قد تبدو المناقشة حول جولات التراخيص وما تسمى بعقود الخدمة متأخرة جدا فهي أمر واقع كما قيل والعمل جار بها منذ سنوات، وقد يعتقد البعض أيضا أن نقدها يقع ضمن صراع السياسيين الحاليين لكن المستوى العلمي والجاد للنقاش له الدلالة الأكبر.
إن النفط ليس موضوع مشاريع وعقود مع شركات فقط بل هو من صلب السياسة الإقتصادية برمتها بل القضية الوطنية والكيان الوطني العراقي. ولا أعتقد أن الإعتراض من قبل المعنيين ومنهم الإستاذ حمزة على ممارسات حكومة إقليم كردستان نابعا فقط عن عدم قبولهم بمحصلة تقسيم العائدات النفطية بين الحكومة الإتحادية والإقليم، بل للقناعة بأن لهذه الممارسات أهداف غير ما هو مصرح به وفي غير المصلحة المشتركة للعراق والشعب الكردي. والسياسة النفطية ليست فقط مسألة فنية أو مالية وبالتأكيد أنها لا تختزل بالحصول على أعلى إيراد حكومي بأسرع وقت، وهذا الهدف بدوره خاضعا لعوامل كثيرة ولا ينتج عن مجرد الإسراع في رفع االطاقة الإنتاجية بأعلى وتيرة. ونجد في تجربة العراق الحالية أن إرتفاع عائدات النفط سواء كان بسبب إرتفاع الأسعار أو الإنتاج أو كليهما، لا يضمن حتى تحسن مؤشرات الرفاهية، ناهيكم عن الإعمار والتنمية.
إن ما يؤكده الإقتصاديون ليل نهار ولا أدري إن كنا ناجحون في إيصال الفكرة، هو أن كون السياسة النفطية هي “النجاح الوحيد” من بين القطاعات والسياسات الإقتصادية على حد وصف الأستاذ حمزة الجواهري، قد يكون بعينه النزيف والفشل المبهر، وإن نجاحا في قطاع النفط وحده يصبح عاملا سلبيا وليس حتى حياديا. رحم الله الدكتور عباس النصراوي الذي كان يكرر ما معناه أن من أكبر مشاكل الإقتصاد العراقي هي حاجته إلى النفط كي يتخلص من إعتماده على النفط وهذه معادلة صعبة للغاية.
الكلام عن النفط لا يقتصر على الأداء الفني للقطاع، لكن الموضوع هو كما أشار الأستاذ فاروق يونس أن السياسة النفطية ليست مسؤولية وزارة النفط بل مسؤولية الجميع، أما الوزارة فعليها التطبيق العملي. ولا داعي للخلط بين نقد جولات التراخيص وعدم تقدير جهود وظروف العاملين في القطاع النفطي. إن تقييم الأداء في القطاع قضية منفصلة تحتاج تظافر الجهود ولدينا أمثلة من الدراسات القيمة منها الدراسة التي قام بها الأستاذ حمزة قبل سنتين حول أوضاع الحقول والمشاريع وعسى أن يحاول أن يقنعنا أن تحسنا فعليا قد حصل بما يستدعي تقييمه الجديد الذي يختلف كليا عن السابق.
أما آلية جولات التراخيص والإلتزامات والنتائج المترتبة عليها، فهي موضوعا آخرا وقد وضعت هذه الآلية في ظروف نعرفها جميعا ومن قبل شركة أجنبية ودون حوار على نطاق المجتمع ولا حتى الإطلاع الشكلي على أهداف وآفاق السياسة والنتائج المتوخاة. وقد تم إختيار العروض الفائزة على أساس معيارين أساسيين فقط وهما أوطأ تعويض كربح للشركة المتعاقدة من البرميل الواحد وأعلى سقف إنتاجي، والأستاذ حمزة يقول بغير ذلك، لكن النتيجة تدل على أن كل المعايير الأخرى ثانوية، إن لم تكن شروط عامة لا تختلف كثيرا عن شروط التأهيل. والسقوف الإنتاجية المبالغ فيها كانت محصلة لآلية مصممة لتحقيق تلك النتيجة، والكلام عن أن الشركات فُرض عليها القبول بشروط تعتبرها غير مجدية يفتقد إلى الدلائل، بل بالعكس تسعى هذه الشركات لتعميم مثال العراق على البلدان النفطية الأخرى رغم أنها بالتأكيد كانت تأمل بإمتيازات أكبر. وهذه الشركات وخاصة كبرياتها ليست حكومية كما ذُكر، ولكن لها أدوار إستراتيجية بالتأكيد. والخطر هنا هو من الدور الإستراتيجي المفروض على البلدان النفطية بتلبية حاجات السوق العالمية بغض النظر عن مصلحة البلد المنتج نفسه، ولنا دليلا على ذلك في تفاخر السياسيين بدخول العراق سباقا مع السعودية على موقع البلد الأول في التصدير.
إن قرار الدخول بمعظم الحقول العملاقة مرة واحدة وقرار تسليم حقول الشركات الوطنية لإدارة مشتركة أصبحت المبادرة فيها للشركات الأجنبية هو ما يثير الحفيظة وإن أردنا أن نخوض ببعض التفاصيل، فعلينا أن نسأل لماذا لم تطرح أهم وأكبر الحقول لتراخيص مشروطة بقيام الشركات بإستثمارات حقيقية في التكرير والصناعات ذات العلاقة، ولماذا نتذكر الآن فقط حاجتنا لهذا النوع من الإستثمار ونسعى لتطوير ما تبقى من الحقول العملاقة كي نستدرج شركة أجنبية لعمل إستثماري مطلوب، أو نتذكر مناطق أو حقول حدودية بحاجة إلى تطوير للحفاظ على حقوق العراق من التسرب للدول المجاورة، أو ربما نتذكر الآن فقط حاجتنا لعلاقات تجارية إستراتيجية فنفكر بمنح رقع جديدة لشركات هندية مثلا؟ والتساؤلات يمكن أن تطول، ولا ننسى أكسون وغيرها بعد الإلتزام بكل هذه العقود، شرعت بالقيام بعمليات تعتبرها الحكومة غير قانونية وبالتالي فهي سرقات علنية للنفط. فهل لنا أن نسأل عن سبب عدم مقدرة الحكومة على طرد أكسون من حقل غرب القرنة؟ هل أن العقد هو فعلا مجرد عقد خدمة يمكن للعراق أن يلغيه بإمهال الشركة مدة قصيرة حسب رأي الأستاذ حمزة؟ وما معنى فكرة بيع أكسون للعقد إن كان الأمر كذلك؟
وفي كل الأحوال، ليس من المهم تسمية العقود بل فحواها ومنها طول الأمد والتحكيم الخارجي وشرط الإجماع في القرارات الإدارية، أي شرط موافقة الشركة الأجنبية رغم أن الكلف كلها يدفعها العراق. ويبدو لي أن الأستاذ حمزة ينظر إلى طول أمد العقد على أنه عنصرا إيجابيا بإفتراض أن الشركة ستبقى إلى النهاية خير من سيعمل على تحقيق أعلى معامل إستخلاص، وهذه فرضية تتناقض مع ما هو معروف عن ممارسات هذه الشركات وتفترض أيضا أن العقود ستمدد إلى حين الإستنزاف النهائي للنفط. وحين تشمل العقود معظم إن لم نقل كل الثروة النفطية لاحقا، فإننا أمام فقدان كامل للقدرة الوطنية على التحكم بالسياسة النفطية كما أشار الأخ الدكتور كامل العضاض. ومن الواضح أن أمد العقد ذو علاقة بطبيعته، فنحن لا نتحدث هنا عن عقد صيانة أو خدمة ذو حدود ومعالم ثابتة إلى حد بعيد، بل أن طبيعة إلتزامات الشركة المتعاقدة وعملها سيختلفان كليا بعد فترة التطوير وستنخفض أعباء هذه الإلتزامات على الشركة وتستمر بجني الأرباح فقط. وحتى قبل ذلك وخلال الفترة التي توصف فيها عمليات الشركة كإستثمار، تسمح هذه العقود بإسترداد سريع لنفقات الشركات وخاصة في حقل الرميلة. كذلك، فإن مردود الشركة حسب بنود العقود سيرتفع مع الزمن إلى ذروة تنتهي بمرحلة إستنزاف الحقل، وأهم من ذلك، أن أرباح الشركة لا تقتصر على هذا التعويض وهو بحدود دولارين ناقصا الضريبة. بل هناك عناصر مهمة من كلف التطوير والإنتاج التي تحتوي على عناصر ربح للشركة المتعاقدة أو لفروعها في الخارج، وبالتأكيد أن المبالغة بالتكاليف لا تنجم فقط عن ظروف العراق الحالية بل لأن رفع الكلفة لا يضر بمصلحة الشركات الأجنبية إن لم يفدها بالفعل. ويخبرنا الأستاذ حمزة أن التكلفة الإضافية هي بما يقرب دولار واحد للبرميل، والواقع أن الجزم في أمر كهذا يحتاج جهود كبيرة وإفصاح حقيقي ومتابعة جادة لا للمصاريف الحالية فقط، بل للمشاريع القادمة والمطلوبة وأنا لا أعرف كيف توصل الأستاذ حمزة إلى هذا الرقم ونحن أمامنا برنامج غير محدد لحد الآن وأمده ربما عشر سنوات لحين وصول إنتاج الذروة حسب ذكره. أعتقد أننا بحاجة إلى تظافر الجهود العلمية والفنية في هذا المجال وأشير إلى أهمية ما ذكره الدكتور علي مرزا عن أهمية الإفصاح الجدي عن المعلومات الخاصة بالعقود والمشاريع النفطية، وتجدر الإشارة إلى أنه هناك شكاوى داخل البرلمان من عدم معرفة أوجه إنفاق المبالغ المخصصة للعقود النفطية.
وبالتأكيد إن الكوادر العراقية تبذل قصارى جهودها لمنع الشركات من إستنزاف موارد البلاد في تكاليف مبالغ فيها، ولكن المهم عدم التقليل من حجم الجهد المطلوب ولابد من الإعتراف بأن السباق بين المركز والإقليم والإقدام على أسرع عملية إستخراج للموارد النفطية نتيجته الحتمية هي إضعاف السيطرة على الأعمال والتكاليف، وقد لا يكفي التعديل الذي أجري على العقود بتخفيض إنتاج الذروة في الحفاظ على مصلحة العراق. والوقت ربما لم يفت لتصحيح أكثر جذريا، وفي رأيي أن كون الإتفاقيات والعقود والمشاريع أمرا واقعا بالفعل كما أشار د. على مرزا، لا يعني عدم إمكان التغيير. هناك حاجة إلى تصور إستراتيجي واضح لمستقبل القطاع النفطي وعلاقته بالإعمار والتنمية، لا أن نسمع بين حين وآخر بجولة تراخيص جديدة ترهن ما تبقى من الثروة الوطنية لحساب شركة أجنبية. ولا يفي الكلام عن إستراتيجية للقطاع تقوم بصياغتها شركة إستشارية، فالإستراتيجية هي عملية إجتماعية سياسية إضافة إلى طابعها الإقتصادي والفني. وبعكس ذلك يمكن أن تعم الفوضى وتطل بؤر الفساد في أكثر من مكان وتسعى للتعاقد على الثروة النفطية بعيدا عن المرجعية والقرار الوطنيين.
*) اكاديمي وباحث إقتصادي عراقي
وللاطلاع اكثر المصدر