دعونا نتفق في البداية أن هذا الموضوع لا يشمل الجميع، لكنه في ذات الوقت ظاهرة حقيقية لا يمكن إنكارها، عدم القدرة على الاستمتاع بالحياة هي صفة أساسية لدى العرب من مختلف الجنسيات. وهو الأمر الذي أصبح يثير الحنق، ففي كل مرة أحاول فيها تجاوز هذه الصفة التي يبدو وكأنها وراثية. أفشل في ذلك ويدفعني المجتمع إلى العودة إليه من جديد. وذلك لأن هذه الصفة النادرة لا تكتفي بإلقاء الفرد داخل تلك الدائرة المظلمة من عدم الاستمتاع، لكنها تدفعه دفعاً لجذب الآخرين. سواء بالتهكم عليهم عند محاولتهم للخروج منها، أو بمهاجمتهم حتى يرتدعون عن ذلك. ثقافة عدم الاستمتاع تطورت مؤخراً إلى الاستمتاع بالبؤس ، والتلذذ بالشقاء ، والشعور اللا إرادي بالرضا كلما زادت متاعبنا. ليس الرضا بابتلاء الله بالطبع، ولكن الفرح بالظهور بمظهر الشهيد البائس المتلذذ بالحزن في سادية عجيبة. الإعجاب بالمسلسلات البائسة، الأغاني الدرامية الحزينة. مشاركة صور الموتي على الشبكات الإجتماعية. والتحدث عن هذه الأمور طوال الوقت. لا تهونوا من الاستمتاع بالحياة، فبسببها ينجح الغرب ونفشل نحن، فما الداعي للنجاح إذا كنا غير قادرين على الاستمتاع بفرحته؟ أعرف أشخاصاً يتعمدون الفشل للتلذذ بالحزن، ينجذبون إلى العلاقات الفاشلة، أو المهن غير المناسبة، فقط ليفشلوا في النهاية ويظلوا في طور الاكتئاب فترة طويلة من الزمن.
ولعدم الاستمتاع بالحياة طرق عديدة، قمت طوال الفترة الماضية بمتابعتها ورصدها، مع الاعتراف بأن هناك الكثيرين ممن رحمهم الله من هذا الأمر، قد يعتبرهم المجتمع شواذاً عن القاعدة أو غريبو الأطوار، وقد يخسرون الكثير من المعارف والمقربين، إلا أنني من مكاني هذا أرفع لهم القبعة.
الحسد
الحقيقة أن الحسد شيء حقيقي ومجرب، لكن عند تحوله إلى هاجس يطارد المرء مانعاً إياه من الاستمتاع بالحياة مثل الآخرين، فهنا إذا لنا وقفة. نشر صورك على الشبكات الإجتماعية لن يسبب لك الإصابة بأمراض خبيثة وليعوذ بالله. كتابة أنك سعيد بنجاحك في العمل لن يعني رفدك في اليوم الذي يليه. لا أحد يملك هذه القدرات الخارقة إلا وكان ملكاً للعالم منذ زمن, ولانتهت إسرائيل من على ظهر البسيطة فقط بتجنيد قدراته هذه. إذا كان الحسد وارداً فيجب أن تعي شيئين: أولاً ذكر الله الحسد وذكر المعوذتين الكافيين لردعه، ثانياً أنت لست بهذه الأهمية المطلقة التي ستجعل من أمامك يترك كل ماله وما عليه ويجلس أمام شاشة الحاسب مركزاً قدراته الخارقة لحسدك.
الفيسبوك !
دائماً نعود إلى الفايسبوك المسئول عن نصف ظواهر الجيل الحالي، في بداية ظهوره كان مكاناً مثالاً للتجمع، للاستمتاع، لنشر الأغاني، مقاطع الفيديو، تلك الأيام الجميلة الزائلة. منذ بداية الثورات العربية. ثورة مصر على وجه الخصوص. تحول الفايسبوك إلى مكان ثقيل على النفس. يمتليء بصور الجثث والأخبار عن القتل والعنف المبالغ فيها والغير حقيقية في 50% منها، كلما وليت وجهك رأيت خبراً أو حادث لا يمكن احتماله.. ثم تطور لمهاجمة أي أحد ينأي بنفسه عن ذلك ودفعه دفعاً للاشتراك في العراك والبؤس بلا سبب. هذا الأمر مقصوراً بالمناسبة على العالم العربي نشر صور الجثث لن يعيدها للحياة، ولن يعرف العالم الغربي بما يحدث فهم لا يتابعون صفحتك الشخصية من الأساس. لا مانع من متابعة الأخبار والاستمتاع بنشاطات أخرى على الفايسبوك. لن يتوقف العالم لينظر لك ساخطاً إذا قمت بنشر أخبار سعيدة ومقاطع فيديو طريفة. الحقيقة أن العالم لن يتوقف عندك لأي شيء تفعله على الفايسبوك في أي وقت.
أما عن التعليقات فالحديث سيطول بعض الشيء، تنحصر التعليقات حول أمرين، أما التوعية الدينية أو السياسية على صفحات ليس لها علاقة بالأمر من الأساس. في حرب غزة الأخيرة اكتفى الملايين من الأشخاص بالجلوس أمام الفايسبوك ورصد أي منشورات لا علاقة لها بالحدث المؤسف لمهاجمتها. تنشر صفحة فنية صورة لفنان ما فتجد ما يقارب الألفين تعليق يرددون شيئاً واحداً، الناس يموتون في غزة وأنتم تنشرون أخبار المطرب الفلاني؟ تقوم صفحة عن الموضة بسؤال الناس عن صيحتهم المفضلة، فيجيب شخص -يعتقد أنه عبقري- برد -يعتقد أنه لاذع ومؤثر- بأن الصيحة المفضلة له لون الدم في غزة! يستمر الأمر وتستمر المزايدة رغم أن هناك حلاً سحرياً للجميع. يمكنك بكل بساطة التوجه إلى صفحة سياسية لمتابعة الموقف السياسي في أي مكان وإبداء رأيك به. بل يمكن التوقف عن متابعة الفايسبوك والقيام بشيء إيجابي كحملة لجمع التبرعات مثلاً. يمكنك التوجه للصفحات السياسية الأجنبية ومحاولة إبداء وجه نظرك بشكل متحضر لتصل بالفعل إليهم. لكن ما الذي زدته أنت بتعليقك؟ هل انتهت الحرب؟ هل للفن ذنباً في ذلك؟ هل حدث أي تغيير بالعالم؟ بالطبع لا. الشيء الوحيد الذي تغير شعورك بالرضا الزائف وكأنك قمت بما عليك في النضال. فقط بكتابة بضع كلمات لا يقرأها أحد في تعليق على صفحة لا علاقة لها بالأمر. أما عن التوعية الدينية فحدث ولا حرج. وهى قائمة طوال العام وفي كل المواقف. تزداد حماستها بالطبع في شهر رمضان. فممنوع منعاً باتا الاستمتاع بأي شيء في العالم في هذا الشهر الجليل. رغم أنني أراهن بأن من يردد هذا الكلام لا يلتزم أبداً به. كل شخص حر فيما يفعله .. والحساب عند الله وحده .. يمكنك التوعية بأساليب أكثر لطفاً من ذلك. أو يمكنك الاهتمام بعلاقتك مع الله أولاً فهى عاطفة سرية لا داعي لنشرها على الملأ. ويوم الحساب، سينظر كل شخص في كتابه وليس في كتاب الجالس بجواره. التوعية تتم في أشكال أكثر منهجية وعلماً، بطرق أكثر رفقاً ورحمة. لا أعتقد أن سب من يشاهد مسلسل تلفزيوني في رمضان سيجعله يهرع لحرق التلفاز والبكاء توبة وغفراناً !
الظواهر الغربية ومجاراتها في العالم العربـي
سأتحدث بشكل خاص عن تحدي سطل الثلج الأخير، انتشر الأمر بالطبع في أمريكا وغيرها من الدول الأجنبية، فتابعناه بشغف ومصمصنا شفاهنا في التحدث عن ذكاء التسويق لدى الغرب ونجاحهم في جمع ملايين الدولارات لمرضى الـ ALS في بضعة أسابيع. تابعنا النجوم وهم يقومون بالتحدي وفكرنا كم هم متواضعين ومرحين. ثم وصل التحدي إلى العالم العربي ونفذه بالفعل بعض النجوم المعروفون والأشخاص العاديون لتبدأ نغمة التقريع واللوم، سواء بمدى التفاهة التي وصلنا إليها، أو بتبديد المياة النقية في حين أن هناك الكثيرين ممن لا يجدون بضع رشفات منها. مروراً بالدخول في نيات الجميع والتأكيد بأن من يقومون بالتحدي لا يتبرعون لأي جهة. انتهاءاً بأن من يريد التبرع يمكنه ذلك دون الحاجة لسكب الثلج على رأسه. هناك ما يسمى بالفكرة الترفيهية التي تحمل في باطنها رسالة سامية، ليست كل الأفعال الخيرية قاصرة على تصوير مشاهد محزنة لأطفال مرضى وأشخاص بائسون يبكون ونبكي معهم. وليست كل الأفعال قاصرة أصلاً على وجود هدف ما هام من ورائها. يمكنك بكل بساطة أن تستمتع بالأمر.. فقط..
النجاح .. أصبح أمراً يثيــر الحنق
هذا الأمر ينطبق على أي شيء ينجح بشكل ظواهري سريع، كتاب جديد، فيلم سينمائي، صديق تمت ترقيته. النجاح يستفزنا لأنه يلغي القدرة على الاستمتاع بالفشل الشخصي أو المجتمعي. فيتم البحث بالميكروسكوب عن عوامل الفشل في هذا العمل، أصبحت القاعدة العامة الأن أن كل كتاب ناجح هو كتاب تافه، وكل فيلم اجتمع عليه الأشخاص الطبيعين هو فيلم سخيف بلا عمق. فليذهب العمق إلى الجحيم وليحترق التعقيد للأبد.. ثقافة الاستمتاع في حد ذاتها نجاح.. والكتاب الذي لن تخرج منه بشيء سوى ببضع ساعات من المتعة والخيال والانتقال لعالم آخر خطه الكاتب. أمراً هاماً في حد ذاته. هناك ثقافة عالمية وهي ثقافة البوب آرت المعترف بها في جميع الدول إلا نحن. وهي تعتمد بشكل كلي على الاستمتاع ولا شيء سواه، فلا الكاتب يكتب هذا الكتاب لتتعلم شيئاً ولا يعنيه الأمر كثيراً، هو يكتب فقط من أجل المتعة..ونحن نقرأ فقط من أجل المتعة، ولهذا تنجح الكتب في الخارج وتصبح ضمن “البيست سيلر” وتتحول لأفلام ومسلسلات ناجحة تجلب لهم المليارات. ونتوقف نحن عند مرحلة مصمصة الشفاه والتهكم على الجميع.
لظاهرة عدم القدرة على الاستمتاع العديد من الأشكال ، اكتفيت اليوم بأكثرها انتشاراً. لا شيء يعيب القدرة على الاستمتاع بشيء ما مهما بلغت بساطته. لن يظهرك هذا الأمر عديم الثقافة، أو تافهاً أو رائقاً أو بلا متاعب أو أحمق أو غير مفيد. ولا يجب عليك أن تستفيد شيئاً من كل خطوة تخطوها في حياتك فأنت في الغالب لا تفعل على كل الأحوال. اعطي لروحك القدرة على الاستمتاع لتتلذذ بعد ذلك بالنجاح، بالحب، بالعطاء، بالصداقة، بالخيال، بكل معنى مختلف في الحياة التي لم تعشها بعد. عش .. فالحياة مهما بلغت صعوبتها تمنحك نفسها كل يوم لتستمتع بها. فأرجوك لا تردها خائبة !