مناظرة عبدالله بن جعفر مع معاوية بن أبي سفيان
قال عبدالله بن جعفر بن أبي طالب : كنت عند معاوية ومعنا الحسن والحسين ـ عليهما السلام ـ وعنده عبدالله بن عباس فالتفت إليّ معاوية فقال : يا عبدالله ما أشدَّ تعظيمك للحسن والحسين ـ عليهما السلام ـ ؟! وما هما بخير منك ولا أبوهما خير من أبيك ، ولولا أن فاطمة بنت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لقلت ما أمك أسماء بنت عميس بدونها .
فقلت : والله إنّك لقليل العلم بهما وبأبيهما وبامِّهما ، بل والله لهما خيرٌ منّي ، وأبوهما خيرٌ من أبي ، وأمهما خير من أمي .
يا معاوية ، إنك لغافلٌ عمّا سمعته أنا من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول فيهما وفي أبيهما وأمّهما ، قد حفظته ووعيته ورويته .
قال : هات يا ابن جعفر فو الله ما أنت بكذّاب ولا متَّهم ؟
فقلت : إنَّه أعظم مّما في نفسك .
قال : وإن كان أعظم من أحدٍ وحِرآء جميعا ، فلست أبالي إذا قَتَل الله صاحبك ، وفرَّق جمعكم وصار الامر في أهله ، فحدِّثنا فما نبالي بما قلتم ولا يضرُّنا ما عدمتم .
قلت : سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ وقد سُئل عن هذه الاية: ( وما جعلنا الرُّؤيا التي أريناك إلاّ فتنةً للناسِ والشجرة الملعونة في القرآن )(2) .
فقال : إنّي رأيت اثني عشر رجلاً من أئمّة الضلالة يصعدون منبري وينزلون ، يردّون أمَّتي على أدبارهم القهقرى(3) وسمعته يقول : إنَّ بني أبي العاص إذا بلغوا خمسة عشر رجلاً جعلوا كتاب الله دخلاً ، وعباد الله خولاً ، ومال الله دولاً(4) .
يا معاوية إنّي سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يقول على المنبر وأنا بين يديه وعمر بن أبي سلمة ، وأسامة بن زيد، وسعد بن أبي وقاص ، وسلّمان الفارسي ، وأبو ذر ، والمقداد ، والزبير بن العوام ، وهو يقول : ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؟ فقلنا : بلى . يا رسول الله ، قال : أليس أزواجي أمَّهاتكم ؟!
قلنا : بلى يا رسول الله .
قال : مَن كنت مولاه فعليُّ مولاه ، أولى به من نفسه ، وضرب بيده على منكب عليّ فقال : اللهمَّ وال مَن والاه ، وعاد من عاداه(5) ، أيّها الناس ، أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ليس لهم معي أمر ، وعليُّ من بعدي أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ليس لهم معه أمر ، ثمّ ابني الحسن أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، ليس لهم معه أمر ، ثمّ عاد فقال : أيّها الناس ، إذا أنا استشهدت فعليّ أولى بكم من أنفسكم ، فإذا استشهد عليُّ فابني الحسن أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ، فإذا استشهد الحسن فابني الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ، فاذا استشهد الحسين فابني علي بن الحسين أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر ، ثم أقبل عليّ ـ عليه السلام ـ فقال : يا علي ، إنك ستدركه فأقرأه مني السلام ، فإذا استشهد فابني محمد أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم، وستدركه أنت يا حسين فأقرأه مني السلام ، ثم يكون في عقب محمد رجال ، واحد بعد واحد ، وليس منهم أحد إلاّ وهو أولى بالمؤمنين منهم بأنفسهم ليس لهم معه أمر ، كلّهم هادون مهتدون(6) .
( الى أن قال ) : فقال معاوية : يابن جعفر ، لقد تكلّمت بعظيم ولئن كان ما تقول حقّاً لقد هلكت أُمّة محمد ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ من المهاجرين والانصار غيركم أهل البيت وأوليأكم وأنصاركم ؟ فقلت : والله إنّ الّذي قلتُ حقٌ سمعته من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ .
قال معاوية : يا حسن ويا حسين ويا بن عباس ما يقول ابن جعفر ؟! فقال ابن عباس : إن كنت لا تُؤمن بالذي قال فأرسل إلى الّذين سماهم فاسألهم عن ذلك .
فأرسل معاوية إلى عمر بن أبي سلمة ، وإلى أسامة بن زيد فسألهما، فشهدا أنّ الذي قال ابن جعفر قد سمعناه من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ كما سمعه .
فقال معاوية : يابن جعفر قد سمعناه في الحسن والحسين وفي أبيهما ، فما سمعت في أمهما ؟! ـ ومعاوية كالمستهزئ والمُنكِر ! فقلت : سمعت من رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يقول : ليس في جنّة عدن منزل أشرف ولا أفضل ولا أقرب إلى عرش ربي من منزلي ، ومعي ثلاثة عشر من أهل بيتي أخي عليّ وابنتي فاطمه وأبناي الحسن والحسين ، وتسعة من ولد الحسين ، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ، هداة مهتدون ، وأنا المبلغ عن الله ، وهم المبلغون عني ، وهم حجج الله على خلقه ، وشهداؤه في أرضه ، وخزّانه على علمه ، ومعادن حكمته ، من أطاعهم أطاع الله ، ومن عصاهم عصى الله ، لا تبقى الارض طرفة عين ( إلاّ ) ببقائهم ، ولا تصلح إلاّ بهم ، يخبرون الامة بأمر دينهم ، حلالهم وحرامهم ، يدلّونهم على رضا ربهم ، وينهونهم عن سخطه ، بأمر واحد ونهي واحد ، ليس فيهم اختلاف ولا فرقة ولا تنازع ، يأخذ آخرهم عن أولهم إملائي وخط أخي علي بيده ، يتوارثونه إلى يوم القيامة ، أهل الارض كلّهم في غمرة وغفلة وتيهة وحيرة غيرهم وغير شيعتهم وأوليائهم ، لا يحتاجون إلى أحد من الامة في شيء من أمر دينهم ، والامة تحتاج إليهم ، هم الذين عنى الله في كتابه وقرن طاعتهم بطاعته وطاعة رسول الله ، فقال : (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم )(7) .
فأقبل معاوية على الحسن والحسين وابن عباس والفضل بن عباس وعمر بن أبي سلمة وأسامة بن زيد ، فقال : كلّكم على ما قال ابن جعفر ؟! قالوا : نعم .
قال : يا بني عبد المطلب إنكم لتدّعون أمرا عظيما وتحتجون بحجج قوية ، إنْ كانت حقا! وإنكم لتضمرون على أمر تسرونه والناس عنه في غفلة عمياء ، ولئن كان ما يقولون حقا لقد هلكت الامة ، وارتدت عن دينها ، وتركت عهد نبينا غيركم أهل البيت ، ومن قال بقولكم، فأولئك في الناس قليل .
فقلت : يا معاوية إن الله تبارك وتعالى يقول : ( وقليل من عبادي الشكور )(8) .
ويقول : ( وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين )(9) .
ويقول : ( إلاّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم )(10) .
ويقول لنوح ـ عليه السلام ـ : ( وما آمن معه إلاّ قليل )(11) .
يا معاوية ، المؤمنون في الناس قليل ، وإن أمر بني اسرائيل أعجب حيث قالت السحرة لفرعون : ( فاقضِ ما أَنت قاضٍ إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ، إنا آمنَّا بربنا )(12) .
فآمنوا بموسى وصدّقوه واتّبعوه، فسار بهم وبمن تبعه من بني اسرائيل ، فأقطعهم البحر وأراهم الاعاجيب ، وهم يصدقون به وبالتوراة ، يقرون له بدينه ، فمر بهم على قوم يعبدون أصناما لهم فقالوا : ( يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة )(13) .
ثم اتخذوا العجل فعكفوا عليه جميعا غير هارون وأهل بيته .
وقال لهم السامري : ( هذا إلهكم وإله موسى )(14) .
وقال لهم بعد ذلك : ( ادخلوا الارض المقدّسة التي كتب الله لكم )(15) .
فكان من جوابهم ما قص الله في كتابه : ( إِنَّ فيها قوما جبَّارين وإنّا لن ندخُلها حتى يخرجوا منها فإن يخرُجُوا منها فإنَّا داخلون )(16) قال موسى عليه السلام : (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرُق بيننا وبين القوم الفاسقين)(17) .
فاحتذت هذه الامة ذلك المثال سواء ، وقد كانت فضائل وسوابق مع رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، ومنازل منه قريبة ، مقرين بدين محمد والقرآن ، حتى فارقهم نبيهم ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فاختلفوا وتفرقوا وتحاسدوا وخالفوا إمامهم ووليهم ، حتى لم يبق منهم على ما عاهدوا عليه نبيهم ، غير صاحبنا الّذي هو من نبينا ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ بمنزلة هارون من موسى ، ونفر قليل لقوا الله عزوجل على دينهم وإيمانهم ، ورجع الاخرون القهقرى على أدبارهم كما فعل أصحاب موسى ـ عليه السلام ـ باتخاذهم العجل وعبادتهم إيّاه ، وزعمهم أنه ربهم ، وإجماعهم عليه غير هارون وولده ونفر قليل من أهل بيته .
ونبينا ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قد نصّب لامته أفضل الناس وأولاهم وخيرهم بغدير خم(18) وفي غير موطن ، واحتجّ عليهم به وأمرهم بطاعته ، وأخبرهم أنّه منه بمنزلة هارون من موسى(19) ، وأنه ولي كل مؤمن بعده ، وأنه كل من كان وليه ، فعلي وليه ، ومن كان أولى به من نفسه فعلي أولى به، وأنه خليفته فيهم ووصيه ، وأن من أطاعه أطاع الله ، ومن عصاه عصى الله ، ومن والاه والى الله ، ومن عاداه عادى الله ، فأنكروه وجهلوه وتولّوا غيره !! يا معاوية أما علمت أن رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ حين بعث إلى مؤتة أمّر عليهم جعفر بن أبي طالب ، ثم قال إن هلك جعفر فزيد ابن حارثة ، فإن هلك زيد فعبد الله بن رواحة ، ولم يرض لهم أن يختاروا لانفسهم .
أفكان يترك أمته لايبيّن لهم خليفته فيهم ؟! بلى والله ، ما تركهم في عمياء ولا شبهة ، بل رَكِبَ القوم ما ركبوا بعد نبيهم ، وكذّبوا على رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فهلكوا وهلك من شايعهم ، وضلّوا وضلّ من تابعهم ، فبعدا للقوم الظالمين .
فقال معاوية : يابن عباس إنك لتتفوه بعظيم! والاجتماع عندنا خير من الاختلاف ، وقد علمت أن الامة لم تستقم على صاحبك .
فقال ابن عباس : إنّي سمعت رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يقول : ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها(20) ، وإن هذه الامة اجتمعت على أمور كثيرة ليس بينها اختلاف ولا منازعة ولا فرقة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، والصلوات الخمس ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت ، وأشياء كثيرة من طاعة الله ونهي الله ، مثل : تحريم الزنا ، والسرقة ، وقطع الارحام ، والكذب ، والخيانة ، واختلفت في شيئين :
أحدهما : اقتتلت عليه وتفرقت فيه وصارت فرقا ، يلعن بعضها بعضا ويبرأ بعضها من بعض .
والثاني : لم تقتتل عليه ولم تتفرق فيه ، ووسّع بعضهم فيه لبعض، وهو كتاب الله وسنة نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وما يحدث زعمت أنه ليس في كتاب الله ولا سنة نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ .
وأمّا الّذي اختلفت فيه وتفرقت وتبرأت بعضها من بعض ، فالملك والخلافة ، زعمت أنّها أحق بهما من أهل بيت نبي الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فمن أخذ بما ليس فيه ـ بين أهل القبلة ـ أختلاف وردّ علم ما اختلفوا فيه إلى الله سَلِم ونجّا من النّار ، ولم يسأله الله عما أشكل عليه من الخصلتين اللتين اختلف فيهما ، ومن وفقه الله ومَنَّ عليه ونوّر قلبه وعرّفه ولاة الامر ومعدن العلّم أين هو ، فعرف ذلك كان سعيدا وللّه وليّا ، وكان نبي الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ يقول : رحم الله عبدا قال حقا فغنم أو سكت فلم يتكلم(21) .
فالائمة من أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومنزل الكتاب، ومهبط الوحي ومختلف الملائكة ، لا تصلح إلاّ فيها ، لان الله خصها وجعلها أهلاً في كتابه على لسان نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، فالعلم فيهم وهم أهله وهو عندهم كلّه بحذافيره ، باطنه وظاهره، ومحكمه ومتشابهه وناسخه ومنسوخه .
يا معاوية إن عمر بن الخطاب أرسلني في إمرته إلى علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ أنّي أريد أن أكتب القرآن في مصحف فابعث الينا ما كتبت من القرآن .
فقال : تضرب والله عنقي قبل أن تصل إليه .
قلت : ولم ؟!
قال : إن الله يقول : ( لا يمسه إلا المطهرون )(22) . يعني لا يناله كلّه إلا المطهّرون ، إيّانا عنى ، نحن الّذين أذهب الله عنّا الرجس وطهرنا تطهيرا(23) ، وقال : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا )(24) .
فنحن الّذين اصطفانا الله من عباده ، ونحن صفوة الله ولنا ضَرب الامثال وعلينا نزل الوحي .
فغضب عمر وقال : ان إبن أبي طالب يحسب أنه ليس عند أحد علم غيره ، فمن كان يقرأ من القرآن شيئا فليأتنا به ، فكان إذا جاء رجل بقرآن فقرأه ومعه آخر كتبه ، وإلاّ لم يكتبه .
فمن قال ـ يا معاوية ـ : إنه ضاع من القرآن شيء فقد كذب ، هو عند أهله مجموع .
ثم أمر عمر قضاته وولاته فقال : اجتهدوا رأيكم ، واتبعوا ما ترون أنه الحق ، فلم يزل هو وبعض ولاته قد وقعوا في عظيمة فكان علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ يخبرهم بما يحتج به عليهم ، وكان عمّاله وقضاته يحكمون في شيء واحد بقضايا مختلفة فيجيزها لهم ، لان الله لم يؤته الحكمة وفصل الخطاب ، وزعم كل صنف من أهل القبلة أنهم معدن العلم والخلافة دونهم ، فبالله نستعين على من جحدهم حقهم، وسنّ للناس ما يحتج به مثلك عليهم ، ثم قاموا فخرجوا