بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
لقد حدد الله عز وجل هوية الحياة التي يريد لنا أن نحياها عندما قال: «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» وعندما قال: «الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ» فالحياة في حساب الله هي ساحة امتحان واختبار وابتلاء.
ولطالما ارتبط مفهوم الابتلاء بأذهان الناس بالمرض، والضعف، والفقر، وفقدان الأحبة، ولكن قلّما نجد من يستحضر أن البلاء يمكن أن يكون عكس ذلك تماماً. فالبلاء كما قد يكون متلازماً مع المرض والخسارة والنقص، كذلك الأمر فإن الابتلاء قد يكون مرادفا ومتلازماً لما يعتبره البعض حظاً أو وفرة أو ثروة أو مكسبا أو موقعا ووصولاً..
الأمر سيان:
ابتلاء النقص وابتلاء الزيادة..
ابتلاء الضعف وابتلاء القوة..
ابتلاء الفقر وابتلاء الغنى..
ابتلاء الاستضعاف وابتلاء التمكن..
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ}.. نعم، الإنسان يبتلى عندما يهبه الله مالاً، أو أولاداً، أو موقعاً، أو جمالاً، أو قوةً، أو شرفاً، أو مجداً، أو أي قدرة من القدرات أو طاقة من الطاقات ..
فالانسان هو في بلاء، حتى لو كان في اعتبار نفسه أو الناس، محظوظاً، وأنَّ الدنيا أقبلت عليه، وأن هذا ثمرة جده وكده وأنه يستحق أن يصل إلى ما وصل إليه.
أما لماذا هو ابتلاء،فلأن الله يختبر بالنعم والعطايا إيمان الإنسان وجديته، فهل يتراجع عندها في إيمانه؟
هل يشعر أنه مستغن؟ هل ينكر ويفسد كما فعل فرعون؟ أم هل يجحد ويمنع كما فعل قارون؟
أم يحول هذه النعم إلى فرصة لبلوغ رضوان الله وخير الناس وصالح أمرهم، النعم هي مسؤولية في حساب الله: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
وهذا هو حديث الإمام الصادق(ع): "إنّ الله لم ينعم على عبدٍ بنعمةٍ إلا وقد ألزمهُ فيها الحجّة من قبله..
- فمن منَّ الله عليه فجعلهُ موسّعاً عليه في ماله، فحجّتهُ عليه ماله ثم تعاهدُهُ الفقراءَ بفرائضه ونوافله.....
- ومَنْ منَّ الله عليه فجعله قوياً في بدنه، فحجّته القيام بما كلّفهُ واحتمال مَنْ هو دونه ممّن هو أضعفُ منه....
- ومن منّ الله عليه فجعله شريفاً في قومه جميلاً في صورته، فحجّته عليه أن لا يغمط حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله"
أن ابتلاء الخير، قد يكون عند بعض الأشخاص والمجتمعات، أشد وطأة من ابتلاء الشر والحرمان. فالكثيرون الذين قد يصمدون أمام ابتلاء المصائب، هؤلاء أنفسهم، تراهم أمام نفحة من نعمة أكانت مالا أو منصبا أو سلطة، يفقدون توازنهم ويطغى عليهم حب الشهوات، فينسون ربهم الذي كانوا بالامس القريب يدعونه لتفريج همومهم وابتلاءاتهم ويدعونه لكي يرزقهم، تراهم ما إن يستجيب الله لهم وتتبدل أحوالهم حتى تتبدل طباعهم ويتغير سلوكهم بشكل عجيب والله، ينسون الناس من حولهم والمجتمع فيصيبهم التكبر واللامبالاة أو أسوأ من ذلك كأنهم ينتقمون لماضيهم.
شهدنا كيف أن بعض المجتمعات التي انتقلت بين ليلة وضحاها من فقر إلى غنى، كيف انقلبت رأسا على عقب، فبدل أن يفرح الفقراء، نرى أن الفقر يزداد والطبقية تتعزز، وترى الفساد في إدارتها للموارد والمقدرات، والنعم والوظائف، التي طالما طالبوا أن توزع كما أوصى الله بالعدل وعلى أساس الكفاءة، تراهم عندما وصلوا إلى دنيا هارون الرشيد، نسوا كليا كل شعاراتهم ومبادئهم ومحوا ذاكرتهم بكبسة زر، وكانوا مصداق خوف رسول الله:"والله ما الفقر أخشى عليكم بل أن تبسط الدنيا عليكم فتنافسوها".
بالفعل أمر يحير.. كيف أن مظلوم الامس يصبح عندما تصل السلطة اليه ظالماً، ومحروم الامس عندما تصل اليه سدة القرار يصبح مستأثراً، وكيف أن مستضعف الامس يصبح مستكبرا، يحار علماء النفس والاجتماع في دراسة هذه الظواهر ويحللون اسبابها ونحن من المنظور القرآني نقول بكل بساطة انها سقوط في امتحان النعم التي وعد الله بها {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}والسبب واضح: ضعف الايمان، غياب التقوى، ورفع منسوب الهوى والغرائز والعمى الارادي، ومكافأة الذات وحب النفس وما الى هنالك، وكل واحد منا لا شك قد خبر أكثر من حالة، انقلبت بسبب النعمة إلى التكبر والتجبر والابتعاد عن الصراط السوي.
ولأن التربية دوماً هي الحل المرتجى، ومن هذا الباب التربوي كان التحذير من الله ومن رسوله وأهل بيته، للتحلي بالمسؤولية عند حلول النعم ولهذا كان التأكيد مثلاً على موضوع الحمد... «الحمدلله» كم مرة نُذكَّر بها في الفاتحة، وكذلك الشكر والله يقول: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} {لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، كذلك الدعوات إلى التصدق، ومجالسة الفقراء لتربي في داخلك التواضع، وإلى زيارة القبور لأخذ العبرة وتذكر الموت والحساب..هذه كلها تمنعك من أن تبطر بالنعمة او الموقع او السلطة، فتتوازن وتنجح في اختبار النعم.
ولكن أيها الأحبة، وفي المقلب الآخر هناك نقطة مهمة وهي لا ينبغي اعتبار الحديث عن خطورة ابتلاء النعم دعوة للتخلي عنها زهداً وخوفاً ، كما هو منطق اعتمده بعض الحكام لشعوبهم من أجل تخدير الناس وابقائهم على فقرهم وقبولهم بالظلم والذل.. ويقول هذا المنطق: أن ازهدوا أن اصبروا أن تعففوا وضحوا... وتبرع وعاظ السلاطين وسوّقوا لذلك أحاديث نراها تخالف نص القرآن، الذي وضع التقوى معياراً أساسياً في الحسابات الأخروية.
وهذه الاحاديث مثل مقولة أن الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسماية عام، او الفقراء أصدقاء الله او الفقر زين عند الله يوم القيامة او "ألا اخبركم عن أهل الجنة؟" قال: "كل ضعيف مستضعف..." أو غير ذلك من المقولات التي تحث على ترك السعي وراء النعم في الدنيا..
لقد نجح هؤلاء بالكذب على الله وعلى رسوله او على الأقل، وجهوا هذه الأحاديث بغير وجهتها (فقد يكون بعض ذلك ورد في اطار الحديث عن الفقر على حساب الإيمان، أو الضعف مقابل التجبر والعصيان) ولكنها انتزعت من سياقها ورُكِّبت لخدمة أهداف أخرى وهذا ما يسمى بالكذب على الله ورسوله. لقد سعى هؤلاء بمنطقهم هذا أن يصبح الفقر والاستضعاف خاصية محمودة تقرب الإنسان الى الله بحجة أن الانسان لو تحسنت اوضاعه فقد ينحرف او يطغى ويستكبر، فالحري به حتى يريح نفسه من هذه الابتلاءات ان يبتعد عنها... هذا منطق لم يطلبه الله أبدا من عباده ففي الحديث إن الله يكره منكم البؤس والتباؤس وهناك قول للامام علي: "لو تمثل لي الفقر رجلا لقتلته" .
أيها الاحبة..
بقي نقطة لا بد ان نشير اليها ونختم... هي ان الدعوة الى اعتبار البلاء نعمة كما هي في الاحاديث مثل"اذا احب الله عبدا ابتلاه ".. لا يعني ابداً رفض النعمة بقدر ما يعني الدعوة الى النجاح في التعامل مع النعمة وهنا يكمن الفرق.. وهي نقولها هكذا: إن البلاء نعمة كونه وسيلتك لتنجح وتتقوى وترتقي في حسابات الله، بحيث تصل الى الله بمالك وبموقعك وبقوّتك وبصحتك وجمالك، فالله لا يريد ابداً من الإنسان المؤمن ان يكون ضعيفاً أو بائسا فالمؤمن القوي احب الى الله من المؤمن الضعيف والله يندد في كتابه العزيز بإولئك الذين رضوا بضعفهم:«إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ...».