / لقد بالغت في وصف هذا الشارع، فهو لا يستحقُ ما قلتِه فيه/ وبدلَ ان تكتب في ملاحظتها الشارع كتبتْ: الشاعر/ قلتُ مع نفسي: انّها لم تُخطيء، هو شاعرٌ حقاً ، يُسمعنا دوماً قصائده، نرى فيه ما لا يراه غيرُنا. لم أكن أيامئذ قادر على المناقشة فصمتُّ. أعدتُ دفتري العزيز الى مكانه بعد أن طبعتُ قبلة على غلافه. وكأنني أقبّل أيامي الماضيات. حين قدمتُ الى بغداد اخترتُ أعزّ ما عندي لأحمله معي، البوم الصور ودفتري هذا. كان بودّي أن احملَ ذلك الشارع معي فهو جزءٌ عزيز من أرض مدينتي، لكنّ حقيبتي جاءت معي بلا شارع وبلا أحبّة. غير أنّها ضمّت كلّ ذكرياتي الأثيرة. تُرى ما فعل الزمنُ بشارعنا ذاك، وأينهم أصحابُ عمري؟ بعضُهم رحلوا عن الدنيا، والآخرون تشظوا في بقاع العالم...