خليل مطران
شاعر
القطرين
حياته: (1872- 1949):
ولد "خليل مطران" (1872) فى مدينة "بعلبك" لأبوين يتمتعان بالأصل العريق، والده "عبده مطران"، صاحب تقاليد عربية أصيلة، ويمتد نسبه إلى "بنى غسان"، وهو من وجهاء قومه يمتلك الضياع، ويعمل بالتجارة. ووالدته السيدة "ملكة الصباغ"، تتمتع بالأصل العربى، والذكاء، وتذوقها الشعر، وحب الخير، ومساعدة الغير.
وقد نشأ "مطران" متأثرًا بما حوله من عاطفة الخير، وكرم الأخلاق، وبيئة عربية تفخر بعروبتها، وتعتز بكل أسباب العزة والكرامة. وقد ترعرعت طفولته فى مدينة "بعلبك"، التى قد أثَّرت فى الفترة الأولى من حياته، بموقعها، وجمالها، وتاريخها وحضارتها. وقد قضى شاعرنا فيها أيام صباه التى تمثل أسعد أيام حياته، حيث نشأ بين أقرانه، يلهو ويمرح فى ملاعبها، متمتعًا بجمالها، وجوها الصافى، متأثرًا بعراقتها التاريخية.
ثم انتقل إلى مدينة "زحلة"، ثم إلى مدينة "بيروت" التى أكمل فيها دراسته، حيث التحق هناك بـ "الكلية البطرقية للروم الكاثوليك" التى عنيت باللغة العربية وآدابها، بالإضافة إلى عنايتها باللغة الفرنسية. وقد تخرج منها 1889 فى سن السابعة عشرة، بعد أن حصَّل من العلوم والآداب، واللغتين العربية والفرنسية ما يؤهله لتعيينه مدرسًا بها. وقد عمل بها مدة عام واحد.
ويمكن القول أن هناك العديد من العوامل التى قد أثَّرت فى شخصية شاعرنا، فقد نشأ داخل بيئة عائلية، تجمع بين الأب الذى يتمتع بمكانة عالية وثروة كبيرة، وعناية الأم الحنون المحبة للخير.
فنشأ على رفض الذل والهوان، والتمسك بعروبته، ورفض القيود، وحب التحرر، والبعد عن التقليد، والاندماج فى الحياة الاجتماعية، ورفض حياة الوحدة والعزلة. فقد تربى على قيم ومعانى كان لها أثرها البالغ فى شعره.
وكانت بمثابة البذرة الأولى لتجارب شعورية عبر عنها فى قصائده، التى ظهر فيها نزعته إلى حب الوطن والاعتزاز بقومه وعروبته، وحب الخير، ومشاركة الناس فى قضاياهم الاجتماعية.
كما كان للطبيعة اللبنانية ذات المناظر الخلابة، والحضارة العريقة أثرها البالغ على مَلَكَة الخلق الفنى لديه، وظهور ميله إلى نظم الشعر مبكرًا.
تلقى "مطران" تعليمه الأولى فى مدينة "زحلة"، ولم يكد يتم تعليمه الأولى، حتى ظهر حبه للشعر، ويحدثنا عن ذلك قائلاً: "أحببت الشعر منذ الصبا الباكر، فإنى لم أكد أتم تعليمى الأولى حتى أحضر لى أبى ديوان ابن الفارض، وأغرانى بحفظ قصائده... ولما رحلت إلى "زحلة"... وشعرت بميل شديد إلى الشعر... كنت أقرأ أشعار غيرى، وأحس لقراءتها وحفظها بغبطة ومتعة نفسية فائقة... ثم سافرت إلى بيروت... وفى الكلية نمت ملكتى، وساعدنى أساتذتها وجوها الأدبى على نظم الشعر، فكنت أنظمه حتى قبل أن أتقن النحو والصرف والعروض". وتخرج شاعرنا من "الكلية البطركية" بحصيلة ثقافية فى العلوم، والآداب، واللغتين العربية والفرنسية. وعمل بها، حيث درّس للطلبة العربية والفرنسية، وتعلم هو الإنجليزية والتركية.
كما أسهم فى ثقافة شاعرنا البيئة العلمية المحيطة به المتمثلة فى انتشار المطابع والصحف، التى كانت دائمًا ما تنادى بالإصلاح الداخلى للبلاد، بالإضافة إلى الجمعيات والنوادى الأدبية، وما دار من جدال بين الأدباء والأساتذة حول المباحث اللغوية، فقد أثبت شاعرنا فى ذلك قوة فى المناقشة وإظهار الحجة، الشىء الذى دفعه إلى التمكن من اللغة العربية ونحوها. ويمكن القول إن هذه البيئة قد ساعدت على تنمية مواهبه الإبداعية وتغذيتها. ومن العوامل التى أسهمت فى نمو ثقافته العربية الأصيلة، أستاذه "إبراهيم اليازجى"، حيث قال عنه: "أنا مثلاً تأثرت بالشيخ خليل اليازجى، والشيخ إبراهيم اليازجى فى نشأتى الأولى، وكلاهما كان عالمًا شاعرًا كاتبًا وطنيًّا عربيًّا يحب العروبة، ويدافع عن كرامة العرب، ويخلص للوطن. ولكن تأثرى بالشيخ إبراهيم كان أكبر وأعمق".
ومما ساعد شاعرنا على الاستزادة من الثقافة الأجنبية والتأثر بها، هجرته، فعندما فرَّ من مظالم الحكم التركى، هاجر إلى باريس، فتزود من الآداب الفرنسية بما يمكن أن يغذى روحه، وقد فتن بشعر "ألفريد دى موسيه" الشاعر الرومانسى المتقد المشاعر؛ حيث وجد فى شعره عمق المشاعر، والإحساس الفياض. ولم يفتن "مطران" بهذا الشاعر فحسب، لكنه فتن أيضًا، وهو الكاتب الفنان (شاتوبريان). كما تعلم شاعرنا اللغة الأسبانية آملاً الذهاب إلى "تشيلى" فى أمريكا الجنوبية، وذلك بعد تعرضه عدة مرات للسجن؛ حيث نظم عدة قصائد قد استحث من خلالها أبناء العروبة على الثورة؛ لكنه فضل السفر إلى "مصر"، حيث توجد بها جاليات شامية تعمل فى جميع نواحى الحياة، وخاصة الصحافة. ويمكن القول إن ما تعرض له "مطران" من ملاحقة السلطة التركية بسبب مشاركته فى العمل الوطنى، جعل حياته التى عاشها فى "مصر" تتسم بالحيادية، فيقف موقف الحذر، والحيطة والتحفظ إزاء تقلبات السياسة المصرية، ونزاع الأحزاب وتتابع الأحداث المختلفة.
وقد توزع نشاط "مطران" وأعماله إلى مجالات عدة: فى الصحافة، والتجارة، والمسرح، والترجمة، والتأليف التاريخى، إلا أن شعره، أو (ديوان الخليل) يمثل أهم أعماله التى أنجزها طوال حياته (1872: 1949). وقد جمع هذا الإنتاج وطبع طبعة أولى (1908) فى مجلد واحد. ثم واصل شاعرنا إنتاجه الشعرى، وجمع بأكمله، وأشرف هو على جمعه وطباعته قبل وفاته، وخرج فى أربعة أجزاء كبيرة (1949)، من مطبعة دار الهلال.
شعره
تعود أهمية شاعر القطرين، "خليل مطران" (1872: 1949م)، إلى أنه ينتمى إلى الكلاسيكية الجديدة، وفى ذات الوقت هو مبشر بالرومانسية، التى قد تأثر بها من خلال اطلاعه على الآداب الأوربية وتفهمه لمذاهبها واتجاهاتها؛ حيث إنه قد تأثر ببعض الشعراء الرومانسيين من أمثال (لامرتين) و(هيجو) و(موسيه) و(شيللى)، كما تأثر (بشكسبير)، وبعض الشعراء الفرنسيين الكلاسيكيين من أمثال (راسين) و(كورنى)، بالإضافة إلى تأثره بكبار شعراء العربية، الأمر الذى قد جعل شعره ممثلاً للاتجاهين الأدبيين: (الرومانسية) التى قام بالجزء الأكبر منها فى الفترة الأولى من حياته، و(الكلاسيكية الجديدة) التى أخذ يرتد إليها بعد ذلك...
وشعر "مطران" يمثل نقلة جرئية أدت إلى تجديد الشعر العربى الحديث. حيث كان صاحب رسالة سامية لخدمة اللغة والأدب. وخدمة قومه العرب. واللغة العربية هى إحدى الروابط القوية، بل أقوى الروابط بين الشعوب العربية، الأمر الذى أدى إلى جهاده دفاعًا عن هذه اللغة الجميلة، وصيانة وتقدمًا لها فى مجالات: الشعر، والنثر. وقد كان "مطران" هو مبشر التجديد الأول، الذى حفز إلى الابتكار والتجديد، مسايرة للتطور الحادث من حوله، كما أنه نادى بوحدة القصيدة بجانب المحافظة على القواعد الفنية الأصيلة فى بناء القصيدة العربية. الأمر الذى حتم وجوب أن يمر كل تأريخ لحركة التجديد فى الشعر العربى المعاصر بـ"مطران" أو يبدأ به، كما يمر بحافظ وشوقى. فهو فى طليعة الشعراء المجددين فى الشعر العربى الحديث.
وشعره دليل واضح على ذلك. حيث نظم قصصًا شعرية: اجتماعية وتاريخية وعاطفية. وعبر عن مشاعره العميقة من خلال شعره الوجدانى الذى ظهرت فيه عاطفة الحب عميقة، كما ظهر من خلال حنينه لوطنه وهيامه بملاعب صباه... ونظم فى شعر الرثاء، وجاءت مراثيه صورة حية لحياة الفقيد وصفاته ومآثره. كما نظم شعرًا اجتماعيًا عبر من خلاله عن مشاكل عصره الاجتماعية كالفقر والجهل والمرض. ونظم شعرًا وطنيًا عبر من خلاله عن رؤيته لقضايا عصره السياسية، وثورته على الظلم والاستبداد، وحفز من خلاله الهمم، وألهب المشاعر. وكتب فى "الشعر المنثور" وكان فى طليعة كُتَّاب هذا اللون الأدبى.
ويمكن القول أن رؤية "مطران" العامة للكون والحياة قد ساهمت بعمق فى تحويل اتجاه الشعر العربى بعامة من الكلاسيكية إلى خلق جو شعرى جديد ساهم فى خلق فنى جديد يسمى بالشعر الرومانسى. فقد اتسم شعره بالتجديد فى شكل ومضمون القصيدة العربية، وإثراء اللغة بواسطة بناء أساليب خاصة مميزة. فهو بحق رائد تجديد الشعر العربى الحديث. ويعبر شاعرنا عن حكاية نشره ديوانه الشعرى .. قائلا :
حكاية نشر هذا الديوان
نَظْمْتُ هَذِه الْفِكَرْ ... ذَاتَ شُؤونٍ وَعِبَرْ
وَلاَ أَقُولُ إِنَّنِى ... قَدْ صُغْتَهَا صَوْغَ الدُّرَرْ
أَرْسَلْتُهَا كَمَا أَتَتْ ... بَيْنَ غِيَابٍ وَحَضَرْ
وَلَمْ أَخَلْنِى إِنْ أَمُتْ ... يَسْتَحْيِنِى هَذَا الأَثَرْ
كَظَنِّ كُلِّ مَنْ بَدَا ... لَهُ خَيَالٌ فَشَعَرْ
وَظَنِّ كُلِّ مَنْ رَأَى ... مَوْضِعَ نَثْرٍ فَنَثَرْ
يَحْسَبُ تِيْهًا أَنَّهُ ... غَزَا الخُلُودَ فَانْتَصَرْ
*
وَهْمٌ قَدِيْمٌ ، سَيَّرَنِى ... فِيْهِ عَلَى غَيْرِ السِّيَرْ
مَا أَكْلَفَ الإِنْسَانَ بِالْبَقَا ءِ حَتَّى فِى خَبَرْ
وَمَا أَشَدَّ وُدَّهُ ... لَوْ يُسْتَدَامُ فِى حَجَرْ
كَمْ خَاطِرٍ دَوَّنَهُ ... كَتِبُهُ حِيْنَ خَطَرْ
وَقَالَ هَذَا مُكْسِبِى ... لاَ شَكَّ إِعْجَابَ البَشَرْ
إِذْ يَعْلَمُونَ أَنَّنِى ... صَاحِبُ هَذَا المُبْتَكَرْ
حَتَّى البُكَاءُ وَالسُّرُو رُ حِيْنَ يَبْكِك أَوْ يَسُرّْ
يَخُطُّهُ كَأَنَّهُ ... جَوْعَانُ يَسْتَجْدِى النَّظَرْ
*