هل تعلم يا صديقي، أنني كنت أجد في حديثنا المتقطع التعزية والأنس والطمأنينة، وهل تعلم أني كنت أقول لذاتي: هناك في مشارق الأرض صبية ليست كالصبايا، قد دخلت الهيكل قبل ولادتها، ووقفت في قدس الأقداس، فعرفت السر العلوي الذي اتخذه جبابرة الصباح، ثم اتخذت بلادي بلاداً لها، وقومي قوماً لها.
(تعانقي،
أيتها الملايين من الكائنات،
تعانقي!)
(بيتهوفن)
ما أعجب هؤلاء العرب في مسألة العشق والهوى. يستوي عندهم في ذلك العالم الفهيم والأمير والخفير، فكل واحد كلف في محبوبه، منقلب اليه في إصباحاته وغروبه، يتكتم الهوى تارة، أو يعلنه تارة أخرى، أو بين هذه وتلك ثالثة.
وهم اجترحوا في الحب مذاهب، ربما لم يسبقهم اليها آخرون في سالف أزمنة وحقب، فقالوا إن الأفلاك السماوية والاجرام الكونية، كما البشر، يتعشّق بعضها بعضاً، وقد يقول (عطارد) شعراً في (الزهرة)!
ومن لطائف استنباطاتهم في هذه النكات البديعة، ان النباتات تهيم ببعضها حباً وتدلها. وأن الجمادات من صخر وجلمود، بينها مشاعر ودّ وهجر وعفّة وتبتل، كما البشر.
والورد عند هؤلاء يخجل من الغزل، ويصفر لونه اذا حان وقت الفراق. وان الاشجار وقت مزاجها العاطفي المحتدم تتمدد أغصانها، أو تضطرب سيقانها، إذا ما تذكرت رضا المحبوب، أو عذل عذول، أو دنو مفرق الأحباب ومحطم الألباب.
لكن الانسان في هيامه بالمحبوب، يبقى سيد القول، ودليل القوم، الى مصارع ومطارحات، حوتها بعض كتب العرب، من باب أن الأدب صورة الدنيا من حول الأديب، وأن تسجيل تجاريب الأقوام في مقامات العشق ومستويات الحب، لازم التنفيذ، فيأخذ أهل العقل بما يتلاءم مع مدركات عقلهم، وينفر الذين أمضهم الشوق بعيداً عن العقل الرزين المتزن.
ولابن الأحنف، أبو الفضل العباس، شاعر هارون الرشيد ورفيق غزواته على خراسان وأرمينية، كما يذكر ذلك العلامة الشيخ داوود الانطاكي، منمنمات جميلة تمتدح المحبوب، ليقترب المحب منه كثيراً حتى ينال مأربه، من دون أن يتقول الناس عليه، أو يشهروا به في الأسواق، أو يذيعوا خبره بين العامة والخاصة، فكأنه بذلك يتمسكن حتى يتمكن، ولكن من أجل الحب، لا غيره:
كأنْ لم يكن بيني وبينكم هوىً
ولم يكُ موصولاً بحبلكم حبلي
واني لأستحي لكم من محدث
يحدّث عنكم بالملالة والمطل
وهناك من يباري (ابن الأحنف) في شوقه وحبه. وهذا هو شهاب الدين أحمد بن أبي حجلة، الدمشقي، صاحب المصنفات في الحديث والأدب والفقه، يقول:
اطلب الوصل من أجلي فديتك يا
من زاد قلبي سواداً منه شاماتُ
لكنْ خشيتُ بأن تُبلى بحب رشا
يقتص لي منك، والدنيا مكافاة
لكن ابن أبي حجلة، صاحب الديوان الشهير في الصبابة، لا يبلغ ما اجترحه جميل بن معمر، حين يقول:
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا
سوى أن يقولوا انني لك عاشقُ
نعم! صدق الواشون انتِ حبيبةً
اليّ، وإن لم تصف منك الخلائقُ
وعلى رابية أخرى من تصاريف العشق والانغمار في جمالات المخاليق، خبر من اسمه: مدرك بن علي الشيباني، مع صاحبه عمرو بن يوحنا النصراني البغدادي.
أما مدرك فهو بصري من بادية البصرة ، وفد الى بغداد صغيراً، فتفقه في العربية وآدابها، ورأى في نفسه اعجاباً بالفتى النصراني، حتى أنه قال فيه شعراً، يذكرهُ بمجالس العلم:
بمجالس العلم التي
بلكَ تمّ حُسنُ جموعها
ألا رثيت لمقلة
غرقت بماء دموعها
بيني وبينك حرمة
الله في تضييعها
ويُقال في هذا الخبر، ان مدركاً أطلع رواد مجلس العلم الذي يرتاده على هذا الشعر، فاستحى عمرو من ذلك وانقطع عن ذلك المجلس، فأدى ذلك بمدرك الى لزوم داره، ثم اصابته بوسواس حتى اختلط عقله.
ولما دخل عليه رواد مجلسهما يعودونه، ترجاهم بأن يحسنوا اليه بنظرة من عمرو، فأخذوه الى منزله، فحين سلم عليه عمرو، أغمى على مدرك، ولما أفاق، انشد قصيدة طويلة، منها:
أنا في عافية
إلا من الشوق اليك
أيها العائد، ما بي
منك، لا يخفى عليك
ويقال إن مدركاً، الذي له قصيدة مشهورة تعرف بـ(المزدوجة) بعدما انتهى من انشاده، شهق شهقة، فمات!
وللحب في المحبين، شؤون!
ويقول الشيخ العلامة داوود الانطاكي، تحت فصل: (في ذكر ما جرى من القوة العاشقية والمعشوقية بين الأنفس النباتية) أن النخلة تخاف وتفرح، وتعشق نخلة أخرى.
ونقل عن أحد العرب قوله: زرْع شخص أربع نخلات متقابلات، فحسن ثمرهن سنيناً، ثم أصيبت واحدة فيبست، فلم تحمل المقابلة لها.
وقال أيضاً: (إن شخصاً كان له نخل، وكانت واحدة منه تزهر، وتسقط قبل الانعقاد، وربما تثمر وتسقط قبل البلوغ. فشكى ذلك الى حاذق، فجاء حتى نظرها، فقال: إنها عاشقة. ثم دعا برصاص، فصنع شريطاً، وربطه إلى نخلة أخرى هناك. فحسن ثمرها في تلك السنة، ودامت كذلك، وان صاحب البستان قطع الشريط لينظر، فأسقطت الزهر، فأعاده، فصلحت).
وهكذا الحب، فهو يشمل أصناف الأحجار، فهي مشهورة في بث الأسرار، على حسب قول أرسطو »ان في البحر دابة كالأرنب، يتولد في رأسها حجر، إذا أخذ وأشير به الى اللحم أو الحيوان انجذب حتى يلصق بالحجر!
وروى أيضاً عن (المعلم) أن شخصاً نزل بمغاصة لؤلؤ في جزيرة تدعى (رامهرام) فوجد الشمس إذا اشرقت على أرضها ترتفع منها أشعة، ثم تتراقص احجارها وتضطرب حتى تجتمع، فإذا غربت الشمس افترقت الأحجار!
ويعرف العرب العشاق محبوباتهم من عطرهن، ولو كن على مبعدة فراسخ عدة منهم، وفي ذلك قال (المتنبي):
وتفوحُ من طيب الثناء روائح
لهمُ بكل مكانة تستنشقُ
لكن غير المتنبي، ممن هم ليسوا بشهرته، كانوا مبرزين في ميدانهم، مثل الطُغرائي، مؤيد الدين أبو اسماعيل الحسين بن علي الاصبهاني، فانه يرى في زيارة المحبوبة شفاء لأسقامه، حتى وان أعرضت عنه.
قال أحدهم:
مرضت فأشفقتُ الزيارة عامداً
وما عن قلى أمسكتها لا ولا هجرِ
ولكنني اشفقت من أن أزوركم
فأُبصر آثار الكسوف على البدر
هذه السوانح، بما تضمنته من اضاميم وملح، تلخص أعاجيب الحب والغرام، بين بني البشر، وكذلك بين النباتات والجمادات، لهي قمينة في أن تذكي في النفس الانسانية جذوة المحبة على طريقها الالهي، لترقية النفس البشرية والعلو بها الى الذروة المقصودة من حمل الامانة، واعمار الأرض.