لاشك ان ديوان (مفلس) للشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي، حمل الكثير من القلق الوجودي والتوتر واللاجدوى واللامنطق والعبث والوحدة والغربة والاغتراب إلى أخر تلك المفاهيم السوداوية التي تخيم على مناخ المجموعة، وبالطبع فان هذه المعاني تعكس رؤية الشاعر وخلجاته تجاه ما يحيط به من صور الموت والقتل المجاني والخديعة والزيف والاحساس بالفراغ ،
كل هذا خلقت في داخل الشاعر الساعدي ثورة احتجاج ورفض .. فهو يقول :
(أقيمُ سرّا بينَ الأشجار
بعيداً عن خَجَلِ البحرِ, حين يركضُ وراءَ موجِهِ!
هلْ ثمةَ مَهرَبٍ ؟
حين يدُقُ البُعدُ مساميرَهُ في ظلِّي!
ويُطلقُ أصواتَهُ الساخرةِ
في المدى المكبَّل)
وها هو يعيش حتى في مدى، اعطاه صفة المكبل ، وبقي يقود حالاته الرافضة في مجمل قصائد الديوان بإحباط ، وفي لغة بسيطة ذات ايقاع شفيف ، رغم انها تحمل حالات الرفض والانفعال وعلى طريقة الرومانسيين يهرب الى الطبيعة بقوله : (أقيمُ سرّا بينَ الأشجار/بعيداً عن خَجَلِ البحرِ, حين يركضُ وراءَ موجِهِ!)، وعمد الى القصيدة ذات التقطيع الرقمي ، فأسلوب الفصل بالأرقام، أي ترقيم المقاطع، ابتداءً من الرقم (1)، وحتى آخر رقم، تنتهي به مقاطع القصيدة، ولاشك في أن أسلوب الفصل الرقمي هذا ينهض على دلالة سيميائية عامة، تفترض حالةً شعرية، تقوم على النمو والمضاعفة وتصعيد الحس التكاثري لعناصر التشكيل الشعري بين مقطع وآخر، وتظهر حساسية الشاعر تجاه الاشياء ، كونه ينزع الى رفض الواقع والهروب منه وفي قصيدة (اعترافات مفلس)، يقول :
(أعترف
أني الان
مثلُ محاربٍ مهزوم
نُدوبُ المعاركِ على جسَدِهِ
والرَّغباتُ
طلقاتٌ مكتومةٌ من مدفعٍ آليٍ بَعيدْ
و القمرُ لا أراهُ إلا قاحلا
وعلى شُرفتِهِ أزهارٌ جافَّة !!
وماذا بَعد ؟
ذاكرتي الطاعنةُ في النسيان
أشْبهُ بزنزانةٍ مضاءةٍ بمصابيحَ حُمْر
تتذكرُ من سنين الحربِ
خُوذتي
والخُبزَ المغمسِ بماءِ المطرِ
وضَحِكاتِ الخوفِ في الخنادق)
وهذا القول تكريس لما آلت اليه الحرب ، وكون الشاعر محارب فذاكرته الطاعنة في النسيان ، لا تسعفه الا بندوب المعارك على جسده ، وحتى القمر يراه قاحلا (وعلى شرفته ازهار جافة!!)، فيعيش الشاعر الغربة وبأنواعها : الغربة في الكون و الغربة في المدينة والغربة في الحب : فشل التعايش وتحقيق السكينة حول الحب إلى عداوة قاتلة والغربة في الكلمة: عجز الكلمة عن احتواء أزمة الشاعر ومعاكستها لرغبته. وا ذا كانت مهمة الشعر مثلما يقول هاوسمان ( هي تنسيق أحزان العالم ) فأن مهمة الذات الشاعرة في هذا، هي الكشف عن الخوف والحزن اللذين يجتاحان النفس الإنسانية، حينما تنتظر فعل القهر والدمار المنبعث من أدوات الموت التي يصنعها الآخرون لاجل استلاب الإنسانية ذلك الخوف الذي يتشظى ليشمل كل ما هو حي أو غير حي، وليتمخض بعد ذلك عن فعل مقاومة يتحقق النصر بعدها لصدق القضية وحتمية انتصار الإنسان على العدوان 00ففي قصيدة الشاعر الساعدي (الساعة العاشرة) كرس الشعور بالغربة وبكل انواعها ، ثم يعلن في قصيدة (الى اين؟) بقوله :
(فأنا وحدي
فوق حافَّاتِ الشك
أُعلن مملكةَ التيه
وأكتبُ في تقاويمِ
السنينِ الميتةِ
الوقتُ ينصرم
والنهرُ مُنشغل)
اي غربته فعلت فعلها ، وجعلته يعيش الوحدة والشك والتيه فـ(الوقت ينصرم/ والنهرُ مُنشغل) بعلة تقاويم السنين الميتة ، حتى دخل منطقة الوهم في قصيدته المهداة الى الكاتب علي السوداني بقوله :
(وتوهَّمتُ
أن الحزنَ لا يرفعُ سيفَه علينا
آو يخنقنا بسياجه
لكنه.. مَرَ بطيئاً
كالقطارِ على قضبانِ قلوبِنا
توهَّمتُ
وتوهمت كثيرا
أن الأيام لا تفقدُ بريقَها
وللماضي خزائنُ لا تنضَب
وانه حين يداهمني النسيان بَغتة
لا أجزع
لكني كنت وقَتها
اتجولُ في حدائقِ الذاكرة
وامشي حافياً على عُشبِهِ المحترق)
ويبقى الشاعر الساعدي في حوار مستمر مع اشياء الطبيعة ، وقد يذهب بحواره للأشياء اللامرئية ومحاولته أنستنها .. فـ(النص الشعري الحديث حوار دائم ودينامي مع الاشياء، حوار ثر مبني على ديالتيك خاص، مشحون بقيم اصيلة تتسم بالتشابك والعمق والتعقيد، يقوم بمهمة تشكيل النسيج الداخلي عن طريق ربط الاجزاء المتوازية والمتقاطعة والمتضادة في النص الشعري، وينعدم في هذا الحوار ذلك التواطؤ التقليدي القائم بين عالم القصيدة ومساحة الفاعلية الذهنية المستقبلة عند المتلقي، والمعتمدة على خاصية الاشباع المحايد لمراكز الانتظار والتوقع فيه، لذلك فهي تصدم ذوق المتلقي التقليدي بما لا ينتظر ، بمعنى ان المتلقي سيفقد فيها لذة تعود عليها، وتأسس نمط ذوقه على اساسها، لذلك فانه سوف يحتاج على هذا الاساس نوعا من تطبيع العلاقات مع عوالم النص الشعري الحديث، الذي ينهض بذوق المتلقي ويرتفع به الى مناطق جمالية طرية وطريفة ومباغتة، تضج بسحر غير قابل للنفاد فيكبر وعيه نحو استثمار قدرات العقل على نحو اكبر وافضل واكثر جذبا ومتعة. على هذا الاساس يخرج النشاط الشعري من اطار اشباع الحاجة، فليس هو تمرينا جماليا مجردا، انما هو فعل خلاّق خصب، يلد قدرة لامتناهية على الابداع والخلق واستمرارية الانجاز)1 ، وكانت من ضمن مرتكزات حواراته ، خص بعض قصائده بالإهداء الى احد اصدقاءه الادباء وحلق كثيرا بالأحلام وهو يردد :
(لن يوقظَنا الحارسُ بالنفخِ بالبوق
ونركضُ مرتبكين على صوته
ممسكين بحفنة سنين
يبهرنا بريقُ ذكرياتِها
فنلوِّحُ بها في وجه المدينة
التي لا تطوي جروحاً تريد أن تستفيق)..
وهذا احساس بالخلاص ومحاولة الاستفاقة من الجروح ، ولكن الجروح تأبى ان تستفيق فـ(ليس الاديب مجرد انسان يملك مشاعر واحاسيس ويعاني من نفس المشكلات والمصاعب والالام المنتشرة في المجتمع الانساني، انما هو ايضا وقبل كل شيء اخر يبحث عن تجاوز لهذه المعاناة وعن حلول للمشكلات حتى وهو في اكثر لحظاته انفعالا وتصويرا وابداعا..)2، بقول الساعدي :
(في الغربةِ
ابتكرَ الشوقُ أبجديتَه
وتوغَّلَ
بين ثنايا الروح
يعزفُ عند أطرافِ الألمِ
مرثيةَ العودة)
وهنا يصرح بالغربة ، بيد انه يتخلى عن الذاتية ويتحدث بموضوعية عما يلاقيه هو او غيره من اسباب الحزن والفراق والحنين الى العودة ، ويكرر القول في موضع اخر :
(بردٌ وغربة
كوخٌ في أقصى القصرِ
والبردُ يفتحُ ثقوباً في جدرانِ القلب
وشُبَّاكهِ الموصدِ بآلافِ الاسئلة
نامَ الخشبُ في الموقدِ
بانتظارِ روحي التي ستشتعل)
فالشعر تحفيز دائم على المشاكسة المؤزمة لانساق عقلية ، وهي مشاكسة ومكاشفة في آن واحد، فالمكاشفة تجل للمفارقة الحيوية، والمشاكسة تجل آخر للاختراق والخلخلة وتأزيمها للعقل يتم باغتصاب قانون اللغة وتدمير قواعد التواصل اللساني، ومن ثم لا تصبح الكلمات دالة على العالم الوضعي، ولكنها تغدو دالة على الأشياء ذاتها، وهي في كامل عريها ووحشيتها، وهو عري إغراء ولذة، وانكشاف وافتضاض، ولا يخفى ما للشعر من اثارة للأسئلة ، لأنه فعل اللاممكن وفعل تيه وخليط من الخيال والواقع .. وهكذا ضمن هذا السياق يقول في قصيدة (حب عراقي).قُربَ الجِسرِ
حينَ كانَ الخَرابُ
في دورةِ موتِنا السابعِ
رأيتُ
شبحَ امرأةٍ
بملابسَ رَثَّة
طوَّقَتْني بأسئلةٍ مفتوحةٍ
على ذراعِ الجوابِ
و بدأ فتقُ الوجعِ يَكْبُر)
أي (ان الشاعر يسخر كل مايملك من طاقات فنية في سبيل خلق الصورة ونقلها الينا بكامل صفاتها وخصائصها ، وبما يتلاءم وواقع تجربته في القصيدة ، فهو "يصور الاشياء كما يراها ، يلتقط ظلالها الهاربة واشكالها المتغيرة لكي يجعلنا نحس بها كما يحس هو بها" بثباتها وحركتها وفعالياتها المتنوعة والمتعددة ، وهي تخضع لطبيعة التجربة وكيفية حضورها الشعري في القصيدة.)، وهنا لابد من الالتفات الى مسألة الادراك (فوظيفة الادراك والفهم هي التمييز بين محتويات الوعي وتصنيفها واللذات التي تصاحب عمليات التمييز والتصنيف هذه هي التي يتكون منها جمال العالم المحسوس) ، تلك الصورة سواء كان التعبير بها عن الذاتي او الموضوعي ، فهي مثار اسئلة تتوالد على مدار القراءة والتمعن ما بين السطور .. واعتقد ان ديوان (مفلس) للشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي، قد خطى برؤية الشاعر خطوات نحو التعبير الشعري الحديث عن خلجاته واثار اسئلة كثيرة ..
مصادر البحث:
1 ـ كتاب (تمظهرات القصيدة الجديدة) أ.د. محمد صابر عبيد عالم الكتب الحديث ـ اربد ـ الاردن الطبعة الاولى 2013 م ص9
2 ـ كتاب (الادب والفن) حسين علاوي/دار الشؤون الثقافية العامة/الطبعة الاولى ـ بغداد 2009 ص 9
3 ـ ديوان (مفلس) للشاعر قاسم محمد مجيد الساعدي